(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب الحيض(1).
صباح الأربعاء : 29 جمادى الأولى1445هـ
باب الحيض وأحكامه
"كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "أخبرني جبريل عليه السلام أن الله عز وجل بعثه إلى أمنا حواء حين دميت فنادت ربها: جاء مني دم لا أعرفه فناداها: لأدمينك وذريتك كما قطعت من الشجرة وأدميتها ولأجعلنه لك كفارة وطهورًا".
قال ابن عباس: "كانت اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب رسول الله ﷺ عن ذلك فأنزل الله -عز وجل-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ) [البقرة: ۲۲۲] الآية فقال رسول الله ﷺ: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه فجاء أُسيد بن حُضير وعبّاد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود يقولون كذا وكذا أفلا نجامعهن، فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله ﷺ فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أنه لم يجد عليهما".
وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: إذا انقطع دم الحائض فهي حائض ما لم تغتسل".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلِّمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته وأحكامها؛ وبيانها على لسان مُبيّنها وإمامها عبده المصطفىٰ سيدنا محمد المتبوِّء في ذروة الكمالات أقصىٰ تمامها؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرم علىٰ المجتبىٰ المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى من اقتدى به واتبعه في جميع شؤونه وأحواله إقدامها وإحجامها؛ وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة الرحمٰن تبارك وتعالىٰ من بريته وآله وصحبه من كل من والاهم وعمل بشرائعهم وأحسن لإئتمامها؛ وعلى ملائكة الله المقربين وجميع عباد الله الصالحين؛ وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد…
فيذكر الشيخ -رضي الله تعالى عنه- بعض الأحاديث المتعلقة بالحيض وأحكامه وهو: الدم الذي جعله الله تبارك وتعالىٰ لحواء وبنات حواء؛ ورتّب عليه أحكامًا تتعلق:
بالعبادة والصلاة وبالمعاشرة وبالصوم؛ ثم لا علاقة له بما سوىٰ ذٰلك؛ فتبقى الأهلية كما هي للمرأة من جهة بقية واجباتها ومهماتها وأخذها وعطائها وبيعها وشرائها وما إلى ذلك..
كحال الرجل عندما يجنُب يتعلق بجنابته:
تحريم صلاةٍ وطواف ومسّ مصحف وحمله ومكث في المسجد وتلاوة القرآن؛ ثم هو كهو مسؤول عن كلامه وعن نظامه ومأذون له بذكر الله وعمل بقية الأعمال الصالحة.
كذلك المرأة الحائض والمرأة النفساء لا يخرجن عن أهليّتهن وعن مكانتهن وعن مخاطبتهن وصحة تصرفاتهن؛ وإنما يتعلق الحيض بأحكام مخصوصة؛ وبذلك عُرِفَ معنىٰ الحيض في لغة العرب: السيلان؛ فما سال يقال له: حاض؛ فيقولون: حاض الوادي يقصدون: سال بالسيل؛ ويقولون: عن السيل: حاض السيل إذا فاض؛ حتى يقولون: عن السَّمُرة: شجرة يسيل منها صمغ أحمر؛ إذا سال صمغها؛ يقولون: حاضت السَّمُرة؛ وهكذا يقولون: عن المرأة إذا سال دمها حاضت المرأة،؛ والمرأة حائض وجاء أيضًا فيه: حائضة والأفصح فيه: حائض.
ويُعرِّفه الأئمة الأربعة بتعاريف متقاربة:
فعُلِم المقصود من كل هذه التعاريف، ومن الواجب على المرأة المسلمة:
ثم إن الفقه في الدين سبب لاستقامة الحال وصفاء البال وصلاح العاقبة والمآل. فقّهنا الله في الدين ورزقنا المتابعة لحبيبه الأمين ﷺ.
وما يخرُج عقِب النَّفْسِ أي: عقِب الولادة؛ يقال له: النِّفاس والحكم واحد؛ إلا أنهم يختلفوا في أقله وأكثره:
فقد يمتد زمن النِّفاس ما لا يمتد زمن الحيض؛ وقد يقل أيضًا عن أقل زمن الحيض.
يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه- سمعت رسول الله ﷺ يقول: "أخبرني جبريل عليه السلام أن الله عز وجل بعثه إلى أمنا حواء حين دمِيَت فنادت ربها: جاء مني دم لا أعرفه.." كانت لا تعرف مثل هذا في أيام عِيشتها في الجنة والسنوات التي قضتها مع أبينا آدم في الجنة، ما كان يأتيهم حيض؛ كما كان لا يأتيهم بول ولا غائط ولا شيء من هٰذه القاذورات، فلما أُهبِطت إلى الأرض جاءها الدم؛ فعجِبت ما هذا؟ "فنادت ربها: جاء مني دم لا أعرفه.." فأرسل إليها جبريل يقول: يقول لك الله: "لأدمينك وذريتك كما قطعت من الشجرة وأدميتها ولأجعلنه لك كفارة وطهورًا".
ويُقال: أنه لما ناداهما -سبحانه وتعالى- (وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَاۤ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ) [الأعراف:22]؛ فزعت فسال لها الدم، فقال الحق: هذا لك وبناتك إلى يوم القيامة.
فرتب الحق -تبارك وتعالى- في تركيبة بنات آدم هٰذا الأمر والشأن ورتَّبٍ عليه أحكاما، ففي الطهارة وفي الحيض تذْكرة لنا ببداية أمرنا ونشأتنا؛ حتى قالوا عن أعضاء الوضوء التي أُمرنا بتغسيلها لتنقيتها عن الذنوب وعن العيوب أن:
فصارت هٰذه أعضاء الوضوء: الوجه واليدين والرأس والقدمين، نُطهرها ونغسلها تنقية لها عن الذنوب والمعاصي، وتذْكرة لنا بأول أمرنا ونشأتنا وأن موطننا الأصل هو: الجنة؛ وأننا مُعارون علىٰ ظهر الأرض لمدة معلومة معينة نُختبر فيها بمنهج ربنا وشريعته؛ والعامل بها والقائم بحقها يرجع إلى: موطنه الأصيل؛ وهو: الجنة، والمُخالف المُبدل المُناقض للشريعة يرجع إلى: حبس شديد وعذاب أليم في نار جهنم. أجارنا الله وأعاذنا من ذلك.
"قال ابن عباس: "كانت اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوهن في البيوت.." يعني: ما يجتمعون وإياهم في غرفة واحدة؛ الغرفة إذا فيها الحائض ما يدخلها الرجل، "فسأل أصحاب النبي ﷺ عن ذلك فأنزل الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)" [البقرة:222].
فحرَّم: المعاشرة والجماع والاستمتاع بما بين السرة والركبة على من انتهى إليه اجتهاد كثير من فقهاء الأمة.
"فقال لهم ﷺ : اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود، وكان الأوس والخزرج متأثرين بأفعال اليهود، قبل مجيء النبي ﷺ، ويقلدونهم في أحوالهم لكونهم أهل كتاب، ولهم اتصال بآثار أنبياء من قبل، ولما بُعث النبي ﷺ المنزل الوحي عليه، رجَّعوا بأمورهم إليه، وكانوا يصدرون عن رأيه، ولما سألوا عن المسألة وأنزل الله فيها الحكم، انتشر ذلك في مجتمع المدينة وغضب اليهود لذلك، "فقالوا: ما يريد هذا.." -الرجل- "أن يدع من أمرنا شيئًا إلّا خالفنا فيه".
وكان ﷺ يحب مخالفتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء، حتى لا يُخلِّطوا على الأمة أمر دينهم، ولا شريعة ربهم، فإنهم يخلطون الصدق بالكذب، ويخلطون المأثور عن الأنبياء بالمُحرَّف المُبدَّل المُغيَّر المُفترى المُخترع من عندهم، فأقام ﷺ سياجًا وحاجزًا بيننا وبين أن نغتر بهم وبكذبهم.
وبذلك عُوقبت الأمة في أحوالها بمن انتمى إليهم أو ساعدهم، مما اتصل بهم من الكفار، أو ظهر بمظهرهم من الكفار، كمثل هؤلاء الصهاينة الذين في زماننا، وأنّه كلما خُدع فريق من الأمة، من شعوبها أو حكَّامها بهم، وقَبِلوا ما عندهم، خلَّطوا الأمر عليهم، كما قال تعال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران: 100]، يورِدونكم مورد الكفر، فسلطَّهم على الأمة، يظلمونهم ويأخذون ثرواتهم، ويستثمرون أموالهم بينهم، ويفتنون بينهم، ويخالفون ويسومونهم سوء العذاب، حتى إذا خرجوا عن طاعتهم والإنقياد لهم ورجعوا إلى الإنقياد لربهم، أعزهم الله تبارك وتعالى، وأذل عدوهم، وكُلُّ من خضع لأعداء الله، واتبع ما قالوا هانَ في الدنيا والآخرة، وأُذلَّ بحسب ما يتَّبعهم لأجل تلك المصالح التي هي العِجْلَ للأمة، وعِجل أمة الدينار والدرهم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الأعراف : 152]، ولكن مهما رجع المسلمون شعوبا أو حكاما إلى الرب، وعظَّموا أمره، أعزهم بالإيمان به وبطاعته،ولا مذل لمن أعز ولا معز لمن أذل، فإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
ولما فَهِم الصحابة من ذلك: مشروعية مخالفة أهل الكتاب للبعد عنهم، طرأ على خاطر سيدنا أُسيد بن حُضير وسيدنا عبّاد بن بِشر مبالغة، وقالوا: ما دام اليهود اغتاظوا لما خالفناهم، وصرنا نأكل مع الحائض ونشرب معها وندخل في غرفة واحدة وننام في غرفة واحدة؛ سنغيظهم أكثر، وجاءوا إلى النبي ﷺ، "فقالا: يا رسول الله إن اليهود يقولون كذا وكذا أفلا نجامعهن -في ايام الحيض-، فتغير وجه رسول الله ﷺ"
لأن ذلك محرم منهي عنه، (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ) كما قال الله تبارك وتعالى، "فتغير وجه رسول الله ﷺ.."، وظهر الأثر على وجهه حتى خافوه؛ "حتى ظننا أن قد وجد عليهما.." أي: غضب عليهم وتأثر منهما، وإنما تأثر من خلط الأوراق وتجاوز الحد في الأمر، وأوجب الوقوف عند الحدود في الشرع، فلما خرجا وهما خائفيْن، خائفيْن أن الله تعالى يغضب عليهما لغضب نبيه، ويظنا أن النبي غضب عليهما لما عرض هذا الاقتراح غير المناسب، فلما خرجا جاءت "هدية" لرسول الله ﷺ "لبن،… فأرسل في آثارهما،" فقال ردوا إليه عبّاد بن بشر وأُُسيد بن حُضير ردوهما، وسقاهم اللبن، فذهب ما في صدريهما، وعرفا أنه لم يجد عليهما، وإنما غضب من أجل الحكم في الشرع ولم يسمح بتجاوزه ولا تعدي حدوده، وأن يبقى الأمر على ما هو عليه، يجوز مؤاكلة الحائض ومشاربتها، وأن يكون معها في الغرفة الواحدة، وكما قال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فثبت الأمر على ذلك بتعليمه ﷺ.
"وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: إذا انقطع دم الحائض فهي حائض ما لم تغتسل"، يعني: ما يُباح لها شيء مما حرم عليها بسبب الحائض حتى تغتسل، وإن كان الدم قد انقطع، لا يجوز لها تصلي، ولا يجوز تمسك المصحف ولا تحمله، ولا يجوز تقرأ القرآن، ولا يجوز أن يجامعها زوجها حتى تغتسل، فإذا اغتسلت خرجت من حكم الحيض، يقول سيدنا عمر: "إذا انقطع دم الحائض فهي حائض ما لم تغتسل" والله أعلم.
رزقنا الله الإستقامة، وفقهنا في الدين، وأكرمنا به أعظم الكرامة، وحشرنا في زمرة إمام أهل الإمامة، حبيب الله مبعوثه من تهامه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن أحسن الائتمام به، وجعلنا الله من المُقتدين المُهتدين، والمُصطفين المحبوبين في ألطاف وعوافي ظواهر وخوافي، وأصلح شؤون أمته، وفرج كروبهم، ودفع البلاء عنهم، وحول أحوالهم إلى أحسن الأحوال.
بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد.
07 جمادى الآخر 1445