(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر: تتمة باب العمل في جامعِ الصلاة.
فجر الاثنين 16 ربيع الأول 1442هـ.
تتمة باب الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلاَةِ
471- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْساً، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَأُصَلِّى فِي عَطَنِ الإِبِلِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ، وَلَكِنْ صَلِّ فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ.
472 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا صَلاَةٌ يُجْلَسُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا؟ ثُمَّ قَالَ سَعِيدٌ: هِيَ الْمَغْرِبُ، إِذَا فَاتَتْكَ مِنْهَا رَكْعَةٌ، وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الصَّلاَةِ كُلُّهَا.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته العظيمة، وأحكام دينهِ القويمة، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده المصطفى محمد ذي الصفات الكريمة، وعلى آله وأصحابه ومن سار في مناهجهِ المستقيمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، أهل المراتب العلى الفخيمة، وعلى آلهم وصحبهم ومن تبعهم، وعلى جميع الملائكة المقربين، وعباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في كتابه الموطأ، الأحاديث المتعلقة بالصلاة. ويذكر لنا في هذا الحديث أثر عبد الله بن عمرو بن العاص عن الصلاة في معاطن الإبل، ومرابض الغنم، ويذكر أنه سُئل : "أَأُصَلِّى فِي عَطَنِ الإِبِلِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ، وَلَكِنْ صَلِّ فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ."، والحديث جاء عند أبي داود أيضًا.
وذلك أن الإبل عندما تُسقى، فمن العادة في سقيها أن تشرب الماء أولًا ثم تبرُك، فترتاح مدة، ثم تقوم فتشرب ثانية، فالمكان الذي تبرك فيه بين الشربتين، يُقال له: عطن، وجمعه معاطن، معاطن الإبل. بخلاف الأغنام، فإنها تورَد على الماء، وتشرب شربةً واحدةً، ويكفيها ذلك وتمضي. وتشرب الإبل ماءً أكثر، ثم تستطيع أن تمتنع عن الماء مدةً أطول، وتجلس إلى العشرة الأيام من دون أن تشرب، فلا يضرّها ذلك، وزيادة على ذلك كذلك. ولهذا قال ﷺ: "معها سقاؤها" يعني: أنها تستغني عن الماء مدةً طويلة بهذه الشربة الكثيرة التي تشربها.
فجاء في الأحاديث عند مسلم وغيره، النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، أو معاطن الإبل.
فنبَّه عن الفرق بين هذا وذاك، وهكذا جاء في الحديث. وبذلك كرهَ عامّة أهل العلم الصلاة في معاطن الإبل، وقد جاء تعليل ذلك ببعض الأحاديث، واجتهد أيضًا أهل العلم في علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل.
ومن النظر والقول الوجيه؛ ما فرّق بينهم بين مجموعة الإبل وبين الفرد منها:
ففرقٌ بين معاطنها وأماكنها، وبين أن تكون الواحدة منها منفردة، فيصلي إليها؛ فتكون شاخصًا بينه وبين القبلة، أو أن يكون ماشيًا عليها، فيصلي النافلةَ، فلا كراهةَ في شيءٍ من ذلك.
وبقي إذا صلى في معاطن الإبل ولم تكن هناك نجاسة:
وجاء في ذلك أحاديث عنه ﷺ أنه قال: "..وصلّوا في مراح الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل". صلوا في مُراح الغنم: الموضع الذي تروح إليه فتبيت فيه. وكان كثيرًا ما يشتغل رعاة الغنم بتنظيف مكان الغنم.
وبهذا الحديث استدلّ من يقول بطهارة أبوالها وأرواثها، هذه المأكولة كالغنم ومثلها البقر، والبقر مثل الغنم في عدم الكراهة، فإن الكراهة خُصَّت بالإبل، فصارت البقر كالغنم، لأن ما ذُكر عن الإبل من النفار، وعن كونها خلقت من شياطين، أو من جن،.... لا يأتي في البقر، فالبقر حكمُها حكمُ الغنم، لا يضر.
وإذًا، فهذا أحد الأماكن التي تُكره فيها الصلاة.
وجاء في الحديث أنه نهى ﷺ أن يُصَلَّى في سبعة مواطن:
هذه سبعة مواطن، جاء في الحديث النهي عن الصلاة فيها. ولكن لا يقال بالبطلان فيها إلا لمُقارف النجاسة، أو لأي أمرٍ خارج، وإلا فذلك مكروه؛ إذا صلى في طريق، أو في مقبرة، أو في مجزرةٍ، ولم يلامس نجاسة فالصلاة صحيحة، ولكن ذلك يُكره.
وخصّص بعضهم الصلاة في الطريق بالنسبة للبنيان دون البرية والصحراء. وفي الحديث: "صلّوا في مراح الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل"؛ حيث تبرُك، ومثله ما قيل: مراح الإبل مثل المعطن. والتفريق بين الغنم والإبل هذا مما يُدرك من إفادة النبوة، والاطلاع عليه بنور النبوة لا مجال فيه للاجتهاد والرأي والعقل. وعلمنا أنهم ألحقوا البقر بالغنم.
وأما الصلاة في مربض الغنم أو البقر -من غير فرق- فلا تُنكر، وليس في أهل العلم من يكرهها، إلا أن يباشر نجاسةً. وقد علمنا اختلافهم في أبوال المأكولات من الحيوانات وروثها، أهو طاهرٌ أم نجس؟
يقول: "أَأُصَلِّى فِي عَطَنِ الإِبِلِ؟" بروكها عند سقيها. فنُهيَ عن الصلاة في مبارك الإبل كذلك، يعني: لا تصلي فيها فهي مكروهة. وعلمت قول الحنابلة: أن الصلاة باطلة في معاطن الإبل كقول الظاهرية. "صَلِّ فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ"؛ موضع اجتماعها أخر النهار، وموضع مبيتها. فجاء الفرق بين معاطن الإبل، وبين مبَارك الغنم، ومُراح الغنم، وفهمت منزع نظرهم في العلة والحكمة من ذلك.
يقول: من صلى في أعطان الإبل، والموضع طاهر؟
إذًا، فهذا مذهب جمهور العلماء، وعليه الأئمة الثلاثة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. وسمعت أن الحنابلة قالوا: لا تصح الصلاة في أعطان الإبل.
وبنظر الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- فيما جاء في السنة الشريفة ودلالات الحديث، جاءت أقوالهم في الأماكن التي تُكره فيها الصلاة. مثل: أماكن القوم الذين غضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب.فلا يُصلى في أماكنهم، بل لا ينبغي أن يُجلس فيها ويبتعد عنها، "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم..".
وقام الاختلاف بين العلماء فيما جاء في النهي عن سبعة مواطن فيما روى الترمذي وغيره.
ولهذا قال الشافعي: أكره له الصلاة في أعطان الإبل، وإن لم يكن فيها قذر، لنهي النبي ﷺ، فإن صلى أجزأه، ولكن ذلك مكروه. وهكذا عليه الجمهور كما سمعت.
وأما قوله للعرنيين ﷺ: فاشربوا من أبوالها وألبانها؛ فحملوه على التداوي لأجل المرض والعلة لا لطهارة البول.
ثم أورد لنا مساءلة سعيد بن المسيِّب لجلسائه عن بعض شؤون الصلاة، وقال: "مَا صَلاَةٌ يُجْلَسُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا؟" يعني: يجلس للتشهد في كل ركعة! "مَا صَلاَةٌ يُجْلَسُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا؟" قالوا ففيه:
كما هو في آداب العالم والمتعلم. والإمام البخاري جعل لها عنوان للحديث؛ عنوان في صحيحه، يقول : "طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم"، أورد فيه حديث ابن عمر يقول: إن شجرة تشبه المسلم ما هي؟ أن النبي سألهم عنها، وأخذوا يقعون في شجر البوادي، يقول لهم ﷺ: لا. قال: فوقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت؛ لأن في المجلس أبو بكر وعمر وكبار الصحابة، فما تكلمت، فقال ﷺ : "إنها النخلة". قال: "ثم أخبرت أبي بعد ذلك، فقال: لو تكلمت كان أحبّ إلي من حمر النعم. يعني لمكان سروره ﷺ منك وفرحه منك إذا أنت ذكرت المسألة. وقال: إنما أخّرني أن في المجلس أنت وأبو بكر وكبار الصحابة. فأخبره أن عند السؤال يمكنك أن تجيب، وقال: لو كنت ذكرت ذلك للنبي ﷺ، لكان ذلك أحب إلي من حمر النعم".
فطرح عليهم السؤال ليرى ما عندهم، وهكذا قال سعيد بن المسيِّب: "هِيَ الْمَغْرِبُ، إِذَا فَاتَتْكَ مِنْهَا رَكْعَةٌ"،
وكذلك إذا أدركت ركعة واحدة منها، فإنك تصلي مع الإمام ركعته الأخيرة وتتشهّد، ثم تقوم فتتشهّد لأنها بالنسبة لك ثانية، -وعليه الجمهور، وقال بعضهم: لا، هي بالنسبة له أولى، فلا يتشهد- ثم تقوم من الثالثة فتتشهّد لأنها الأخيرة.
بل يأتي في صلاة المغرب إمكان التشهّد أربع مرات، ولا يأتي في صلاة غيرها، أربع مرات تتشهد وهي ثلاث ركعات!
فصار أربع تشهّدات في فريضة واحدة وهي ثلاثية، ولا يأتي هذا في غير المغرب، ما يمكن ولا يأتي إلا في المغرب.
وسمّيت الألفاظ كلها التحيات بالتشهد بتسمية الكل باسم البعض، فإنها تتضمّن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولكن المراد جميع الألفاظ الواردة. فالتي لم تسقط في رواية من الروايات، هي الواجبة اللازمة، وهي أقل التشهد عند الشافعية، وذلك قوله: "التحيات لله، سلامٌ -أو السلام- عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ -أو السلام- علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّدًا رسول الله"، فهذه الألفاظ لم تخلُ منهنّ رواية قط، فهي أقلّ التشهد عند الشافعية، ولا بد منها.
ثم اختلفت الألفاظ، ورجّح كلٌّ من الأئمة بعض الروايات:
قال سعيد بن المسيب: "هِيَ الْمَغْرِبُ، إِذَا فَاتَتْكَ مِنْهَا رَكْعَةٌ"، وقلنا ومثلها إذا أدركت منها ركعة. "وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الصَّلاَةِ كُلُّهَا." ما يمكن أن يجلس في الرباعية في كل ركعة منها إذا فوّت ركعة! في الصبح ممكن، إذا أدرك مع الإمام الركعة الثانية، فيتشهّد في الأولى وفي الثانية، هو يقوم يتشهد في الأولى تبع الإمام وفي الثانية لأنها نهاية صلاته، أما في الرباعية ما يمكن في كل ركعة يتشهّد أبدًا! إن حصَّل الإمام في التشهّد، وإن حصَّله في الركعة الثانية، وإن حصَّله في الثالثة، وإن حصَّله في الرابعة، ما يمكن في كل ركعة يتشهد! فكيف قوله "وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الصَّلاَةِ كُلُّهَا"؟ ها كيف سُنة الصلاة كلها؟
يعني: إذا فات المأموم منها ركعة، أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته، "وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الصَّلاَةِ كُلُّهَا"؛ يعني: من فاته من الصلاة -أي صلاة كانت- ركعة، يجلس فيها لأنها آخر صلاته، ومحل جلوسه لِسلامه، ولكن ما يمكن أن يجلس في كل ركعة كما ذكر في المغرب.
واحتمل بعضهم قوله: "وَكَذَلِكَ سُنَّةُ الصَّلاَةِ كُلُّهَا" أي: سنة صلاة المغرب، أي في كل ركعةٍ منها، الصلاة كلها. أو أن التشبيه لمجرد الجلوس باتّباع الإمام، وإن لم يكن موضع جلوس المأموم هذا في الصلاة، سُنة الصلاة كلها؛ يعني: مهما أدركت الإمام، وإن كان أنت ركعتك الأولى، أو ركعتك الثالثة في الرباعية، والإمام يتشهّد، تتشهّد معه، هذه سنة الصلاة كلها، أن تتبع الإمام، وإن كان موضع غير موضع جلوس لك، ولكن إذا جلس الإمام تجلس مع الإمام. هكذا ينقلنا إلى بابٍ فيه أحاديث متعلقة بشؤون متعدّدة في الصلاة.
رزقنا الله إقام الصلاة وأدائها على الوجه الذي يرضاه، وجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا، اللهم حقّقنا بحقائق الصلاة، والإقبال الكلي عليك، وأقبِلْ بوجهك الكريم علينا، وعامِلنا بلطفك الجميل، يا حي يا قيوم، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
18 ربيع الأول 1442