(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، متابعة باب العمل في جامعِ الصلاة.
فجر الأحد 15 ربيع الأول 1442هـ.
متابعة: باب الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلاَةِ
465 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ".
466 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ السُّجُودَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى جَبْهَتِهِ شَيْئاً.
467 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَاءَ الْمَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ، بَدَأَ بِصَلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا شَيْئاً.
468 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ الرَّجُلُ كَلاَماً، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إِذَا سُلِّمَ عَلَى أَحَدِكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلاَ يَتَكَلَّمْ، وَلْيُشِرْ بِيَدِهِ.
469 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا، إِلاَّ وَهُوَ مَعَ الإِمَامِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ، فَلْيُصَلِّ الصَّلاَةَ الَّتِى نَسِيَ، ثُمَّ لِيُصَلِّ بَعْدَهَا الأُخْرَى.
470 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلاَتِي، انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّي الأَيْسَرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ رَأَيْتُكَ فَانْصَرَفْتُ إِلَيْكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ، إِنَّ قَائِلاً يَقُولُ: انْصَرِفْ عَنْ يَمِينِكَ، فَإِذَا كُنْتَ تُصَلِّي فَانْصَرِفْ حَيْثُ شِئْت، إِنْ شِئْتَ عَنْ يَمِينِكَ، وَإِنْ شِئْتَ عَنْ يَسَارِكَ.
الحَمْدُ للهِ مُكرِمنا بشريعتهِ وبيانِها، على لسانِ خيرُ بَرِيّتهِ، عليهِ في كلِ لمحةٍ ونفس أفضل صلواتهِ وأزكى تسليماتهِ، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلين، وآلِهم وصحبهم أجمعين، وتابعيهم بإحسانِ إلى يومِ الدّين، وعلى الملائكةِ المُقربين، وجميع عبادِ اللهِ الصّالحين، وعلينا معهُم وفيهِم إنَّهُ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فَيواصل الإمام مالك عليهِِ رحمةُ الله في المُوطأ ذكرَ الأحاديث المُتعلقة بالصَّلاةِ في كتابِ جامع الصّلاة فيقول: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ"." والحديث جاءَ أيضًا عندَ الصّحيحين، عن ابْنِ عمر: "اجْعَلوا من صلاتِكم في بيوتِكم ولا تَتَّخِذوها قُبورا" ففيهِ أن لا تُنسَى البُيوت من نصيبٍ منَ الصَّلاة، وقد صَحَّ في الحديثِ أنَّ خيرَ صلاتنا في البيوتِ إلا المكتوبة، فَدَلَّ ذاكَ الحديث على المُرادِ بهذا الحديث، وأنَّ المُرادَ أن نجعلَ مِنْ صلاةِ النَّوافل في البيوتِ لِتَتَنَوَّر البيوت، وتَنزل فيها الرَّحمة، ولِتُحَصَّنَ وتُحفَظ من شرورِ الشَّياطين، ومُختلف الآفات بوجودِ الصَّلاةِ فيها. وهذهِ مِيزة بُيوت المُؤمنين:
هذهِ ميزة بيوت المؤمنين، وخصوصِيَتها، وزينَتها، وفَخرُها، وشرفُها، وما عدا ذلك من أنواعِ الأمتعة، والفُرش، والمظاهر، فَيشتركُ فيهِ البَّر والفَاجر،
ولكنَّ المِيزة التي يختصُ بها بيتُ المؤمن: الصَّلاة، والتِلاوة، والذّكر، والأداب النَّبوية، هذه مِزيَة بيتهِ، والزِّينة التي لا تكونُ في بيت الكافر، ولا تكون في بيت الفَاجر والغافل، وهي زينةُ بُيوت المَؤمنين، وخصُوصيَتهم، ومَزيَتُهم، فعليهم بِها.
و"الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ يتراءى لِأَهْلِ السَّمَاءِ، كَمَا تتراءى النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ". وهكذا يعلو قدرُ درجاتِ بُيوت المؤمنين. قال الإمام عَبدُ الله بْنِ حُسينْ بْنِ طَاهِر لإِبْنِ أُخْتِهِ عَبدُ الله بن عُمر بْنِ يحيى وقدْ بَنَى لهُ بيتًا في قَريتهم المَسْيلة: رأيتُ بُيوت المَسْيلة مُرتفعة ولكِن بيتكَ فوقَ البُيوت، ورَأيتُ غُرفتكَ التي أنتَ فيها فوقَ البيَّت، فما الذي عَمِلتَ في هذا البيَّت؟ فقال: مِا علمتُمونا من تحريَّ الحَلال وجودْ النَّية في بناءِ البيَّت، من أن يكونَ مَسْكن للصَّالحين، ومُتَرَددْ وَمَحل إكرام للأَضياف، ومَحل طَاعة وَعِبادة إلى غير ذلك، ولما أكملنا بِناءه، قرأَتُ ختمةً من القرآن في كل غُرفة مِنْ غُرف البيَّت مِنْ قيامٍ في الصَّلاة، وفي كُلِ درَجة مِنْ درج البيَّت، قرأَتُ ختمةً مِنْ قيامٍ في الصَّلاة، وفي الغُرفة التي أَنا فيها قرأتُ خَتماتٍ كثيرة، فهذا سبب الرؤية، رَأيتهُ مُعتليّ. والْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ يتراءى لِأَهْلِ السَّمَاءِ، كَمَا تتراءى النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ.
بهكذا قالَ بعض الصَّالحين لإبنِه: احِذر يا بُنيَّ أن تعصي الله في هذهِ الغُرفة، فإنيّ قدْ قرأتُ فيها سبعةَ آلاف ختمة. وهكذا قالَ سيُدنا نوح عليه السلام في دُعاءهِ: (رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا..) [نوح:28] فيُتعرَّض للمَغفِرة بدخول بُيوت الصَّالحين، وبالمُرور في ظِلها. وهكذا قَالَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ"، فقد كانَ علي بْنِ الحُسين يُصلِّي في الليلة ألف ركعة في بيته. وكان سيدنا عُثمان بْنِ عفان يُصلِّي مئة ركعة في الليلة في بيته.
وهكذا فانتقدَ بعضُ أهلِ العلمِ على من فَهِم مِنَ الحديثِ أنَّهُ صلاةُ الفَريضة، وقالوا: لا تَكون إلا في البيَّتْ، وَفَسَّروا بهِ الحديث الصَّريح في ذلكَ، الذي قالَ: "فإنَّ أفضلَ صلاةِ المرءِ في بيتِه إلَّا الصلاةَ المكتوبةَ"؛ إلا المَفْروضَة. وإنما يكون ذلك بحقِ من عُذر، من كانَ معذورًا فيجعل بعضَ صلواتهِ إلا هو معذور فيها عن الخروج من المَسْجد مع أهلهِ وأولادهِ ليُعلمَهم كيف يُصلون، ويَرقُبهم وليقتدوا به مباشرةً؛ وأما عندَ غيرِ وقتِ العُذر فيمكنهُ أن يصلِّي في المَسْجدِ ثمَّ يُعيد الصَّلاة بأهلِ بيتهِ إذا أراد، ويُعلمهم كيفَ يُصلون، ويُريَهم المكتوبة، وما دامَ مُتمكن ومُتيسر له الحضور في جماعة المَسْجد فهي أفضل.
ويبقى "اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ" أي: بعضَ صلاتكم النَّافلة، فالنوافل صلاتها في البَيّت أفضل؛ إلا ما يُشْرع فيه الجماعة من مثل: صلاة التراويح، مثل صلاة الوتر في رمضان، ومن مثل صلاة العيدين ونحوها، فهذه صلاتها في المَسْجدِ تكون أفضل. وكذلك استثنى الشافعية وبعضُ أهلِ العلم: صلاة الضحى، فقالوا إنَّ صلاتها في المَسْجدِ أفضل من صلاتها في البَيِّت، كما ذكرَوا المُعتكف، فإن صلواته في المَسْجدِ أفضل من صلاتهِ في البَيِّت، لأنه مشغول بالإِعتكاف في المَسْجد مُختَلف نوافلهُ.
وكذلك ذكروا من يخشى فواتها، وتركها إذا ذهبَ البَيِّت، فالمُبادرة بها وصلاتها في المَسْجد أفضل، حتى لا يتعرَّضَ لإهمالها وتَركها. وفي الحديثِ الأمر بأن نجعل في بُيوتنا نصيبًا من الصَّلاة، "ولا تَجْعلوها قُبُورًا" أيّ: أنَّ عامَّة أهل القبور لا يُصَّلُّون في قُبُورهم، فلا تجعلوها مثل القُبور للموتى الذين انقطع عملُهم، وإن كانَ بعضُ الموتى يُعطى الصَّلاة في قبرهِ كما قال ﷺ: "مَرَرتُ على موسى ليلةَ أُسرِيَ بي عندَ الكَثيبِ الأحمَرِ وهو قائمٌ يُصلِّي في قبرِه".
ولمَّا دفنوا ثابتَ البُنانِي، وكان بعض من حضرَ دفنه، سقط عليه مالٌ وقتَ الدَّفنِ، فجاءَ يحفرْ فلمَّا رفعَ اللبِّنةَ وجدهُ يصلِّي، قائم يصلِّي في القَبر، فعجبه وفزع، فأشارَ أليهِ خُذْ حقكَ وأنّصرف، ورُدَّ عليَّ التُّراب، فردَّ التُراب وذهب إلى عندِ أُخته، قال: ما كانَ عملُ ثابت؟ قالت له: لماذا تسألني؟ قال: أُحبُ أنَّ أعرف عملهُ، قالت لا بُدْ؛ ما سبب سؤالك؟ فألحَتْ عليهِ فأخبَرها أنَّهُ رأهُ يُصلِّي في قبره، قالت: أما إذ ذكرتَ ذلك فإنيّ أسمعهُ منذُ خمسينَ سنة يتَهجّد في هذه البُقعة من البَيَّتْ ويقول: آللهم إن كنتَ أعطيتَ أحدًا الصَّلاة في قبره، فأَعطِينيها في قبري. فما كان الله ليُردْ دُعاءهُ، قالت خمسين سنة وهو كلَّ ليلة يدعو أن يعُطيه الله الصَّلاة في قبرهِ. وهذا على سبيل النُّدور. وجاءَ "ولا تَجْعلوها قُبُورًا" على سبيل الغالبْ، الغَلبَة، أنَّ غالبْ أهلُ القبور ما يصلَّون في قبورهم. ولمَّا صلَّى بعضُ النَّاس بجوارِ المقبرة، فرأى بعضها القُبور يقولوا: أنتم لا تعرفونَ قدرَ ما أُوتِيتم في الدُّنيا، إنَّ تلكَ الرَّكعتين التي صلِّيتها بِجوارنا، لو كان لنا في الدُّنيا ولنا مُلك الدُّنيا كُلها لصرَفناها في أن نُدْرِكَ هذه الرَّكعتين، نحن نحبُ أن نُدرك مثل هذا الثَّواب فما عُدنا ندركهُ بعد الوفاة، فقدْ كُنَّا في الحياة لدينا فُرصة ففاتت علينا، فقالوا كم نتمنى لو يُكتبْ لنا مثل ما كُتبَ لك في هذه الرَّكعتين، بِكُلِ ما نُؤتى، وبِكُلِ ما نَملك.
ثمَّ هكذا عُمِرت بيوت الصَّالحين بالعبادة، والذِّكر، والعِلم والتَّقوى، وجُعِلت مكانًا لتنفيذ الشَّريعةِ وتَطبيقها. وكانت مواطن العمل بكتابِ اللهِ، وتطبيق وَحيهِ، وسُنَّة مُصطفاه ﷺ. فنِعمَ الُبيوت بُيوتهم، ومَن نوَّرَ بيَّتهُ كذلك فجديرٌ أن يُنَّور قبره، كما يُنَّور قلبه.
وصارت بيوت كثير من المُسلمين مسارح للغَفلة، ولِبرامجْ الغَّافلين، وبرامجْ بعضُ المُفسدين على ظهر الأرض، فتحوا لهم بيوتهم وقُلوبهم وعيونهم وأذانهُم وقالوا تفضلوا هاتوا ما عندكم من الإِفساد، والشَّر، فإنَّ منازلنا، وقلوبنا وقلوب أهلنا مسرحٌ لكم!! لا حول ولا قوة إلا بالله! فأظلمتْ قلوبَهم وتأثرتْ، وضَعُفَ إِيمانُهم، وأنّحرفوا في سلوكِهم وأخلاقهم، وتغيرت أفكارهم، لأنهم فتحوا أبواب الشَّر. ومرتْ على المُسلمين سنون بل قرون، كانتْ أماكِنهم، ديَارُهم، بل ليسَ ديَارُهم فقط، منازِلهم، وشوارِعهم، بلدانهم، لا يدخل فيها كافر، لا يُتجاهر فيها بمنكر، ولا يُعمل فيها جهارًا معصية، البلدة كلها. ومرت سنون، لا يُمَكّن كافر من دخول كثير من بلاد المسلمين، ولمَّا مرت قرون ما كانَ يدخل إلى البلدة كافر، كان احتاج بعض أهل الإشتغال ببعض التجارة، وبعض المصالح العامة للطُرق وغيرها، أن يقابلوا بعض الكفَّار، فصاروا في الجوار. في جوار تريم جاءوا به، فسمع الإِمام عبد الرَّحمن المشهور، أنَّهُ قَرُب من البلد، في جِوارها مَنْ ليس مِنْ أهلِ الإسلام، فما استقرَ في بيتهِ، وخرجَ متوجهًا نحوهُ، فلمَّا رأوهُ مُقبلًا، أخرجوا الكافر من بيت من باب خَلفِي، وقالوا اذهبْ، وذهبوا بهِ إلى مكان آخر، وأبَعدوه، أقبلَ عليهم، قالَ: حَسْبكم الله، تريدون تخرقوا هذا السُّور، وهذا النُّور، وتُكَدِّروا على النَّاسِ أفكارهم بمواجهة مَنْ لا يؤمن باللهِ واليوم الآخر؟! قالوا: قدْ تُبْنا ولم يَعُدْ أحدْ عندنا، لم يَعُدْ أحدٌ موجود في البيَّت. فكان صورة من تلك الصَّور التي حَمَوا بها قلوبهم، وأفكارهم، وديارهم، فأنظروا كيف انقلبَ الأمر! فيا مُحَول الأحوال، حوِّل حالنا والمُسْلمين إلى أحسنِ حال، وعافِنا من أحوالِ الضَّلال والفجار.
وفي ذلكَ أُسّس وقواعد، وأصول، وضوابط، ليست على إطلاقها؛ ولكِن في عُمومِ ما كان يُلاحظُ من التَّربية يصلْ حالُ كثيرٍ مِنْ المُسلمين إلى هذه الحدود، وكانوا يَغبِطون أهلَ البلد أنَّ أحدُهم يمرُ عمره لا تقعْ عينهُ على نظرِ كافِر، ولا فاسِق ولا فاجِر، ويُصَابِح ويُماسي وجوه الخَاشعين، والخاضعين، والمُنِيبينَ طولَ عمره. فتسري له السِراية بِهم، ولذا كان عوامَهم يُشّبِهون الخَواص في هِممهم، ونِياتهم،و وَرعِهم، وأدبهم، واستعدادِهم للدَّار الآخرة، ونصبها بين أعينهم كأنهم يرونها، كان عوامَهم كذلك. وكانَ في عوامِهم من لم يترك قيام الليل طول عمره، وفي عوامهم من لم يُصلِّي فرضًا واحدًا إلا في الجَماعة. وفي عوامهم حفَّاظٌ للقرآن، تالون لهُ، مكثِروا لِلتِلاوة، وفي عوامهم مُتورعون عنِ الشُّبهات، والإحتمالاتِ البعيدة في الشُّبهة في جميع معاملاتهم.
ثم ذكرَ لنا حديثَ المريضِ، وأنَّه يُصلِّي كيفَ أمكنهُ. ويذكر "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ السُّجُودَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى جَبْهَتِهِ شَيْئاً". في الحديثِ المرفوع قولهُ ﷺ لسيدنا حُذيفة: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإن لم تستطِعْ فعلى جَنبٍ، فإن لم تستطعْ فمستلقيًا" إذًا، القيام واجبٌ للقادرُ عليهِ في الفرائض، وإن لم يقْدِر فليُصلِّي قاعدًا، فإن لم يقْدِر فَعَلى جَنبٍ، فإن لم يقْدِر فمُسْتلقيًا.
ولا عذر له في تركِ الصَّلاةِ ما دام يعقل، ما دام عقله فيه لا عذر له في ترك الصَّلاة؛ فكيفَ بالقويّ القادر، ولا يُبالي بالصَّلاة وإخراجها عن وقتها! قال: "إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ السُّجُودَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى جَبْهَتِهِ شَيْئاً" أي: لا يلزمهُ أن يرفعَ شيء إلى جبهتهِ يسْجُدْ عليه، وهو كذلك عند عامة العُلماء.
وقالَ الشَّافعي وغيرهُ:
يقول: "أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى جَبْهَتِهِ شَيْئاً" فمن عجزَ عن الرّكوعِ والسّجودِ، كفاهُ الإيماء، ويجعلُ الإيماء للسّجودِ أخفضُ من الإيماءِ للرّكوعِ. فمن كان يقدرُ على القيامِ دون الرّكوعِ، فكذلكَ يقومُ ويُومئُ من القيامِ للرّكوعِ.
والقادرُ على القيامِ فقط دونَ السّجودِ، والجلوسُ يُومئ لهما وهو قائمٌ، وهكذا يعملُ ما استطاعَ ولا عُذرَ لهُ في تركِ الصَّلاةِ من أصلها.
ثم ذكرَ لنا حديثَ "بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَاءَ الْمَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ، بَدَأَ بِصَلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا شَيْئاً"
ولأجلِ السَّعةِ في أمرِ الرَّاتبة، فهي تبقى القبلية، ولا تنقطعُ بفعلِ الفرضِ، ويبقى وقتها ما بقي وقتُ الفريضةِ، كما يخرجُ وقتُ البَعديَّة في نفسِ الوقتِ الذي يخرجُ فيهِ وقت القبلية وهو خروج وقتُ الصَّلاةِ. ولا إشكالَ في أن يُصلِّيَّ أولاً الراتبةَ ثم يُصلِّيَّ المكتوبة؛ ولكن ذهبَ ابن عمر إلى المُبادرة بصلاةِ الفريضةِ إذا قد صُليتْ؛ لأنَّهُ يُمكنهُ التَّداركُ بعدَ ذلكَ للقبليةِ والبَعديَّة.
ويقولُ الإمامُ مَالِك: من أتى المسجد وقد صلى القوم فيه المكتوبة فأراد أن يتطوع قبل المكتوبة قال ما أرى بذلك بأسًا. وقد قالَ أيضًا الإمامُ مَالِك في مَن نسيَّ صلاةً فذكرها أرادَ أن يتطوعَ قبلها فقالَ: لا، لماذا؟ قالَ: لأنَّهُ قد مَضى وقتُ الصَّلاةِ عليهِ بخلافِ هذا، فقد بقيَّ في وقت الصَّلاة، بقيَّ فيمكنُ أن يتطوعَ أولاً ثُم يُصلِّي. هكذا كلام الإمامُ مَالِك عليهِ رحمةُ اللّٰه تباركَ وتعالى.
ويَذكر أبن عابدين من الحَنفية أنَّ التطوعَ إمَّا سُنة مُؤكدة وهي الرَّواتب، وغيرَ مؤكدة ما زادَ عليها، والمُصلِّي لا يخلو إمَّا يُؤدي الفرض بجماعة أو منفرد، فإن كان بجماعة يُصلِّي سنن الرَّواتب لكونها مُؤكدة، وإنْ كان منفردًا، فكذلكَ وقيلَ يتخيرُ.
وقد شُرعتِ النَّافلةُ:
وأورد لنا حديث "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ الرَّجُلُ كَلاَماً" يعني: أجابَ عليهِ بالسلام، "فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إِذَا سُلِّمَ عَلَى أَحَدِكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلاَ يَتَكَلَّمْ" فإنَّ إباحةَ الكلامِ كانتْ في أولِ الأمرِ ثم نُهوا عن ذلك (..وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238]. وجُعلَ خِطابَ الأدمي مُبطلاً للصَّلاةِ، فكُلُ كلامٍ يُصلحُ خطابًا للآدميّ تَبطلُ بهِ الصَّلاة. وجاءَ عن بْنِ مسعودٍ أنَّهُ سلَّم على النَّبي ﷺ وهو يُصلِّي فلم يردَ عليهِ، فلمَّا سلَّمَ قالَ: "إنَّ في الصَّلاةِ لشُغلا" وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: يردُ عليهم إشارة فقط؛ ولا يجوزُ أنْ يتكلمَ، كما سمعت حديث ابْنَ عُمَرَ.
وجاءَ عن الإمامِ أحمدْ أنَّهُ سلَّمَ على مُصليِّ، وفعل ذلكَ ابنَ عُمَرَ، وكرِهَ عطاء والشّعبي وإسحاق أنْ يُسلموا على المُصلِّي، لأنَّ في الصَّلاةِ شُغل، حتى على القارئ أثناءَ قراءتهُ، فالأفضل أن لا يشغلهُ بالسَّلام؛ ولكِن لا يجوز للمُصلِّي أن يردَ كلامًا قطعًا، ولا يلزمهُ الإشارة كذلكَ؛ ولكِن قالَ بها بعضُ أهلُ العلم.، فيبدو أنَّهم لمَّا رأوا فعلهُ ﷺ مرةً إذ سلّمَ عليهِ بعضهم وهو في الصَّلاة، فأشار إليهِ بيدهِ ولم يتكلّم، فكأنَّ الإشارةَ كانت مُراعاةً لحال ذلكَ المُسلَّم. وهو يختلفُ عن ابْنِ مسعود، ابْنِ مسعود رجلٌ متمكن، وقويِّ؛ فلم يشتغِل بالسَّلام عليهِ لا إشارةً ولا كلامًا، فأشارَ على الآخرِ الذي سلَّمَ عليهِ كأنَّهُ مُراعاةً لحالهِ ولِقلبهِ، لكِن بالإشارةِ من دون الكلام. وبذلكَ أختلفَ المجتهدونَ بعد ذلك أيُشيروا أم لا يُشيروا؟ والأصلُ أنَّ المُصلي مشغولٌ بما هو فيهِ، فلا يلزمهُ ردُ السَّلامِ لا بكلامٍ ولا بإشارةٍ، بل كرِهوا أن يُسَلَّمَ على المُصلِّي، بعضُ أهلِ العلمِ، ولم يكرهُ ذلك بعضُ أهلِ العلمِ.
فإنّ فعلَ الأمرُ في اللغة العربية قد يكون مركبًا من حرفٍ واحد:
فهذا حرفٌ واحد، مكسورٌ يُخاطبُ بهِ المُذكر، فإذا نطقَ بهِ المُصلِّي بَطُلت صلاتهُ، لأنَّهُ مُفهم.
لِما جاءَ أنه ﷺ لمَّا ظنّ أنَّهُ خرجَ من الصَّلاةِ وكان سلَّمَ من ركعتين في الرُّباعيةِ، فقالَ له لو ذو اليدين: أقصُرتِ الصَّلاة أم نسيتَ يا رسول اللّٰه؟ قالَ: "كل ذلك لم يكن" قال: بلى بعضُ ذلكَ قد كان، قال: "أحقٌ ما يقولُ ذو اليدين؟" أشاروا نعم، فرجعَ إلى مكانهِ فكمَّل ركعتين ﷺ.
وجاءَ بعضُ الأعرابِ فدخلوا فصلَّى مع النَّبي ﷺ فصادفَ أنَّ عطسَ بعضُ القومِ فحمَّدَ اللّٰه، فخاطبه وقال له: يرحمُكَ اللّٰه، فلمَّا سمعوا مُتكلم في الصَّلاةِ وقد نُهوا عن الكلام في الصَّلاةِ؛ لكنَّ هذا أعرابي جاءَ من الباديةِ لا يعرف، رَّمقوهُ بأبصارهم، فلما رأهم قالَ: ما لكم تنظرون إليّ؟ ما لكم! أشاروا إليهِ أنَّ أسكُت، فسكتْ وكمَّل الصَّلاة، فأحسَّ النَّبي بكلامِ المُتكلم في الصَّلاةِ، قالَ: "من المُتكلم في صلاتهِ؟" قالَوا هذا يا رسول الله، قال: "تعال" فجئت إليهِ فأبي لقد وجدتُهُ خيرَ مُعلم، واللّٰه ما قهرني، ولا نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني؛ ولكِن قالَ لي: "يا عبد اللّٰهِ إنَّ هذهِ الصَّلاة لا تَصلحُ لشيءٍ من كلام الآدميين، إنَّما هي التِّلاوة، والذَّكرُ، والدُّعاء" خلاص تعلمَ الرجُل، وفرِح من أسلوبِ النَّبي في تعليمهِ، وصارَ متفقهًا، ولم تثُرَ نفسهُ، صلّى اللّٰهُ على خيرِ المُعلمين.
فإذا نبَّهَ الإمامَ في الصَّلاة بتسبيح فليقصد امتثالَ الأمر، والذَّكر للّٰهِ تعالى، لا مُجرد إعلام الإمام فإنَّ هُناكَ خلاف في إذا تجردت نيِّتهُ لإعلام الإمام هل تبطلُ صلاتهُ أم لا؟ كما إذا قرأ آيةً يفهم منها السَّامعُ معناهُ، وهو يقصدُ تلاوةُ القرآن لا تَبْطل بذلكَ صلاتهُ؛ ولكِن لا ينبغي إستعمال مثلُ ذلك لغيرِ ضرورة قطعًا. علِمنا الرَّاجحُ الذي عليهِ كثيرٌ مِنْ العِلم: أنَّ المُصلِّي لا يُسلِّم عليهِ، ولا يلزمُه ردُّ السَّلام، لا بالإشارةِ، ولا بالنطقِ من بابِ أولى.
ثُم ذكرَ قضاء الصَّلاة، "مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا، إِلاَّ وَهُوَ مَعَ الإِمَامِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ، فَلْيُصَلِّ الصَّلاَةَ الَّتِى نَسِيَ، ثُمَّ لِيُصَلِّ بَعْدَهَا الأُخْرَى" وفي هذا مسألة التَّرتيب، وأوجبها أهلُ الحَنفية.
إذاً اختلفُوا في وجوبِ التَّرتيب في قضاءِ ما فاتَ من المَنسيات من الصَّلاة، وما فاتَ بعُذرٍ.
وأوردَ حديثَ: "وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلاَتِي، انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّي الأَيْسَرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِكَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ رَأَيْتُكَ فَانْصَرَفْتُ إِلَيْكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ" يعني: اشتهرَ بينهم أنَّ المُصلِّي إذا سلَّم ينصرف عن يمينهِ، وليسَ ذلك من السُّنة، فليَنصرف لحاجتهِ، فإن لم يكن لهُ حاجةٌ فاليمينُ أولى من باب عموم يُحِبُ التَّيمُن، أما إن كان لهُ حاجة فلا. وهو الغالب من فعلهِ ﷺ فإنَّ حُجرتهُ إلى جهةِ اليسار، وإذا صلَّى انصرف إلى جهة حجرتهِ في كثيرٍ من الأحيان، وهو يسار القِبلة. فلا ينبغي أن يتَّحرّى الإنصراف عن اليمين؛ بل ينصرفُ إلى حاجتهِ، إن كانت حاجتُه عن اليمين انصرفَ إلى اليمين، إن كانت حاجته عنِ اليسار انصرف إلى اليسار. كان الباب الذي يخرجُ منهُ إلى جِهةِ اليمين انصرفَ إلى جهة اليمين، وإن كان عن جِهةِ اليسار، انصرف إلى اليسار.
وهكذا قال ابْنِ عُمر قال: لماذا لم تَنصرِف عن يمينك؟ قال رأيتُكَ وأنا أردت أكلمك فجئت إليك، قال: أصَبْتَ. هكذا السُّنة، "إِنَّ قَائِلاً يَقُولُ: انْصَرِفْ عَنْ يَمِينِكَ، فَإِذَا كُنْتَ تُصَلِّي فَانْصَرِفْ حَيْثُ شِئْت، إِنْ شِئْتَ عَنْ يَمِينِكَ، وَإِنْ شِئْتَ عَنْ يَسَارِكَ". أي: فلم يرِدْ في ذلك أمر. إلا أنَّهُ قالَوا للإمامِ: نعم، الإمام ينبغي أن يلتفِتَ إلى يمينهِ، عن يمينهِ، فيقابلَ المأمومين، أي الجانب الأيمن من الصَّف. وقد كان تسابقَ جماعة من الصَّحابةِ للصَّلاةِ عن اليمين، لأنَّهُ إذا صلَّى إنصرفَ إليهم ، كأنَّ وجهَهُ ورقةِ مصحف. صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّم. والله أعلم.
رزقنا الله الإيمانَ واليقين، ومتابعة حبيبهِ الأمين، ورفعنا إلى أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ووقانا الأسواء والأدواء، وحققنا بالتَّقوى، وأصلَّحَ لنا السِّر والنَّجوى. ودفعَ عنا وعن الأمة كلَّ بلوى، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
17 ربيع الأول 1442