(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر: باب جامعُ التَّرْغيبِ في الصلاةِ.
فجر الاثنين 1 ربيع الثاني 1442هـ.
باب جَامِعِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّلاَةِ
487- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِه، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ". قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكَاةَ. فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ".
488- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ، إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ، فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ".
الحمدُ لله الذي أكرمنا بشريعته وأحكامه، وبيان دينه على لسان حبيبه المصطفى مُحمَّد صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أفضل صلوات الله وسلامه، وعلى من اقتدى به واتبعه وانتظم في نظامه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين معادن فضل الله وإكرامه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في المُوطأ هذه الأحاديث المتعلقة بالصلاة، في "باب جَامِعِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّلاَةِ". وأورد لنا حديث "طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ" -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- من السّابقين الأوّلين، شَهِدَ المشاهد مع نبينا الأمين ﷺ، وأسهم له ببدر لأنّه بعثه مع سعيد بن زيد ليتعرَّف خبر العير لأبي سُفيان، فعاد يوم اللقاء ببدر. وسيدنا طلحة هو الذي وقى النبي ﷺ يوم أُحد بيده وجُرح في ذلك أربع وعشرون جراحة. وكان سيدنا أبو بكر إذا ذكر يوم أُحد يقول: ذاك اليوم كله لطلحة. ويقول:
○ سماني ﷺ يوم أحد: طلحةَ الخير.
○ ويوم تجهيز جيش العُسْرة سماه: طلحة الفيّاض.
○ وسماه يوم حُنين: طلحة الجود.
يقول: "جَاءَ رَجُلٌ"، يقال هو ضمام بن ثعلبة، وقيل غيره. "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ"؛ ما ارتفع من أرض تَهامة الحِجاز إلى العراق، يُقال له: نجد. الأرض الواقعة بين مكة وبين العراق؛ بين تهامة الحجاز ونجده. والتهايم: الأغوار وما انخفض من الأرض. والنجد: ما علا من الجبال وما علا من الأرض.
هذا الرجل قال: "يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِه"؛ كلمات وصوت مرتفع متكرر، ما يُفهم منه؛ دوّي، "وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا"، إلى أن قرب إلى النبي ﷺ؛ يعني ففهمنا كلامه، "فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ"؛ أركانه، وشرائعه، وفرائضه، وواجباته. ومن المعلوم مكان الشهادتين في الإسلام فلم يذكرهما الراوي، للعلم بهما. "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِﷺ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ"؛ يعني فرض الله على عباده إقامة خمس صلوات في خلال اليوم والليلة، "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ".
فقَالَ الرجل السائل: "هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟" هل يجب عليَّ؛ يلزم عليَّ، يفترض عليَّ شي غيرهن؟ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". أصله تتطوع، فتُحذف إحدى التائين، فيقال: تطّوع، كما هو القاعدة في الفعل إذا ابتدأ بتائين، تُحذف إحداهما في الفعل المضارع. "إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ"؛ يعني: أن تتبرّع وترغب في العبادة. والذين قالوا بوجوب إكمال التطوع؛ قالوا معنى "إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ" يعني: أن تشرع في التطوع. فإذا شرعت فيه وَجَب عليك أن تكمله له، على القول: بوجوب إكمال التطوع، إذا دخل فيه الإنسان. وهذا متفق عليه فيما يتعلّق بالحج والعمرة، بخلاف غيرهما من العبادات.
قال: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ".
فالجمهور على أنَّ الواجب إنما هو الصلوات الخمس. رزقنا الله حُسن أدائها وإقامتها على الوجه المَرضيّ لديه.
"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ". قال السائل: "هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟" صوم غير رمضان؟ "قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". ففيه أنه لا يلزم بحكم الإسلام صوم شيء غير صوم رمضان، وهذا من الأمور المتفق عليها بين أهل العلم. "قَالَ وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكَاةَ. فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ". ولم يذكر الحج، إما لأنه لم يسأل عنه، أو لم ينقله الراوي، أو لأنه لم يكن قد فُرِض بعد. "قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ" أي: تولّى ومضى "وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا" الذي ذكرت لي فيما فُرِض عليَّ "وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ" شيئًا. في رواية عند البخاري: لا أتطوع شيئًا ولا أنقُص مما فرض الله عليَّ شيئًا. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَفْلَحَ الرَّجُلُ .."؛ أيّ فاز وسَعِد ".. إِنْ صَدَقَ" فيما ذكره من المحافظة على الفرائض.
جاءنا في الحديث عنه ﷺ أيضًا أنه: "أنَّ أعْرابِيًّا جاءَ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ، فقالَ: يا رَسولِ اللهِ، دُلَّنِي علَى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ، وتُؤَدِّي الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومُ رَمَضانَ، قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا أزِيدُ علَى هذا شيئًا أبَدًا، ولا أنْقُصُ منه، فَلَمَّا ولَّى قالَ النبيُّ ﷺ: مَن سَرَّهُ أنَّ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هذا." عليه رضوان الله. وفي هذا الحديث قال له: "أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ". وجاء في رواية عند الإمام مُسلم: "أفلح وأبيه إن صدق". إما أنَّ مجيء الحديث كان قبل النهي عن الحلف بالآباء، أو أنها كلمة جارية على لسان العرب، لا يُقصد بها الحلف، أو تأويله على إضمار ربّ أبيه.
فهكذا بيّنَ ﷺ الفرض في الصلاة، وفي الزكاة، وفي الصوم، وأَن إقامة الفرائض هو الأساس في هذا الدِّين. وأن النفل بعد ذلك، والتطوع علامة الصدق، وعلامة المحبة للرب، وسبب الفوز بالقرب الخاص، ونيل المحبة من الرحمن -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه الله. وأشرنا إلى الخلاف فيما إذا قد دخل في شيء من العبادات، فلا يجوز له أن يقطعه من النوافل.
التطوع: هو التبرع بما لا يلزم قال تعالى: (...وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة:158]. فيُذكرُ التطوع ويقصدُ به:
○ اسمٌ لما شُرع زيادة على الفرائض والواجبات.
○ أو ما كانٌ مخصوص بطاعة غير واجبة.
○ أو الفعل المطلوب طلبًا غير جازم.
فهذا المراد بالتطوع. وهكذا يُطلق أهل الأصول نفل التطوع؛ ما عدا الفرائض والواجبات والسُّنن، فيُطلقون عليها التطوع.
وبعض المالكية كالقاضي حسين من الشافعية، يقولون عن التطوع: ما لم يرد فيه نفلٌ بخصوصه، بل يُنشئه الإنسان ابتداءً، والخلاف أشبه باللفظِي في معنى التطوع. والمُراد: ما لم يكن فرضًا ولا واجبًا فهو مُتطوعٌ به. وبذلك قال الشافعية وغيرهم: أن لفظَ التَطوع والمُتَطوع به، والمرغّب فيه، والمُستحب، والحَسَن، النفل، والزيادة، والسُّنة؛ بمعنى واحد: وهو ما يُثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه.
قال: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ"؛ يعني: مُؤخر عنقه، قفا كل شيء: مؤخره، "إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ، فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ". وهكذا جاء في روايتي الإمام البخاري والإمام مُسلم، عن شأن هذا الاستيقاظ من النوم، وعمل الشيطان مع الإنسان عندما ينام. ومن جُملة ما جعله الله من ضرورة حياة الإنسان في الدنيا، أن ينام. ولا كذلك ما يُرَكْب الله عليه أجسادنا، في إعادتها في القيامة، فما تتهيأ للنوم، ولا تحتاج إلى النوم. ولكن ما بين جنةٍ لا نوم فيها؛ من شدة لذة النعيم. وما بين نارٍ لا نوم فيها؛ من شدة ألم الجحيم. -والعياذ بالله تبارك وتعالى- أعاذنا الله من ذلك ومن كل سوء.
ثم إن التركيبة التي يُنشأ الله عليها أجسامنا في القيامة، تركيبةٌ مُنشأة إنشاءً آخر، لا يتعلق بهضم طعام، ولا شيءٍ من فضلاته، ولا شيءٍ من التركيبة التي ركبنا عليها في هذه الدنيا. ثم يُكمل تغيير الخلق، عند الدخول إلى الجنة، أو إلى النار؛ فيُنشئهم خلقًا آخر.
○ هؤلاء يتهيؤون للجنة؛ فتطول أجسادهم على هيئة أبيهم آدم، ستين ذراعًا في عرض سبعة أذرع.
○ وأولئك من أجل أن يكتووا بنار الجحيم، فتعظم أجسامهم، حتى يكون ضرس الكافر كجبل أُحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث. لا إله إلا الله! سبحان المكوّن الخالق القدير جلَّ جلاله. ويُهيؤهم للعذاب (..كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ)[النساء:56]. اللَّهم أجرنا من النار.
ثم إنّ هذا النوم ما كان منه من الضرورة، ثم من الحاجة، فيمكن أن يُتخذ عُدةً وزادًا لحُسن أداء المُهمات المكلف بها المؤمن على ظهر الأرض في الحياة الدُّنيا. وما زاد على قدر الضرورة، وما زاد على قدر الحاجة، فلا يُمكن التقرّب به إلى الحق، فيكون من جُملة إضاعة العُمر، وتفويت ساعاتٍ منه يُمكن أن يكسب فيها الدرجات، حتى ينحطَ حالُ الإنسان، ويصير طول يقظته مُكتسبًا للسيئات، شديد الغفلة؛ فيصير نومه خيرٌ له من يقظته. وهذا حال السقطة من بني آدم، السفلة، فموت أحدهم خيرٌ له من حياته؛ ولهذا يكون نومه أسلم له من يقظته.
وأما عامة المؤمنين، فإنهم يكتسبون في يقظتهم أنواعًا من الحسنات والطاعات وأداءً للمُهمات. كما أن أرباب الغفلة بوجهٍ آخر يكتسبون في يقظتهم مالًا، أو جاهًا، أو سُمعةً، أو نيل مكانةٍ بين الناس، إلى غير ذلك من الأغراض التافهة؛ ولأجلها يُقلّلون نومهم ويسهرون، حتى يصيرون حُجّةً على من يطلب الدار الآخرة، وعلى من يطلب الدرجات الرفيعة. ويرى هؤلاء طَلبة الزائل الحقير الفاني الذي سينقطع عنهم وينقطعون عنه بيقين في طلبه، كيف سهِروا وتعِبوا وقللوا نومهم!! وهذا يَدَّعي طلب الدرجات العُلا والمجد الأسنى الباقي، ثم ينام ويُكثر المنام ولا يُبالي! فيكون هؤلاء حُجة عليه.. أين صدقُك؟! إنَّ طلبة الحقير الفاني سهروا، وأنت تطلب العزيز الباقي ولا تسهر؟! ولا تأخذ نصيبك من تقليل النوم. ومن جملة ذلك أن يحاول الشيطان أن يتّخذ من المنام شيئًا من إفساد الإنسان، أو تقليل جِدِهِ وجُهدِه في الحياة ومكسبهِ فيها، فيعقد هذه العقد الثلاث. فإذا جاء ينام أيّ إنسان، تَبادرَه مَلكْ وشيطان. يقول المَلكْ: اختُم بِخير. يَقول الشيطان: اختم بشر. فأيهما ذهبَ به ذهبْ إليه، إما للخير وإما للشر. فيكون خاتمة نياته، ومقاصده، وإرادته، عند النوم، إما خير وإما شرْ.
ثم يعقد هذا الشيطان إما عُقدًا حقيقية، كما يعقد الساحر من سحره، وإما المراد به أمر معنوي؛ بيّن ﷺ بعض ما ينطوي عليه، ويترتب فيه، بقوله: "يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ". "عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ"؛ أي: مؤخرِ عُنُقه، "إِذَا هُوَ نَامَ"، وهل يختص هذا بنوم الليل؟ وإن جاء الحديث فيه، في الحديث إشارة إلى النوم الليل، ولكن مع ذلك لا يبعد أن يكون في نوم النهار مثله؛ لأن المتربّص بالإنسان من إبليس وجنده يتربّصون به في أي وقت كان من ليل أو نهار، يحبون أن يُكسِلوه عن الخير، ويحبون أن يُثَقلوا عليه الطاعة والعبادة. "ثَلاَثَ عُقَدٍ"؛ لا إله إلا الله! عُقد كسل؛ كأن يُشَدّ عليه شد يريد يُثقله عن القيام. تنحلّ العقد الثلاثة:
وقال بعض أهل الخير والصالحين والعُلماء: إني جربت تلك العُقد وشاهدت ضربها! لعلمي أنها من الشيطان ورأيته يَعقد عليها. كما يذكر بعض أصحاب الحبيب محمد الهدار، وكان قد قضى فترة في بعض العُزَب، مع إخوانه في السودان وغيرها، قال: كنا نُحِس إذا نمنا عن القيام في الفجر، نحس ببول الشيطان، إحساسًا يملأ الأذن، ويخرج إلى الرقبة! قالوا: في البداية ظننا أن أحًد من بيننا البين، ثم تأكدنا أنه ما حصل شيء إلا أنه بول الشيطان! إذا طلع الفجر، ولم يستيقظ ولم يصلي؛ بال قرينه -الشيطان-، ويجعل أذنه مبولة، ويسلط عليه ويتمكّن من أن يبول في أذنه التي أبت أن تستمع: الصلاة خير من النوم، وأبَت أن تستمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فيبول فيها. -والعياذ بالله تعالى- ولمَّا كان الأمر في أصله معنوي؛
"يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَة"، وفي رواية: "مَكَانَ كُلِّ عُقْدٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فنم"، وفي رواية "فَارْقُدْ"، يعني: باقي ليل طويل، لا تقوم، لا تقوم ما هوَ وقت قيام. "فَإِنِ اسْتَيْقَظَ" من نومه، "فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقَدُهُ" واحدة من الثلاث. فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقَدُهُ" ثانية. "فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ" العقدة الأخيرة خلاص. ومن هنا قال بعضهم: في استحباب افتتاح التهجد بركعتين خفيفتين، لأن يَكْمُل إنحلال العقد؛ يباشر؛ يكمِّل الركعتين بسرعة بحيث تكون خفيفتين، من أجل يكمُل حلُّ العقد. ثم يطوّل وفي هذا يُسَنُّ افتتاح التهجد بركعتين خفيفتين:
1- يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة، (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) [النساء:64]، استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ …) [سورة الكافرون].
2- وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110]، استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله، (قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ..) [سورة الإخلاص].
يقتصر على ذلك ويُخفّفهما؛ فتنحلّ العقد كلها. انحلت العُقدة، وانحلت العُقد؛ "فَأَصْبَحَ" أي: دخل في الصباح "نَشِيطاً" سرورًا بما وفقه الله له وزهوًا لنفسه بطاعة الله. "طَيِّبَ النَّفْسِ" ماشالله! لما جعل الله في نفسه من هذا التقرُّب والعمل الصالح. ففي الصلاة بالليل سرّ في تطييب النفس. (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6]. وفي قراءة: (..أشد وطاءً وأقوم قيلًا). يواطئ فيها القلب اللسان.
"وَإِلاَّ" بأن أطاع الشيطان ونام حتى فاته الصبح، وطلع الفجر "أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ"؛ محزون القلب، كثير الهم؛ "كَسْلاَنَ"، ما له همة في الطاعة وفي العبادة كما يشهده الناس كذلك. قال ابن عبد البر: هذا الذنب يختصّ بمن لا يقوم إلى صلاته وضيعها، أمّا من كانت عادته القيام فغلبته عيناه، فيُكتب له أجره ونومه عليه صدقة.
وما جاء أن قارئ آية الكرسي لا يقربه شيطان؛ فإنه لا يقربه بتسلّطٍ عليه في أشياءٍ وأمور، أما في مِثل العَقد وما تعلق به، فيمكن أن يكون، وأن يتمّ منه، ولكن ما يقربه قرب تسلّط عليه ولعب عليه بواسطة آية الكرسي؛ لا يقربه الشيطان، فهي من المتأكد قراءتها عند المنام، وعند كل دخول إلى البيت، وبعد كلِ صلاة.
○ وإن المواظب على آية الكرسي بعد كل صلاة؛ لا يكون بينه وبين الجنة إلا أن يموت.
○ وأن المواظب على قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة؛ يكون في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى.
○ وأن المواظب على آية الكرسي بعد كل صلاة؛ يتولّى الرحمن قبض روحه بيده، رأفةً ورحمةً به عند الموت.
فهذه مكاسب لمن يحافظ على قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة.
فأصحاب البيوت التي يُقرأ أصحابها عند الدخول إليها آية الكرسي وثلاث من سورة الإخلاص والمعوذتين؛ يعيشون في ألفة، وفِي تفاهم، وفِي رفق، ويُبعد عنهم الشيطان، ويوسع لهم في الرزق.
و"إذا أراد الله بأهل بيتٍ خيرًا، أدخل عليهم الرفق". وإذا أراد بهم شرًا، أدخل عليهم العنف؛ جالسين في الدار حتى اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، وكأنهم كم جبهات.. ويتقاضموا، كل ساعة واحد يرفع صوته على الثاني، لا حول ولا قوة الا بالله! هذه عيشة غير طيبة. و"إذا أراد الله بأهل بيتٍ خيرًا، أدخل عليهم الرفق"؛ يتكلمون بالهدوء وبالمفاهمة، وبالصدق، وكلٍ يرفق بالثاني، فيعيشون عيشة طيبة. ويعينهم على ذلك: قراءة البسملة عند الدخول، وآية الكرسي، وثلاث من الإخلاص، والمعوذتين.
وقال أن من عجز عن القيام في الصلاة، يصلي وهو قاعد، والآن جاءوا بكرسي وقعد فيه، أحد قال لك أنه الجالس على الكرسي قائم؟ الجالس على الكرسي، جالس، قاعد مكانه، وكله قاعد، ولا يحتاج على الجلوس على كرسي غيره، إلا إن كان يعجز عن الركوع والسجود؛ فيجعل الركوع والسجود من على الكرسي نعم، ويقوم بقية الوقت وهو قائم. فإن قعد على الأرض لم يقم أصلًا، فهذا نعم من أجل تحقيق القيام، جعل له كرسي. وأما إن كان عاجز أصلًا إن صلى قاعد على الأرض، أو صلى قاعد على الكرسي، لا يقوم في الأثناء ولا يُتم ركوع، ولا سجود، خلاص لا فرق بين الكرسي والأرض، والأرض أفضل. إلا أن الناس جاءت لهم آلام وأوجاع وأتعاب صاروا يصعب على بعضهم الجلوس على الأرض، هذا يراعي صحته ويراعي حاله. وما كان يُذكر في عامة مساجد المسلمين كراسي ولا غيرها! ونادرًا من يصلي قاعد، حتى من شيبتهم وكبارهم نادر من تجده يصلي قاعد، خصوصًا في الفرائض، يصلون من قيام كلهم الناس. ولما جاء عصر التطور والتقدم، صاروا حتى الشباب يجلسون على الكراسي، ويصلون على الكراسي، إنا لله وإنا إليه راجعون! فصارت مظاهر من مظاهر تقدّم الصحة في العصر الحديث! وأما العصر القديم، الناس صغار كبار كلهم يصلون، يجلسون على الأرض، ويقومون للصلاة من قيام الذي في التسعين سنة، والذي في الخمس والتسعين، والذي في الثمانين، ولا أحد يئن، ولا يتطلب كُرسي يجلس عليه. كانوا هكذا، ما كانوا على المعلّبات والكيماويات والخربطات حقهم! ولا على الكهربائيات والمصاعد، وكانوا وعلى حركتهم وأكلهم الطبيعي؛ وصحتهم أحسن غالبًا.
أصلح الله أمور المسلمين، صَرَف الله شرّ المؤذيين، ورَزَقنا الإيمان واليقين والإخلاص والصدق والتوفيق، وألحقنا بخير فريق، وسقانا من أحلى رحيق بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
01 ربيع الثاني 1442