(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة.
فجر الإثنين 2 ربيع الأول 1442هـ.
باب وَضَعِ الْيَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فِي الصَّلاَةِ
438 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أبِي الْمُخَارِقِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ: "إِذَا لَمْ تَسْتَحْي فَافْعَلْ مَا شِئْتَ" وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فِي الصَّلاَةِ، يَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَالاِسْتِينَاءُ بِالسَّحُورِ.
439 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ.
قَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُ إِلاَّ أَنَّهُ يَنْمِي ذَلِكَ.
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيانها، على لسان عبده المصطفى محمّدٍ مُقيم برهانها، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه مخلصًا لوجه ربه في باطن أحواله وإعلانها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من جعلهم الله -تبارك وتعالى- أعلى البرية قدرًا لديه فشأنهم فوق شأنها، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فيواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة في الصلاة، ويقول: "باب وَضَعِ الْيَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فِي الصَّلاَةِ" وذلك من السنن المتعلقة بالصلاة بعد تكبيرة الإحرام؛ أن يضع يده اليمنى على يده اليسرى طيلة القيام، وفي كل قيام يقوم عدا الاعتدال.
فقال : "باب وَضَعِ الْيَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فِي الصَّلاَةِ" وهذه الأحاديث التي ذكرها في الموطأ؛
وعنه أن ذلك في الفرض يُكره، وقيل أن أناط الكراهة إذا أراد الاستناد، لا إذا أراد الاستنان. إلا أن المالكية اختلفوا لِمَ كره الإمام مالك القبض على اليد في الصلاة؟
فلما كان كذلك قالوا: أن من كان دافعه إلى قبض اليدين في الصلاة الاستنان دون الاستناد.. فليس مكروه في حقه كما اعتمده بعض المالكية. وهذه الرواية عن الإمام مالك التي ذكرها في الموطأ في وضع اليد اليمنى على اليسرى.
واختلفوا في كيفية وضعها وفي مكان وضعها:
وفي كلا الحالين يُقال: قبض اليسرى باليمنى، وأخذ اليسرى باليمنى ويضعهما فوق السرّة وتحت الصدر، وهذا أيضًا في رواية عن أحمد.
فأورد لنا هذه الأحاديث. وقد جاء أيضًا في رواية الدارقطني والبيهقي في السنن الكبرى من حديث سيدنا عبدالله بن عباس عنه ﷺ قال: "إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نؤخر السحور، وأن نعَجِّلَ الإفطار، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة"
وصحّحه ابن حبان. "إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نؤخر السحور، وأن نعَجِّلَ الإفطار، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة"، وفيه تصريح بالمسك لا مجرد الوضع على الكف. والوضع على الكف مذهب الإمام أبي حنيفة.
و جاء عن وائل بن حجر يقول: أن النبي ﷺ كَبَّرَ، ثم أخذ شماله بيمينه. في رواية: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر الكف اليسرى والرسغ والساعد". فهذا استدلال الشافعية في كيفية وضع اليمنى على الشمال فبهذه الكيفية:
يكون في الحالين قد قبض اليمنى على اليسرى وهكذا اعتمد الإمام ابن حجر في الأفضلية أن يقبضها. وذكر الإمام الغزالي أن ينشر إصبعيه على ساعده؛ ليكون مظهر السائل المفتقر، وليأمن العبث بيديه، إلى غير ذلك من الحِكم في قبض اليدين إحداهما على الأخرى أثناء القيام في الصلاة. وذلك في القيام ما قبل الركوع، لا ما بعد الركوع فما بعد الركوع فلا يُسنّ قبض اليمنى على اليسرى، بل يرسلهما. فإن كان يقنت، رفعهما للدعاء.
فمحل الوضع كما أسلفنا:
و نازعوا في استئناس بعض الشافعية بقولهم: (فَصَلِّ لربِّكَ وانحَر) [الكوثر:2] أي: اجعل يداك تحت نحرك.
وليس المراد وضع اليد تحت الصدر، وإن جاء في حديثٍ ضعيف.
يروي لنا -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-: "أَنَّهُ قَالَ: مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ:" يعني: مما مضى عليه الأنبياء، واتفقت شرائعهم عليه، واتفقوا عليه، ليس معنى كلامهم ألفاظ تلفظوا بها، كلام النبوة الأولى؛ يعني: شرائع الأنبياء -صلوات الله عليهم- كما دل عليه الرواية التي ذكرناها وصحّحها ابن حبان وعند الدارقطني والبيهقي يقول ﷺ : "إنا معاشر الأنبياء أُمِرْناَ.."؛ هذا هو معناه، ليس معناه أن الأنبياء تكلموا. كلام النبوة، كلام الأنبياء السابقين: يعني من مسلكهم، وشرائعهم، وهديهم، صلوات الله وسلامه عليهم "مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْي فَافْعَلْ مَا شِئْتَ" وجاء في روايةٍ عن أبي مسعود البدري: "إن ممّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"
فالحياءُ -الذي هو شعبة من الإيمان- هديُ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. ويَميل الشيطان ويُميل أتباعه، إلى التجرؤ، والبعد عن الحياء، وهو الذي حذّرت منه النبوات كلها، وأن صاحب ذلك لا يرجى خيره، قال: يصنع ما شاء، أي: فلينتظر سوء المصير. "إِذَا لَمْ تَسْتَحْي فَافْعَلْ مَا شِئْتَ"" فيتعَرَّض لسوء المصير -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وأنّه يتجرأ فيقتحم الموبقات والسيئات غير عابئٍ.
والحياء شعبة من الإيمان. وهكذا.. الحياءُ على وجهه، دأبُ الأنبياء، ودأبُ ورثتِهم. وقد ضرب ساداتنا الصحابة المثل لسيدنا المصطفى ﷺ وقالوا: "كان أشد حياءً من العذراء في خدرها" -صلوات ربي وسلامه عليه- ومع ذلك "كان إذا أُضيعَ حقُّ الله، لم يقمْ أحدٌ لغضبهِ". فالحياءُ بضوابطِه، ووضعِه الصحيح، هو دأبُ الأنبياءِ -صلواتُ الله وسلامه عليهم- وورثتهم. فالله يرزقنا ذلك، ويربّي أبناءنا وبناتنا على ذلك، فإن أبواق إبليس المنتشرة عند كثيرٍ من طوائف الناس في الشرق والغرب، تدعو إلى قلة الحياء، وإلى استحقار الحياء، وإلى اعتبار الحياءِ نقص وإلى اعتباره ضعفا، وكذبوا، وما لقولهم من صحة ولا من حقيقة، كذبوا والله! وصَدَق الأنبياء والمرسلون، وكذب المجترِئون المفترون. ويُمْلون على العقول الناقصة التي تصدّق خداعهم: أنكم بهذه الحياء تربّون أنفسكم على عدم الثقة، وتربّون أولادكم على تحطيم مواهبهم.. كذبوا! بل صقل المواهب بالحياء الصحيح، والترغيب في كل مليح، شأن أهل ذلك المنهج القويم السميح. ولذا يقول شاعرهم في بيان منزلة الحياء:
إذا لم تَصُنْ عِرضًا ولم تخشَ خالقًا *** وتستحِ مخلوقًا فما شئتَ فاصنعِ
ما يُرجى منك الخير، وانتظر سوء المصير قدامك.. فما شئت فاصنعِ.
كما قال: (..اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت:40] يعني ماذا؟ يعني يجوز لكم أن تعملوا؟ أي: عيب عليكم ومصيركم خطير، قال:
إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي *** ولم تستحِ فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيشِ خيرٌ *** ولا الدنيا إذا ذهبَ الحياءُ
بل جاء في بعض الأخبار عن الصحابة أنه كان إذا كان يجتمع نحو العشرين من الأمة ليس فيهم من يُستحيَا منه، فقد دنى هلاكها، أو ذهب الخير فيها! إذا كان يجتمع العشرين من الأمة ليس فيهم من يُستحيَا منه، هذا علامة انحطاط الأمة وفسادها وذهاب الخير منها -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وقالوا: الشَّرُّ كلُّه في مجالسة من لا يُستحَيا منه. وما دام بين الناس مَن حياؤهم من الله أضفى عليهم هيبةً، جعلت الفِطَر تستحي أمامَهم، فالناسُ على خير. وإذا وقعت الجراءة على الحق -جل جلاله- فصاروا لا يستحىا منهم، وذهب من يُستحيا منهم، فقد عمّهم الفساد والشر والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وحثّ ﷺ على الحياء، وحثّ كذلك على "وَضْعُ الْيَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فِي الصَّلاَة"، فسرّها الإمام مالك بقوله: "يَضَعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى". وجاء في حديث ابن ماجه يقول: "كان النبي ﷺ يؤمّنا، فيأخذ شماله بيمينه". وفي حديث سيدنا وائل بن حجر كما روى الإمام مسلم في صحيحه: "أن رسول الله ﷺ رفع يديه" يعني: للتكبير، ثم قال: "ثم وضع يده اليمنى على اليسرى". كما جاء في رواية أبي داود والنسائي أيضًا وابن ماجه عن ابن مسعود: أنه كان يصلّي، فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي ﷺ فجاء وغيّر يده" أَخَّرَ اليسرى وقدّمها، وضع اليمنى فوق اليسرى. هو كان يصلي سيدنا عبد الله بن مسعود و وضع اليسرى على اليمنى، فجاءه ﷺ أَخَّرَ يدَه هذه، ورفع اليمنى ووضعها فوق اليسرى. وسمعنا حديث: "إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْناَ بأن نمسك بأيماننا على شمائلنا" كما تقدّم معنا.
"وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ" من سنن النبيين إذا غربت الشمس، فمن كان يتأنّى حتى يرى النجوم أوغيرها، فقد خالف سنة الأنبياء. وسنّته إذا تيقن غروب الشمس أن يبادرَ بالفِطر، وأن يفطرَ قبل أن يصليَ المغربَ، فإذا تيقنَ غروبَ الشمس، بادر إلى الإفطار. وهذا من سنة النبيين. "وَالاِسْتِينَاءُ بِالسَّحُورِ."؛ أي: التأنّي التأخر، فيؤخره فلا يعجل به، ما لم يقع في شكٍ، فيتسحّر وهو غير شاكٍّ بطلوع الفجر. وكان بين سحوره ﷺ والصلاة -أي دخول وقت الصلاة- مقدار خمسين آية. "وَالاِسْتِينَاءُ بِالسَّحُورِ".
إذًا: علمنا أن اختيار جمهور العلماء أن السنّة أن يضع المصلي يده اليمنى على يده اليسرى، وعليه الحنفية والشافعية والحنابلة، وقول مالك هذا الذي في الموطأ. و قوله بعد ذلك في المدونة وغيرها أنه يرسل ولا يضم. وجاء في ذلك ما أشرنا إليه من الروايات، فالقول الثاني: استحباب الإرسال وكراهية القبض في الفرض هذا عند المالكية، المعتمد عند المالكية: كَرِهَ قبض اليدين في الفرض؛ لأنه كما علمنا في ترجيح بعض المالكية لعلّة الاستناد؛ أنه فيه شي من الاستناد والتخفيف، فيقول لا يستند في الفرض، وعنده لا بأس بالاستناد في النفل إذا طال، فإذا طال النفل يقبض يديه.
ويتحصل من بعض الأقوال عند الأئمة أنه يباح هذا القبض في الفرض والنفل، وهذا معتمد عند الأئمة الثلاثة وهو قول عند المالكية كذلك. وفي قولٍ: أنه لا يقبض لا في الفرض ولا في النفل وهذا أغرب الأقوال.
وعلمت معتمد الأئمة الأربعة:
وهل يضعه على الكف أو يقبض الكوع؟
فهذا خلاصة الأقوال في وضع اليدين في الصلاة.
وروى لنا: "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُ إِلاَّ أَنَّهُ يَنْمِي ذَلِكَ."يعني: يرفعه للنبي ﷺ- وإذا قال في الحديث: يُنمِي، أو يرفعه، أو يبلغ به، فالمراد إضافته للنبي ﷺ وهو المسمى في اصطلاحهم بالحديث المرفوع.
وما أُضيفَ للنبي المرفوعُ *** وما لتابعٍ هو المقطوعُ
والمضافُ إلى الصحابي هو الموقوف.
سُمّيَ مرفوعًا لارتفاع قدره بإضافته إلى رفيع القدر ﷺ. فإذا قال المحدثون: يرفعه، أو يبلغ به، أو يُنميه، فالمقصود: يضيفه إلى النبي ﷺ. وهكذا قَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُ إِلاَّ أَنَّهُ يَنْمِي ذَلِكَ. يعني: يرفعه للنبي ﷺ.
"أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى"، يعني: على رسغه، ليس على الكف. ثم ذكر باب القنوت في الصبح ، ويأتي أيضًا كلام الأئمة على القنوت في الصبح.
جعلنا الله من القانتين، المنيبين، الخاضعين، الخاشعين، الموفقين الصادقين، المقيمين للصلاة على الوجه الأرضى لله، والأحبّ إليه وإلى مصطفاه، حتى نكون وأهالِينا، وأُسرنا، وأولادنا، وذرّياتنا، وذوينا، وطلابنا، وأصحابنا، من خواصّ من يقيم الصلاة، في لطفٍ وعافيةٍ وتمكينٍ مكين، وإلى حضرة النبي ﷺ.
07 ربيع الأول 1442