(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الالتفاتُ والتَّصفيق عند الحاجة في الصلاة.
فجر الإثنين 9 ربيع الأول 1442هـ.
باب الاِلْتِفَاتِ وَالتَّصْفِيقِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الصَّلاَةِ
453 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ التَّصْفِيقِ الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لاِبْنِ أبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ مِنَ التَّصْفِيحِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ".
454 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ.
455 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ ،عَنْ أبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ ،أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَرَائِي وَلاَ أَشْعُرُ، فَالْتَفَتُّ فَغَمَزَنِى.
الحمد لله مُكرمنا بالصلاة وخيراتها، وعظيم بركاتها، وغالي ثمراتها. وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على خير من أقامها ونَشَر أعلامها، فكان قدوة القدوة فيها وإمامها، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد أكرم من صلى لك وسجد، وعلى آله وأصحابه من كل مقرّبٍ أمجد، وعلى من اتّبعهم ووالاهم بإحسانٍ على منهج الرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلتهم لديك خيرة من ركع وسجد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- الأحاديث المتعلقة بالصلاة، ويذكر في هذا حديث الإلتفات والتصفيق في الصلاة عند الحاجة لذلك، فأورد لنا الحديث الذي خرج فيه ﷺ بعد صلاة الظهر، يصلح بين بني عمرو بن عوف، بين أفراد تلك القبيلة، في أمرٍ شجر بينهم، فبعد أن صلّى الظهر في مسجده الشريف، توجّه للإصلاح بينهم، وقال لسيدنا بلال -رضي الله تعالى عنه- مما جاء في رواية: إن حضرت الصلاة -يعني العصر- ولم آتك، فأقم، وأمر أبا بكر يصلي بالناس. فخرج ﷺ، وطال مجلسه بين القوم، حتى أتمّ الصلح بينهم، وعاد على قُرب العصر، فحضر الوقت، والتفت سيدنا بلال، ولم يجد أثرًا لرجوع رسول الله ﷺ من ديار بني عمرو بن عوف، فجاء إلى أبي بكر وقال له: تقدّم، فإن رسول الله ﷺ قال لي كذا، فأقام بلال وتقدّم أبو بكر يصلي بالناس صلاة العصر. هكذا كما جاء في مجموع الروايات، فعاد ﷺ فوجدهم قد اصطفّوا في الصلاة يصلون، فدخل بين الصفوف شقّها إلى الصف الأول وقام يحرم خلف أبي بكر الصديق، فشاهد الناس رسول الله ﷺ وأحبّوا أن يؤمّهم بنفسه، فصفّقوا ينبّهون أبا بكر ليلتفت ويرى النبي ﷺ. وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته -عليه رضوان الله- وذلك لما عَلِمَ من النهي عن ذلك، وأنه ممّا يخلّ بالأدب في الصلاة بالإجماع والاتفاق، وإنما اختلافهم في إبطال الصلاة أيبطل أم لا؟
والالتفات في الصلاة قسّموه إلى:
فأمّا الالتفات بالوجه: فهو لغير ضرورة، لغير حاجة؛ الاختلاسةُ التي يختلسها الشيطان من صلاة العبد. وهذا الملتفت يسرق صلاته على نفسه، فيُذهب على نفسه ثواب الصلاة وأجرها ومكانتها عند الله بالالتفات. وفيه يروى أنه إذا قام ابن آدم يصلي، أقبل الله عليه بوجهه، فإذا التفت، قال الله: ابن آدم التفت إلى غيري! أغيري خيرٌ له منّي؟ فإذا التفت الثانية، قال الله تعالى: ابن آدم! التفَتَّ إلى من هو خيرٌ لك مني؟ فإذا التفت الثالثة، أعرضَ الله عنه. فلذا ينبغي للمصلي أن يُثَبِّتَ نظرَه في محلِّ سجوده، ويحذر الالتفات.
وأما الالتفات بالقلب، فهو أن يفكّر في غير الصلاة، ويستحضر غير معنى الفعل والقول الذي هو فيه، والحق ينظر إلى القلب، فلا يرى قلبك ملتفتًا عنه، وأنت في صورتك في الصلاة له وفي حضرته، وتكون منصرفًا إلى ما سواه! فاستحيي منه -جلّ جلاله- وتعوَّد حضورَ القلب معه في معنى ما تفعل ومعنى ما تقول.
فإن للقيام معنى، فاستحضِرْهُ طيلة ما كنت قائمًا، وللركوع معنى فاستحضِرْهُ ما كنت راكعًا، وللسجود معنى فاستحضِرْهُ ما كنت ساجدًا، وللجلوس معنى فاستحضِرْ معنى الجلوس بين يدي مَلِكِ المُلوك، مادمت جالسًا، وفي كل من القيام، والركوع، والاعتدال، والسجود، والجلوس، أذكارٌ وأقوالٌ تقولها، فاستحضِرْ معانيها في قلبك.
فمع علمه بما يقول ويفعل، إذا اقترن به تعظيم القلب وإجلاله لمن يقف بين يديه، وتفهُّم المعاني للأفعال والأقوال هذه.
فإذا اقترن هذه المعاني كلها بالحضور، فهو الخشوع. فالخشوع الذي عبّروا عنه بحضور القلب وتفهُّمُ القراءة وتدبُّرُها ينتظمُ من هذه الستة المعاني كلها:
ست معاني إذا اجتمعت، فقد حصل الخشوع، المشار إليه بقول ربنا (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2] وإن هذه المعاني الست تُنازل قلوب أهل الصدق مع الله في الصلاة، وخارج الصلاة.
وفي مثلهم قيل إنهم على صلاتهم دائمون، فهم أيضًا في مختلف الأحوال، وعلى درجاتٍ ومراتب، حتى يستغرق بعضهم كل الأحوال يكون حاضر القلب مع هذا الإله، ويكون مع حضور القلب مع هذا الإله معظِّمًا مُجِلًا، ومع التعظيم متفهِّمًا لمعنى دلالات هذه الكائنات، ودلالات ما يحدث منها، وما يحدث لها من آثار قدرته وإرادته وتصريفه، وما حَوَته من آيات وراء ذلك، وهو يهاب الجبّار، ويخاف أن يعرِضَ عنه، ويخاف أن يُنزِلَ به سوءًا، أو أن يحجبه، أو أن يخذله إلى معصية. وهو مع ذلك، يرجو في كل لحظاته وأنفاسه وخطراته يرجو نفحاتِ ربه، يرجو رضوانَه، ويرجو قُربه، وزيادة قربه، ويرجو زيادة معرفته. وهو مع ذلك كله، مستشعر تقصيره، فهو ذو حياء، فهو خاشع حتى ولو كان في السوق، وهو خاشع حتى ولو كان مضطجعًا للنوم، وهو خاشع حتى ولو كان يتناول الطعام، وهو يفكر في مُطعِمه، وما جعل في الطعام الذي أوصله إليه من دلالات، وعِبَرٍ، وآيات. قال سيدنا الخليل إبراهيم وهو من سادة الخاشعين: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [إبراهيم:79]. فهو حاضر مع الله، خاشع وقت الطعام، (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ، هو، هو يطعمني ويسقين! فانظر إلى رؤية الوسائل والوسائط كلها أسباب مسخرة بفعال من فعَّالٍ واحد، فسقط عنه شهود الأسباب والوسائل والوسائط، قال: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ، فصارت الوسائط والوسائل، صفحات جلالِ وجمالِ الفَعَّال جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا شأن الصلاة والإقبال فيها على الله تبارك وتعالى، يقول: ينبغي أن يطلب الخشوع، ويستكمل معانيه في كل عبادة، وفي كل ذكر وتلاوة، وفي جميع الأحوال بعد ذلك؛ ارتقاءً واعتلاءًا للحضور الدائم مع الله تبارك وتعالى.
وهكذا، يُكرَه الإلتفات بوجهه يمنةً أو يسرة بغير حاجةٍ وضرورةٍ.
يقول : "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ"، قالوا: وفي هذا تَوَلي الإمامِ بنفسه والحاكم، الصلحَ بين بعض طوائف الرعية، والذهاب إلى أماكنهم، وخروجه إليهم في مواطنهم إذا اقتضت الحاجة والمصلحة ذلك، فكان يتفقّد شؤون أصحابه وأمّته ﷺ، وبنفسه خرج في هذا الوقت؛ ما بين الظهر والعصر، بعد أن صلى بالناس الظهر، وذهب إلى ديار بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، ويؤلف بين قلوبهم، ويرفع الإشكالات من بينهم، ليطيب لهم حسن أداء أمر الله، وإلتفافِهم على وحي الله وبلاغ رسوله ﷺ؛ فيؤَدوا مهمّتهم في الحياة على صفاء ووفاء، بلا كدوراتِ ومنازعاتٍ ولا مخاصَماتٍ. وبذلك جاءنا الحث القوي في الشرع المطهر، أن نتدراك ونبادر إبعاد الخصومات، ونسعى إلى الصلح، لأن ذلك أطيب لعبادة الرب، وللقيام بما أحب جلّ جلاله وتعالى في علاه.
فخرج بنفسه ﷺ ليصلح بين بني عمرو بن عوف، إذ كان بينهم ما كان؛ وفيه خروج الإمام والحاكم إذا اقتضى الأمر ذلك والمصلحة للمسلمين، فخرج بنفسه ﷺ. "وَحَانَتِ" حضرت "الصَّلاَةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ" وهو سيدنا بلال "إِلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" -رضي الله عنه- وقد سمعنا ما جاء في رواية أحمد وأبي داود وابن حبان: أنه ﷺ قال لبلال: إن حضرتَ العصر، ولم آتِكَ، فمُر أبا بكرٍ فليُصَلِّ بالناس. ومع ذلك فإن بلال جاء إلى أبي بكرٍ يُعلِمه، ولهذا يقول: الأولى أن يكون المؤذّن نفسُه هو المقيم، وإن كان يجوز أن يقيمَ غيرُه، ولكن الأفضل أن يكون المُقيم هو المؤذن نفسُه، وبأمرِ الإمام. فإنه جاء إلى أبي بكرٍ يقول له أن النبي ﷺ قال كذا، فأمَرَهُ أن يقيمَ الصلاةَ.
فجاء سيدنا بلالْ إلى أبي بكرٍ الصديق، قال: أن رسول الله ﷺ تأخر، وقد قال لي كذا، فإن أحببت أن أقيم، قال: إن شئت فأقم، فأقام سيدُنا بلالٌ الصلاةَ، وصلى أبو بكر بالناس رضي الله تعالى عنه. "فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ"؛ يعني: كما جاءكَ الأمرُ والترتيبُ من النبي ﷺ؟ "فَأُقِيمَ؟ فقال: نعم"، ظنًا منه أنه ﷺ يصلي في بني عمرو بن عوف، ولِمَا قد صدر من أمرِهِ لبلالٍ أن يأمرَ أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس، "فصلى أبو بكرٍ"، أي: شَرَعَ في الصلاة. جاء في مسند الإمام أحمد قال: "ثم أقام، فأمر أبو بكرٍ، فتقدمَ، فلما تقدم، جاء رسول الله". وفي البخاري: "وتقدم أبو بكر، فكَبَّرَ". وفي رواية: "فاستفتح أبو بكر الصلاة"؛ فكأنه جاء في الركعة الأولى؛ جاء وهم في الركعة الأولى، بعد إحرام أبي بكرٍ الصديق. ثم إنَّ أبا بكرٍ تأخَّر، واستنابَ الأصلَ الذي استنابَهُ، فقدَّمَهُ، فصار يصلي بصلاة رسول الله ﷺ. والناس يصلّون بصلاة أبي بكر؛ يعني صار كالمبلِّغ، والكل مأمومون صاروا خلفه ﷺ. "فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" فدخل عليه الصلاة والسلام عند رجوعه من بني عمرو بن عوف- "وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ" أي: في أولها "فَتَخَلَّصَ" يعني: من شق الصفوف حتى وصل إلى الصفّ الأول، يمشي بين الإثنين يشقها شقًا، يمشي في الصفوف يشقها شقًا؛ أي: يمشي بين الإثنين من دون أن يمضي في قبلة أحد منهم ﷺ. حتى قام في الصف الأول. في لفظ مسلم: "فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المقدم".
قال: "فَصَفَّقَ النَّاسُ" وفي رواية: "فأخذ الناس بالتصفيح" وهو بمعنى التصفيق، يُقال: ضربوا بأكفّهم على أكفهم. ويروى: "جعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم". وكان أبو بكرٍ في خشوعه لا يلتفت في صلاته، فلما أكثرَ الناسُ التصفيقَ، أحسَّ بهم؛ يعني صفّق منهم العدد الكثير، التفت أبو بكر رضي الله عنه لمّا أكثروا، علم أنه قد نابهم شيء، فالتفت، فإذا برسول الله ﷺ.
فهذا التفاتٌ للحاجة، وهو الذي قلنا أنه لا يكره، وأن الالتفات بغير حاجةٍ مكروه. فلما رأى كثرة التصفيق، علم أنه نابهم شيءٌ في الصلاة، فالتفت، فحصل ما قصدوا من رؤيته لرسول الله ﷺ. فأخذ يرجع، بدأ يتأخر، فأشار إليه ﷺ، "فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ".
فأشار على أبي بكر وكان قد أحرم عليه الصلاة والسلام؛ "أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ" أي: أشار بيده أنه محلك أقم، "فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ" حامدًا شاكرًا على ما أمره به رسول الله ﷺ؛ يعني: ما رضيَه رسول الله أن يكون إمامًا، وأن يبقى في مكانه.
وفي بعض الروايات: أنه مكث لحظةً لامتثال الأمر، ثم رجع، وشكر الله -تبارك وتعالى- وحمده، أنه رضيه رسول الله ﷺ أن يواصل الصلاة، وأن يكون إمامًا لهم. وغلَّب بعد ذلك سلوك الأدب، وكان في امتثاله للأمر أقام لحظة بعد أن أمره بأن يمكث مكانه، ثم رجع. فكان قيام هذه اللحظة أدبٌ منه في ألّا يهمل هذا الأمر، وأن لا يبطلَه، ولا يتجاهلَه، فلما رأى الأمرَ بالمُكْثِ، مَكَثَ لحظةً، ثم عادَ متابَعَةً لحقِّ الأدبِ، رضي الله تعالى عن الصديق. وجاء في رواية أنه حمد الله، وقال: "الحمد لله"
لأنها من جملة الأذكار، بل ونُدِبْنَا إذا نابَ الإمامَ شيءٌ في صلاتِه، أن نسبحَ في الصلاة حتى نذكِّرَهُ.
"ثُمَّ اسْتَأْخَرَ"، ورجعَ إلى ورائه من غير استدبارٍ للقبلة كما جاء في لفظ النسائي: "رجع القهقرى" يعني: على وراءه. حتى قام في الصف. "حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"، فاستُدِلَّ به على جواز إقتداء المصلي بمن يُحرِمُ بالصلاة بعدَه؛ لأن الصديقَ أحرمَ بالصلاة أولًا، ثم اقتدى بالنبي ﷺ حين أحرَمَ بعده.
فتحولت نيةُ سيدنا الصديق من إمامٍ كان يؤمُّ الناسَ، إلى مأمومٍ يقتدي برسول الله ﷺ.
فهذه مسائل تتعلق بالصلاة، منها:
ولو تخلّف إمام الحي عن الصلاة لعذر، وصلى غيرُه، وحضر إمام الحي في أثناء الصلاة، فبنى على صلاة خليفته، يقول ابن قدامة -يحكي مذهب الحنابلة-:
"ثُمَّ انْصَرَفَ"؛ أي أكمل الصلاة ﷺ. فإذا كان قد صلَّوا شيئًا من الصلاة قبلَه، فماذا يفعلون وهو تقدمَ، وهم قد صلوا ركعةً، أو ركعتين؟ الروايات هنا تدل على أنه جاء في أول ركعةٍ، فلما انصرفَ كلَّمَهم كلَّهم في نفس الوقت -وقت التسليم- انتهت صلاتهم كلهم، لكن إذا قد صلوا قبلَه؟ فينتظرونه حتى يصلَ إلى التشهد، ويسلّمون معه، كما رتّب ذلك في الصلاة في الجهاد للخوف. فهو ينتظر المأمومين يؤدّوا صلاتَهم، ثم يسلِّمون معه. فكذلك المأمومون، ينتظروا الإمام حتى يقضي ما بقي عليه من الصلاة، ثم يسلم بهم، ينتظرونه في الجلوس.
"ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ" يعني: على إمامتِك "إِذْ أَمَرْتُكَ"، فالأمر يتحقق بالإشارة؛ إنما أَمَرَهُ بإشارةٍ، "فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لاِبْنِ أبِي قُحَافَةَ" كنيته أبو قحافة، اسمه عثمان بن عامر، واسم سيدنا أبو بكر عبد الله، فهو عبد الله بن عثمان. "مَا كَانَ لاِبْنِ أبِي قُحَافَةَ" هذا أبو قحافة، توفي بعد ابنه سيدنا أبو بكر الصديق، وأسلم عامَ الفتح، وتوفي عام أربعة عشر، في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب، فتعمّر، ولم يتعمّر سيدنا أبو بكر إلا ثلاث وستين سنة. أبوه أدرك خلافة سيدنا عمر، أسلم عام الفتح، فأدرك بعد إسلامِه في إمامة الحبيب ﷺ، وخلافته سنتين؛ أدرك في خلافة ابنه سنتين، ثم أدرك صدرًا من خلافة عمر، هذا ابن أبي قحافة. قال: "مَا كَانَ لاِبْنِ أبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" سيد ولد آدم، والحق يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..) [الحجرات:1]
وبهذا جاؤوا بكلامهم المقدَّم امتثال أمره أو سلوك الأدب؟ ولا تناقض، ولا تعارض، ولكن من حيث ما يبدو في الظاهر. وإلا فسلوك الأدب هو امتثال الأمر، وامتثال الأمر هو سلوك الأدب. إلا أنه كما ذكرنا؛ بأنه إذا عَرَفَ أن الأمرَ من المتبوع لأجل الإكرامِ، لا للإلزامِ، لأجل مجرد الإكرام. ويترتّب على هذا الإكرام إضاعةُ مرتبةٍ في إكرام المتبوعِ نفسه وتعظيمَه، فله أن يخرج عن هذا، ويترك الأمر، فلا يكون خالف الأمر. وله أيضًا امتثالُ الأمر، وإنما يكون زاد أدبًا، وفهمًا للمقاصد.
"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ مِنَ التَّصْفِيحِ" أي: التصفيق. وفيه أن الصلاة لم تبطل بتصفيقهم، ولكن إذا توالت الحركات كما علمنا. "مَنْ نَابَهُ"؛ أصابه "شَيْءٌ" عارضٌ "فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ" يقول: سبحان الله، فيذَكّر بذلك الإمام، "فَلْيُسَبِّحْ" وبعد ذلك إذا سبح، تنبهَ الإمام لحاله.
وقد جاء عنه ﷺ أنه ذكَّرَهُ ابن مسعود مرةً آيةً في الصلاة، فشكره، وأثنى على فعله.
فصار نَقَلهم من التصفيق إلى التسبيح فهل خاص بالرجال؟ أو حتى النساء كذلك؟ وهل قوله إنما التصفيح للنساء، لتشريع؛ أن يصفّح النساء أو يصفق النساء عند هذا؟ أو مجرد إخبار أن هذا عمل من أعمال النساء، فلا تفعلوه أنتم في صلاتكم؟ فعلى الرجال والنساء أن يسبّحوا؟ هذا الذي مال إليه بعض الأئمة.
قالوا : كما هو دأب الشريعة، في أن كل ما يظهر في صوت المرأة، يُحِبّ تأخيرُه.
وهكذا التسبيح للرجال. وبه قال مالك والشافعي وأحمد ويوسف في رواية عن مالك.
وقال أبو حنيفة ومحمد: متى أتى بالذكر جوابًا بطلت صلاتُه؛ ما يسبحون عندما يفتح على الإمام، إن قصد به الإعلام، لأنه في الصلاة. فحمل التسبيح على قصد الإعلام، بأنه في الصلاة.
"فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ". يقول: "عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ". ويقول: "كُنْتُ أُصَلِّي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَرَائِي وَلاَ أَشْعُرُ، فَالْتَفَتُّ فَغَمَزَنِى" يعني: أشار إليه ممكن بالفعل، بمعنى لا تلتفت في الصلاة. وإنما كان جالسًا وراءه، وأبو جعفر يتنفّل، فالتفت فرأى، فأنكرَ عليه. يقول: غمزني؛
الله يرزقنا إقام الصلاة، وأداءها على وجهها، والإحسان فيها، وحضور القلب فيها مع الله، وأن يزيدنا حضورًا وخشوعًا، وأن يمد لنا الحضور خارج الصلاة، يجعل لنا نصيب من حضور المؤمنين معه في مختلف الأحوال، ويدفع عنا الأهوال، ويرزقنا القبول والإقبال، بسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي ﷺ.
11 ربيع الأول 1442