(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، متابعة باب جامع الصلاة.
فجر السبت 21 ربيع الأول 1442هـ.
متابعة باب جَامِعِ الصَّلاَةِ
479- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَلْقِياً فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى.
480- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رضى الله عنهما، كَانَا يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ.
481- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لإِنْسَانٍ: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَل، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِى، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاَةَ، وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ، يُبَدُّونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان، قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَة، وَيَقْصُرُونَ الصَّلاَةَ، يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ.
الحمدُ لله مُكْرِمنا ببيان الأحكام على لسان خير الأنام، الذي بعثه إلينا فهدانا إلى الصّراط المُستقيم والمسلك القويم. اللّهم صلّ أفضل الصّلوات والتّسليم على عبدك الهادي إليك سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آله وأصحابه وأهل محبته واقترابه، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين المُبشّرين به، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المُقربين وجميع عبادك الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
ويُحدثنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- عن أحاديث مُتعلقة بالصلاة وبالمَسجد، وأدرج هذا الحديث الذي سَمِعنا تلاوته في بيان هيئةٍ للاسترخاء أو الاستراحة؛ وهي هيئة الاستلقاء. والاستلقاء على الظَّهر -وعلى القفا- يكون لأجل الاستراحة. فإنّه إذا عَزَم على النّوم، إنّما السُنّة أنْ يضطجع على الجَنب الأيمن، ثُمَّ لا بأس أنْ يستلقي على قفاه أو أنْ يضطجع على الجانب الأيسر لأجل الاستراحة، لا لأجل النّوم. وفي هذا بيان دقة الشّريعة في تنظيم حركة ابن آدم في الحياة، حتى هيئات جلوسه، وهيئات منامه، وحركات رجليه، ضبطتها شريعة ربّه. فما بالَه يلوي إلى أي نظام في الوجود أو في العالم، غير نظام الإله الذي خلقه وخلق العالم، جلّ جلالُه. ولا أصلَح له، ولا أنجح مِنْ منهج مولاه جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فيه تبيين السُنَّة، شأن هذا الاستلقاء والاضطجاع. وقد يكون المريض مُحتاجًا إليه، فيَستلقي على ظهره حتى يُصلي. كذلك إذا لم يستطع أنْ يضطجع على شِقّه، فيُصلي مُستلقيًا مُستقبل القِبْلة بأخمصيه، ويُسنُّ رفع رأسه نحو القِبْلة -بمخدة ووسادة ونحوها-، فيستقبل القِبْلة بوجهه وبأخمصيه في أثناء الصَّلاة، فرضًا كانت أو نفلًا. فعندنا هيئات الاستراحة أو النّوم:
○ إما على الجانب الأيمن، وهو السُنَّة عند النّوم.
○ وإما على الجانب الأيسر وعلى الظَّهر، -على القفا بالاستلقاء-، وهو مُباح ويكون لأجل الاستراحة، لا لأجل النَّوم. وإلا فهو خلاف الأولى إذا نام على ذلك.
○ وأنْ يضع بطنه على الأرض، وهذا مكروه. في أي وقت أنْ يستلقي على الأرض، فيضع بطنه وصدره على الأرض؛ فهذا مكروه. فلا ينبغي أنْ يفعله لغير حاجةٍ ولغير ضرورة. فلغير ضرورة، ولغير الحاجة؛ نهى ﷺ أنْ ينام الرَّجُل على بطنه ومثله المرأة، فلا ينامون على بطونهم لغير ضرورة ولغير حاجة.
حتى ذكر أهل الفقه: أنَّه يجوز لمَن رأى نائمًا على بطنه أنْ يوقظه، ليُعدّل هيئته. وقالوا: مَنْ كان نائمًا فلا يجوز إيقاظه ولا إزعاجه مِنْ نومه، ولو برفع الصوت بقراءة القُرآن، إلا:
○ أنْ يكون نائمًا على بطنه.
○ أو نائمًا بعد الصُّبح؛ قبل طُلوع الشَّمس.
فيجوز أنْ يُزعج مِن نومه لأنّه فاعلًا مكروهًا؛ فلأجل أنْ يتغير عن هيئته بالنسبة للمُستلقي على بطنه، ولأجل أنْ يَحذَر النّوم في هذه السّاعة؛ مَنْ ينام بين صلاة الصُّبح وطُلوع الشَّمس، وهي الصَّبحَة التي تمنع الرزق؛ أيّ: تمنع الرزق المبارك، فإنَّه وقت تقسيم الأرزاق. فالذاكِرون لله في ذلك الوقت، يُيسر لهم مِنَ الرزق الحلال الطيب ما به يقضون مُهمتهم في الحياة. والذين ينامون في هذا الوقت، يَقصُر عليهم الرزق الطّيب المُبارك، وقد تنْفتح عليهم أبواب رزق غير مبارك فيه.
وفي مسألة وضع إحدى الرِّجلين على الأُخرى للمُستلقي على قفاه لأجل الاستراحة، وهو الوارد في الحديث: "أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَلْقِياً فِي الْمَسْجِدِ"، وذلك في غير أوقات اجتماع النَّاس للصلاة ولا لغيرها، وفي وقت خُلو المسجد وفضائه. ومِنَ المعلوم أنَّه ﷺ في المجالس لا يمُد رجليه حتى وهو جالس، فضلًا على أنْ يكون مُستلقيًا. فلا يمُد رجليه ﷺ بين جليسه في مجلسه، في هديه وسُنَّته وحيائه ووقاره وأدبه. فيُحمَل أنَّه جاء إلى المسجد في الوقت الذي يكون المسجد فيه خاليًا -غير أوقات اجتماع النَّاس للصلاة و لغيرها مِنَ المُناسبات-، فرَأَى "رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَلْقِياً." أورد الإمام مالك هذا في وضع إحدى رجليه على الأخرى، لِمَا جاء مِنَ النهي عن ذلك.
ولكنه أيضًا مُعارضٌ بحديث آخر، فيه نهيه ﷺ عن وضع الرِّجل إحداهما على الأُخرى للمُستلقي.
بأنْ يكون له إزارٌ ضيق إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى، بقيت فُرجة يُرى منها الفخذ أو العورة، فهو حينئذٍ في حقه مكروه والنّهي. ومَنْ كان ذا إزارٍ واسع أو على سراويل تحت الإزار ونحوه، فيأمن انكشاف العورة، فلا بأس بأنْ يضع إحدى الرِّجلين على الأُخرى. إذًا فيُحمل على حالين:
ودعوى الخصوصية لا يكون بالاحتمال، وإنَّما يثبت بالدليل، ولا دليل على الخُصوصية فيه، فدَّل على أنَّه تشريعٌ، كما هو الأصل في أفعاله وأقواله ﷺ.
فمنهم مَنْ مال بعد ذلك إلى النّسخ، ومنهم مَنْ جعل هذا في حال، وهذا في حال:
وفيه ضبط الإنسان لحركته ووضع أعضائه وهيئتها، والمُحافظة أيضًا على السّتر والحياء. وجاء النّهي أيضًا في صحيح مُسلم، وعند أحمد، وأبي داوود، والتِّرمذي. كما جاء في صحيح مُسلم هذا الحديث. وجاءت الرواية الأُخرى: أنَّ رسول الله ﷺ نهى أنْ يضع الرَّجُل إحدى رجليه على الأُخرى وهو مُستلقٍ. عَلِمنا ما قال العُلماء في ذلك، وأنَّ أعدل الأقوال:
والجمع: بأنْ يُحمل الكراهة، على مَنْ يخاف انكشاف عورته. والجَواز والإباحة، لمَن أمِن ذلك.
ثُمَّ بعد ذلك ذكر لنا: أنَّ مِنْ بعد رسول الله ﷺ من يفعل ذلك، وفيه ردٌّ على مَنْ ادّعى الخُصوصية، وردٌّ أيضًا على مَنْ قال بالنسخ. أثر سيِّدنا " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رضى الله عنهما، كَانَا يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ."؛ فهذا دليل على أنَّه لا خصوصية فيه، وأنَّه يُمكن احتمال النَّسخ ولكن الجمع بين الرِّوايتين أولى. "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رضى الله عنهما، كَانَا يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ". وهذا أيضًا قد يستأنس به مَن رأى النسخ؛ من رأى أنَّ نسخ النّهي بفعله ﷺ. وقُلنا أنَّ الجمع بين الرِّوايتين ممكنة فذلك أولى. يقول مَنْ يميل إلى النّسخ، أنَّه اُحتُمِل أنْ يكون أحد الأمرين قد نُسِخ، فلمّا وجدنا أبا بكر، وعُمَر، وعُثمان -وهم الخُلفاء الرَّاشدون-، على قُربهم مِنْ رسول الله وعِلمُهم بأمره، قد فعلوا ذلك بعده بحضرة أصحابه. وفيهم الذي حدّث بالحديث، فلم يُنكر على ذلك أحدٌ منهم. ثُمَّ فعله ابن مسعود، وابن عُمَر، وأُسامة بن زيد، وأنس بن مالك. فَلم يُنكر عليهم مُنكر. ثبت بذلك أنَّ هذا هو ما عليه أهل العِلم مِنْ هذين الخبرين المرفوعين، وبَطل ما خالفه؛ أيّ بَطل النَّهي عن وضع الرِّجلين على الأُخرى.
فذكرنا القول بالاختصاص، وذكرنا الجمع بأنَّ المنع مُتوجّه:
○ إلى أنْ يُقيم إحدى رِجليه، ويضع عليها الأُخرى.
○ وأما أنْ يضع إحدى رجليه على الأُخرى، وهُما ممدودتان؛ فلا. وهذا وجه من أوجه الجمع.
○ أما أنْ يَنصب إحدى رجليه ويضع الأخرى فوقها؛ فهذا المَنهي عنه. وهذا أيضًا احتمال في الجمع بين الحديثين.
وكذلك يأتي وجه مِنْ أوجه الجمع:
○ أنَّ النهي لمَنْ عليه ثوب واحد.
○ بخلاف مَنْ عليه ثوبٌ تحت ثوب، كسراويل تحت الثوب وما إلى ذلك.
قال: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ لإِنْسَانٍ: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ"؛ أيّ: أرباب المعرفة والدِّراية والحذق في معرفة معنى الخطاب الإلهي والنّبوي واستنباط الأحكام. ففيه مدح كثرة الفقهاء. "كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ"؛ يعني:
ففيه مدح انتشار الفقه، ووفرة الفُقهاء الذين يستنبطون الأحكام، وذمُّ قلّة هذا العلم. كذلك فيه الخروج عن المُباهاة والمُفاخرة بالتلاوة، وجَعلَ مِنْ مجد الرَّعيل الأول قِلّة القُرَّاء فيهم، مع مُحافظة الجميع على أحكام القُرآن، والوقوف عند حدوده والعمل بما فيه.
وهو يُشير بعد ذلك لأنْ يكون في شيءٍ مِنَ الأوقات والأماكن، تفاخرٌ بحفظ القُرآن، وكثرة حفظٍ على غير بيّنة وغير عمل، مع كِبرٍ ومع جهلٍ، ومع عُجُبٍ ومع سَبٍّ وشتمٍ لعباد الله؛ فجعل ذلك مظهر ذمّ، لا يُفيدهم أنهم يُكثرون التلاوة ولا يحفظون القُرآن، وهم على انحرافٍ في أُسس الوجهة إلى الله -تبارك وتعالى-. ويشهدُ له حديث: ".... يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، …. يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ….". فليس الممدوح مُجرد كثرة التلاوة، ولكنّها مع الانصباغ بِصبغتها والعمل بمُقتضاها، فتكون كذلك.
قال: في الزَّمن؛ وهو الزَّمن الأول، عصره ﷺ -عصر الصَّحابة-. "كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ،" في زمان "كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قليلٌ قُرَّاؤُهُ"؛ الذين يقرؤون بدون معرفة المعنى مثل الوقوف على الحدود. "تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ" الحدَّ: الحاجز بين الشيئين؛ الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. حددت كذا؛ جعلت له حدّ. قال: "تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ"؛ بمعنى: أحكامُه وحقائق معانيه. قال: "وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ"؛ والمعنى: أنَّه لا يُرَكَزُ فيه على مُجرد إحسان التِّلاوة وإتقانها، ولكن على الخُشوع فيه والفهم لمعناه، وإنْ كان إحسان التِّلاوة مطلوب.
"قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَل" النَّاس؛ لانتشار العِفة بينهم. والتَّعفُف عن المسألة، فالسائلون قليل. وهكذا كان الحال في الصّحابة، وفي مَنْ وَرِث عنهم الأدب في كثير من أماكن المُسلمين وأزمِنتهم. وصفُهُم كما قال الله تعالى: (... یَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِیَاۤءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ …) [البقرة:273]، الْفُقَرَاءِ (...یَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِیَاۤءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ …).
سيَماء العفاف عليهم بادٍ *** فلا يُدرى الغني مِنَ الفقير العائل.
فكانت عِفَة الغني عندهم بترك الزَهْوِ، وترك الخُيلاء، وترك التُميُز باللباس والمركوب والمَسكن ونَحوه. فهكذا كان، عاش النَّاس قرونًا في كثير مِنَ الأماكن، مِنْه في هذه البلدة، مرَّت عليهم قرون ما تُفرّق بين الغني والفقير في مَسكن ولا ملبس ولا مركب. فكان أغنياؤهم يفعلون فعل المُتوسط مِنْهم في مَلبسه ومركبه ومشربه، ولا يزهون على النّاس، ولا يمتازون، ويَقنعون بما تيسّر مِنَ المَسكن واللباس والمَركب وهم أغنياء. ولكنَّهم لا تعرفهم بهذا الزَهوِ، ولا بهذه الوفرة في الإنفاقات على النَّفس، ولكن إنْ تأملت حالهم عرفتهم أنّهم أغنياء، بكثرة الصّدقة وخصوصًا السِّرية مِنها. فتَعرفهم أنّهم أغنياء بهذا، لا بتميُز ثيابهم ولا بشيء مِنْ هذا، بل يلبسون كما يلبس المُتوسط مِنَ النّاس، يركبون ما يركب المُتوسط مِن النّاس، ويبنون بيوتهم على هيئة المُتوسط مِن أهل بُلدانهم وأماكنهم، كانوا هكذا فما تُميزهم. هذا عفاف الأغنياء وعفاف الفقراء بالبُعد عن السؤال، وعدم الالتفات والتّشوف لما في أيدي الأغنياء.
ولهذا لمّا وصفهم الحبيب أبو بكر بن شهاب قال:
سيَمُاء العَفاف عليهم بادٍ *** فلا يُدرى الغني مِن الفقير العاهل.
ووصفهم الإمام الحداد بقوله:
فقيرهم حُرٌ وذو المال مُنفقٌ *** رجاء ثواب الله في صالح السُّبُل
بل وحتى كان مرّ على كثير مِنْ أهل العِلم ما تُميزهم على غيرهم مِن النّاس بتقدُّم ولا أُبّهة، وهو عالم كبير، ويمشي كمسلك العامة مِن النّاس، ما تعرف أنّه عالم، إلا إذا جاءت المسائل، وإذا عُرضَت رأيت تدفقًا عن بحر عِلم واسع، عرفت أنّه عالم. فكثير مِن عُلمائهم كانوا يعيشون كذلك. كُلُّ ذلك لقوة صدقهم وإخلاصهم لوجه الله، وعدم التفاتهم إلى مظاهر الدُّنيا. فلا يَغتر العُلماء بعلمهم، ولا الأغنياء بغناهم، لقوة سُلطان التّزكية. كانت التّزكية مُسلطنة عليهم، فكانت نُفوسهم مُزكاة. فلا يجدون مجالًا للتّعالي والتّرفع لا بدِين ولا بدُنيا، ولكن على وصف الافتقار والاضطرار إلى الجّبار؛ الجميع هكذا. ويقول سادتهم وقادتهم وأئمتهم:
أَنا عَبدٌ صارَ فَخري *** ضِمنَ فَقري وَاِضطِراري
ويقول:
قَد تَحَقَّقَت بِعَجزي *** وَخُضوعي وَاِنكِساري
هذا مع أنّه لا بُدّ مِن وجود مَن يبرُز مِن أهل العِلم وغيرهم، لأجل ترتيب أحوال النّاس ولأجل سداد ثغراتٍ في المُجتمع، ولأجل الرُّجوع إليهم. فمَن ظهر مِنهم، اكتفوا به، وتستّر البقية. فكان هذا مسلكهم.
قال: "قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَل"؛ لكثرة العِفّة، لا لكثرة المال، ولكن لكثرة العِفة. وعلى هذا كان السُّلطان عبد الله بن راشد، -الذي ملك مِن حضرموت، مِن العقاد وراء شبام إلى شِعب النّبي هود-، فكان يحكم هذه المنطقة وهذا الوادي، حتى سُمي وادي بن راشد-، كان يفتخر أنّه لا يوجد في سلطنته هذه وفي مملكته مُحتاج، ولا يوجد سارق، ولا يوجد حرام. ما تُحصِّل حرام، ولا أحد يرضى يتعامل معك إلا بالشّرع والورع، ولا تجد سارقًا، ولا تجد سائلًا مُحتاجًا، للعِفة ولتفقُد الأغنياء للفقراء. وله الفخر بذلك. وكان هذا السُّلطان يحفظ صحيح الإمام البُخاري، وكان مِنْ ورده في كل ليلة صلاة مئة ركعة. الآن ناس منسوبين للعبادة غير سلاطين ما يُصلي مئة ركعة. هذا السُّلطان عليه مُهمة قائم بها، ويُصلي في كُلّ ليلة مئة ركعة. ولكن "كما تكونوا، يُولّى عليكم"، كانوا صالحين وأهل تقوى؛ ولّى الله عليهم هذا الصِنف.
"قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَل، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِى" لكثرة المُتصدقين والرّاغبين في الخير. فيتصدق الغني، ويتصدق المُتوسط، ويتصدق الفقير. كُلّهم يتصدقون. الفقير يتصدّق حتى ما يتيسر له ولو بأي شيء ولو بقليل، ولا يترك نفسه مِنَ الصدقة. والمُتوسط يتصدق، والغني يتصدق، فكثير مَنْ يُعطي، ولكن هذا في زمن الخير. وأما في زمن الشُّرور وشحّ النُّفوس، ينعكس الأمر، كل واحد يقول: دعه هو يتبرع! كُلّ واحد ما يريد أنْ يُعطي، وكُلّ واحد يرى الحق للآخر. أما هؤلاء.. الغني والمُتوسط والفقير، كُلّهم يتصدقون، كُلّهم يُعطون، كُلّهم يبذلون، ولو أنْ يأخذ مِنْ عشاه -بعض العشاء- ويقول هذا لعشاء القبر، أخرجوه صدقة، وهو عشاءه على قدره، ولكن يُخرج مِنه شيء.
"كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِى، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاَةَ"؛ أيّ: لهم حضور مع الله، وولعٌ بكثرة الوقوف بين يديه، وطول السُّجود. "وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ"؛ يَقصُرون الكلام، يكتفون بالكلمات القليلة بلا تشدُق ولا تفيهق. وجاء عنه ﷺ كما جاء في مُسلم وغيره: أنّه لا يُطيل الموعظة يوم الجُمُعة، وكان يُقْصِر الخُطْبة ويُطيل الصَّلاة. وجاء أنَّ طول صلاة الرَّجُل وقِصر خُطبته، مِئنةٌ مِن فقه الرَّجُل؛ أيّ: علامة، فأقصروا الخُطْبة وأطيلوا الصَّلاة. قال: "يُبَدُّونَ"؛ أيّ: يُقدِّمون فيه "أَعْمَالَهُمْ" يعني: أعمال البِرّ والخير "قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ"؛ يعني: إذا عُرِض لهم عمل، ينظرون إلى المُقرِّب إلى الله البعيد عمّا تهواه النُّفوس، فيقدمون "أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ". ولذا إذا كانوا في أشغالهم، سمعوا نداء الصَّلاة، قاموا إليها، وتركوا الأشغال. وفي كثير مِنْ أسواق المُسلمين، في كثير مِنَ القرون، كان حال أهل السُّوق أنَّ الدبّاغ إذا وضع الإبرة في الجِلد، فسمع النداء، رمى الجلد بالإبرة، ولم ينزعها، وقال: بعد الله أكبر لا يوجد عمل! يتوقف ويذهب يُصلي، بعد ذلك يعود ويُخرِّج الإبرة مِن الجلد، ويُكمل شغله. ولكن عند الله أكبر حتى الإبرة ما عاد يُنزلها مِنَ الجلد. وأنّه يرفع صاحب الحِدادة منهم مطرقته ليضرب الحديد، فيسمع الله أكبر، فيرميها مِنْ خلف ظهره، ولا يضرب. رفعها ليضرب، فيسمع الله أكبر، فيرميها مِنْ خلف ظهره. "يُبَدُّونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ" عليهم الرِّضوان. يعني: يُقيمون الأعمال على بصيرة، وعلى إخلاص، وعلى صدق، ويبتعدون عن الهوى.
"وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان"، وقد أتى، "قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ"؛ لأنّهم لا يتفرّغون للعِلم وعلوم الشَّريعة، ولا يُخلصون فيها، طلبًا لما يزيدهم كسب مالٍ، ووفرة متاعٍ ودُنيا، فيقل الراغبون في علم الشَّريعة والمُتفرّغون لها، ويصرفون ذكاءهم وفهمهم للحِرف والمِهن وما يُكتسب به المال، مِنْ أنواع العُلوم التي فيها الزَهو وفيها الفخر والمُنافسة وكسب الدُّنيا؛ فيقِلُّ الفُقهاء. "قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ"، "إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ صدور الرجال، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأضَلُّوا". "كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ"؛ يعني: ناس مُتفاخرين يقولون عندنا قُرَّأنا، فمَنْ أقرأ منا! تعلّمنا فمَن أعلم منا! وعندنا وعندنا... فجعله مظهر مِنْ مظاهر السّوء، لا مظهر مِنْ مظاهر الخير. قال: هذا زمان سوء، افتخار بكثرة قراءة على قلة فقه في دين الله -تبارك وتعالى-، على قلة أدب مع الله -جلَّ جلاله-، ماذا يفيد وماذا ينفع؟! ليس العار والعيب في نفس القراءة، ولكن في كونها على هذا المنحى وعلى هذا الوجه، وأما القراءة، مَن قرأ حرفًا مِنْ كتاب الله له عشر حسنات لكن يقرأه على وجهه. قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ …) [البقرة:121]. ورُبَّ تالٍ للقُرآن، والقُرآن يَلعنه. قال: "يُحْفَظُ فِيهِ" أي: في ذاك الزمان "حُرُوفُ الْقُرْآنِ"، ويجتهد فيه النُّطق بقوة، بتحرّي الحروف إلى أنْ يصل إلى المُبالغة في ذلك، وإذا سمع أحد مِنْ أهل النّور والخشية والخشوع مِنَ الشيابة وغيرهم يقرأ، يقول هذا في لحن في قراءته، لا حول ولا قوة إلا بالله!! وما درى أنّ قراءته أقرب إلى الرحمن، وأقرب إلى سرّ القُرآن مِنْ تمطيطه ومُبالغته في زرزرة حروفه.
ولما جاء بعض أهل الفقه والعِلم يقصدون زيارة بعض الصَّالحين لمّا سمعوا عن صلاحه، فلما وصلوا، صلّى بهم المَغْرب، كان في وقت حرّ وصيف، فكأنّهم رأوا عدم إتقانه لبعض الحُروف. قال بعضهم لبعض: أظن السَّفرة خابت قصدنا واحد حتى ما يُتقن! استأذنوا يغتسلوا في نهر عنده فخرجوا يغتسلون، فبينما هم يغتسلون إذ أقبل الأسد وقع فوق ثيابهم وقف. وبقوا في الماء في النَّهر، لا يقدرون يخرجون خوف مِنَ الأسد، ولا يتحركون محلهم خوف مِنْ أنْ يهجم عليهم، وبقوا لابثين راكدين في الماء، واستبطأهم الشيخ فخرج، فحصّل الأسد فوق الثياب الخاصة بهم وهم قاعدين في النَّهر في خوف. فجاء إلى عند الأسد أخذ بأذنه، قال: لا تتعرّض لِضيوفي. امشِ من هنا. مشى كأنه ضانه، وخرجوا. قال: قوموا البسوا ثيابكم، فقاموا. فعجبوا! قالوا: هذا رَجُل ولي كبير هذا! فلما رآهم قال: ما بكم؟ قالوا: كيف تلوي أذن الأسد؟ قال: أحسنتم الظّاهر فخفتم الأسد. وأحسنّا الباطن فخاف مِنا الأسد. تعرفون تزرزرون حروفكم وتقرأون، تقولون أنّنا نُلحّن. أحسنتم الظّاهر فخفتم الأسد، وأحسنّا الباطن؛ فخاف منا الأسد.
وهكذا يذكُر الحبيب عبد القادر أنّه: ودّع مالك بن دينار ناس، فخرجوا فإذا بهم رجعوا. قال: ما بكم رجعتم؟ قالوا: أسد في الطريق. قال: تخافون الأسود؟ قالوا: مَنْ لا يخاف الأسود! خرج إلى الأسد، ومسك بأُذُنه، وقال: ألم أقل لكم لا تتعرضوا لأضيافي؟ امش، مشى. قال: هيا امشوا وراءه. قال: "يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ؛ لا يفقهون ولا يَعملون، مُقرئ كبير عاق للوالدين! مُقرئ كبير قاطع للرحم! مُقرء كبير مُحسن ويُقدّم في الحفلات كمُقرئ وهو يتعامل بالربا! المُقرئ الفُلاني مُضيّع لحدود القُرآن، فقط يحفظ حروفه، ويسبّ خلق الله كل يوم، ويكفّر ويُبدع. إيش عَمِل فيك القُرآن؟ القُرآن ما يعمل هكذا بأصحابه؟ ما عندك حقيقة القُرآن! القُرآن ما يُصلح كذا بأصحابه! القُرآن يُهذّب الأخلاق. القُرآن يملأ القلب خشية. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ..) [الزمر:23]. قارئ كبير يقرأ القُرآن، مُتكبّر، مُترَفّع… لا حول ولا قوة إلا بالله!! القُرآن يُعلمك الخُضوع، يُعلمك التّواضع والإنابة.
قال: "وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ"، لكثرة الحرص على الدُّنيا حتى معه، الفقير يسأل، والمُتوسط يسأل، والغني يسأل، يشوف إيش ممكن يُحصِّل مِنْ هُنا؟ ينفتح عند الوزارة هذه، عند الجماعة هذه، يقول: اذهبوا واحضروا كذا. أنت غني والحمدلله، أعطِ خلق الله.. لكن ما يريد إلا أن يسأل! كثير سؤاله. "كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ"؛ كثرة الحرص، قلة الصّبر، قلة التَعفف، قوة الطّمع. "قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي"؛ لشحّ الأغنياء. يكثر السائل، ويقل المُعطي. "يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَة"، كم تريد محاضرات؟ كم تريد... "يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَة، وَيَقْصُرُونَ الصَّلاَةَ"؛ يعني: وعظهم كثير وعملهم قليل. "يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ"؛ الحركة بالهوى، ما يعرفون قيمة العمل، إلا فيما تهواه نفسه. شيء فيه له غرض، حاضر. ما فيه شيء من ذلك.. ما له رغبة بالعمل، لكن شيء فيه مظهر، شيء فيه فلوس… حاضر، مستعد يعمل! يُقدمون "أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ"، أهم شيء ما تهوى النّفس، أما عمل من أعمال القرب إلى الله.. ليس له هِمّة ما له رغبة. لكنَّ شيء فيه مظهر، شيء فيه فائدة، شيء مِن وراءه قريشات، مُستعد. فهم عبيد أهواء، لا عاملين للمولى جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
الله يُصلح أحوالنا، يُصلح أوقاتنا، يُصلح زماننا، ويُصلحنا ويُصلح أهل زماننا، ويرزقنا مشابهة الصَّالحين والاقتداء بهم في كُلّ حال وحين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
28 ربيع الأول 1442