شرح الموطأ -77- كتاب قصر الصلاة في السفر: باب جامعُ سُبْحة الضحى، وباب التشديد في أن يمر أحد بين يديّ المصلي

شرح الموطأ -77- كتاب الصلاة، باب جامعُ سُبْحة الضحى، من حديث: (أنس بن مالك أن جدته مليكة دعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامعُ سُبْحة الضحى، باب التشديد في أن يمرّ أحد بين يديّ المصلي.

فجر الأربعاء 27 صفر 1442هـ.

باب جَامِعِ سُبْحَةِ الضُّحَى

421 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِطَعَامٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قُومُوا فَلأُصَلِّيَ لَكُمْ". قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.

422 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بن مَسْعُود، عَنْ أبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْهَاجِرَةِ، فَوَجَدْتُهُ يُسَبِّحُ، فَقُمْتُ وَرَاءَهُ، فَقَرَّبَنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا جَاءَ يَرْفَأُ، تَأَخَّرْتُ فَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ.

باب التَّشْدِيدِ فِي أَنْ يَمُرَّ أَحَدٌ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّى

423 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلاَ يَدَعْ أَحَداً يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ".

424 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَرْسَلَهُ إِلَى أبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ: مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ". قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ شَهْراً، أَوْ سَنَةً.

425 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي، مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يُخْسَفَ بِهِ، خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ.

426 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ، أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ أَيْدِي النِّسَاءِ وَهُنَّ يُصَلِّينَ.

427 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدٍ، وَلاَ يَدَعُ أَحَداً يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرِمنا بالشريعة والهدى، وبيانها على لسان عبده أحمدا، اللهمّ صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه السعداء، وعلى من والاهم فيك وبهديهم اقتدى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، من رفعت قَدرهم فلم تُنل منزلتهم من بعدهم ممّن سواهم أحدًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين، وعبادك الصالحين المُراقبين لك فيما خفي وما بدا، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين أبدًا سرمدًا.

وبعدُ،

 فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بعد أن ذكر أحاديث في فضل صلاة الضحى، "باب جَامِعِ سُبْحَةِ الضُّحَى"؛ أي: نافلتها وصلاتها، وسُميت الصلاةُ سُبْحَةً لاشتمالها على التسبيح. قال: حدثني "أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ"  وهي أُم أُمه، وأُمه: أُم سليم، "جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِطَعَامٍ"؛ أي: لأجل طعام صنعته له "فَأَكَلَ مِنْهُ"، رسول ﷺ وأجاب الدعوة وتلك من سنّته، وهو الذي يُروى عنه "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِراعٍ أوْ كرَاعٍ لَأَجَبْتُ"، صلوات ربي وسلامه عليه، فأكل منه أي: بعضه، وفيه مراعاة أن يُبقي الذي قُدِّم له الطعام -الضيف- شيئًا من ذلك يكون لمن وراءه من أهل البيت أو غيرهم، "فَأَكَلَ مِنْهُ، -ﷺ- ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"قُومُوا فَلأُصَلِّيَ لَكُمْ". قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ"؛ أي: أراد أنْ يَحِلَّ في منزلهم بركةٌ بصلاته في ذلك المكان فصلى لهم، وفيه التعبير عن أي سبب باللام وقول "لكم" ولا إشكال في ذلك ولا كراهة.

وبذلك يبعد التَنَطُّعُ بأن يقول أن الصلاة لله وكيف يقول رسول الله ﷺ: أصلي لكم؟ فإنه يصلي لهم؛ أي: من أجل دخول بركته عليهم في بيتهم ولإكرامهم بذلك، فقال: أصلي لكم ولم يتحرَّج من هذا اللفظ  وهو الأعلم، وهو الأحكم وهو الأفهم، صلوات ربي وسلامه عليه. قال: "فَلأُصَلِّيَ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ" لأنه في بيت جدته يتصرّف ويرتب الأشياء، "فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ" متخّذ من خوص النخل، وكان عامة الفُرُش، وكنا في الصغر نشهدهم في المساجد يفرحوا أن جاءهم اليوم بفرشٍ جديد إلى المسجد من الحصير -من سعف النخل- يمدّونه تحتهم فيصلون عليه، والحصير هذا قديم، "فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ،" يعني: استُعمِل وجُلِسَ عليه، لا أحد يلبس الحصير يمشي فيه هكذا! أراد باللبس؛ يعني: استُعمِل من الجلوس عليه وقد مرت عليه فترة فظهر عليه أثر السواد. " فَنَضَحْتُهُ" و النضح هو: الرش والغُسل الخفيف لِيُلَيِّنَهُ، لِيُلَيِّنَ ذلك الحصير، لا لأجل غسل الحصير، ولكن لِيَتَليَّنَ للقيام عليه وللسجود له يكون ليّنًا خفيفًا، لا تكون أعواده تَمَسُّ البشرة وتجرحها أو يُحِسُّ المصلي عليه بألم، فهكذا كانت منازلهم وديارهم، وهذا الذي يفرشون له ذلك الحصير السيد الكبير، السراج المنير سيد أهل الأرض والسماء ليصلي على ذلك الحصير القديم الذي قد اِسوَدَّ من طول ما استُعمل، وقام عليه يُصلي سيد أهل الأرض والسماء ﷺ. 

" فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" وقد كان له حصير يبسطه يصلي عليه -عليه الصلاة والسلام- وله خُمْرَةٌ من سعف النخل من الحصير يصلي عليه من وقتٍ إلى وقتٍ ﷺ. "وَصَفَفْتُ أَنَا" يعني سيدنا أنس "وَالْيَتِيمُ" الذي كان معهم في البيت، خلف النبي مباشرة ﷺ "وَرَاءَهُ" خلفه. ففيه: 

  • جواز الجماعة في النافلة.
  • وفيه أن يصطفّ الأطفال وراء الإمام إذا لم يكن أكبر منهم من الرجال البالغين، والنساء يَكُنَّ من وراء الصبيان، كما كانت عادته في مسجده الشريف؛ يصطف: 
  • الرجال
  • ثم الأطفال 
  • ثم النساء 

قال: "وَالْعَجُوزُ" أي جدته المذكورة مُليكة "مِنْ وَرَائِنَا" قامت تصلي فصلى بهم ﷺ "فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ"، فبذلك يُعرف:

  • أَن الانفراد في الصف مكروه لغير المرأة إذا لم يكن غيرها، امرأة صلّت وحدها في الصف من  وراءهم فلا يضر ذلك.
  •  وإنما إذا كان رجل فلا يصلي وحده في الصف، وليُحرم إن لم يكن أحد قبله عن يمين الإمام، فإن وجد واحدًا عن يمين الإمام فيُحرم عن يسار الإمام، ثم يتقدم الإمام ويلتصقان، أو يتأخران هما ويلتصقان وهو الأفضل؛ أن يتأخرا ويلتصقان خلف الإمام.
  • وإنْ حضرا من أول الوقت اصطف خلف الإمام صفًا، كما جاء في الحديث أنه قام ﷺ وخلفه سيدنا أنس ومعه واحد

فصفهما وراءه. 

ولمّا كان يصلي فجاء أحدهم فصلى عن يساره فأداره بيده عن يمينه، فجاء الآخر فأحرم عن يساره فبعد إحرامه أخذ بأيديهما وردهما وراءه ﷺ، فاصطفّا وراءه.

 قال: " فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ." فأدخل الإمام مالك هذا في صلاة الضحى؛ لأن الوقت كان وقت ضحى، ولا يتناقض مع قول أنس: ما رأيت رسول الله  صلى الضحى إلا يوم أن جاء إلى بيت بعض الأنصار وقام يصلي؛ فمعناه أنه لم يذهب بباله إلى أنّ هذه صلاة ضحى، وأنه أراد عِمارة المكان والبيت لهم بالصلاة فيه؛ لتكثر بركتهم وخيرهم. 

ولمّا كان الوقت وقت الضحى، أخذ منه الإمام مالك أنّ ذلك من جملة صلاة الضحى، فأورد هذا الحديث في باب صلاة الضحى. و أورد من حديث "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْهَاجِرَةِ،"؛ أي: في وقت الضحى حين تشتد الشمس، حين تبدأ الشمس باشتدادها يقال لها هاجرة، "فَوَجَدْتُهُ يُسَبِّحُ،" بمعنى: يصلي النافلة، "فَقُمْتُ وَرَاءَهُ،" 

  • فرجل واحد إذا صلى خلف الصف لم يكن ذلك هو السُنّة وإن صحَّت صلاته عند الإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي.
  •  ولكن عند الإمام أحمد بن حنبل تبطل صلاته؛ لا تصح، صلاة الرجل منفردًا عن الصف وحده لا تصح.

 بخلاف المرأة فإنه يصح عندهم ذلك، فإذا لم يكن معها أحد من النساء فتصطف وحدها خلف الرجال أو خلف الإمام وحده إن لم يكن إلا هو وزوجته تصلي معه، أو ابنته أو أخته فتصلي وراءه، و لا تقرب منه ولا تكن بمحاذاته، فلا شيء في انفراد المرأة إذا لم يكن غيرها. فإذا جاء الرجل ووجد الصف ممتلئ فيحرم قريبًا منهم، ثم يسحب واحدًا ممن أمامه لينزل إلى الصف وراءه فيصلي معه بعد أن يُحرِم، فَيُسَنُّ للمجرور أن يساعد الذي جَرَّهُ ليصلي معه، ويتقارب مَنْ أمامهم في الصف بعضهم البعض. 

فهكذا لمن جاء والصف مكتمل وليس معه أحد يقوم معه في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع، فيَقرُب من الصف الذي قبله ويحرم ثم يأخذ بثوب أحدٍ ممن قَبله، فينزله معه فيَصطَفَّان في الصف ويلتئم الصف الذي قبلهم. 

وعلمنا أنه يُكره أن يقوم منفردًا -مع صحة الصلاة عند الأئمة الثلاثة- وقال الإمام أحمد أنه لا تصح صلاته منفردًا، قال: "فَقَرَّبَنِي -أي سيدنا عمر- حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ"؛ أي مقابله بجانبه "حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ"، فإذا كان المأموم واحد فيقف عن يمينه قريب منه لا يتأخر عنه إلا يسيرًا، "فَلَمَّا جَاءَ يَرْفَأُ"؛ واحد ثاني وهو حاجب سيدنا عمر بن الخطاب الذي كان يحجبه جاء وأراد أن يصلي معهم "تَأَخَّرْتُ"؛ يعني عن حذاء عمر "فَصَفَفْنَا -أي وقفنا- وَرَاءَهُ." والأصل في السُنّة أن يحرم الثاني أولًا عن يسار الإمام ثم يتأخران معًا، وفيه اهتمام سيدنا عمر بصلاة الضحى. 

فهذا مما يتعلق بالعمل في شأن صلاة الضحى والاهتمام بها، وهي عظيمة الأجر والقدر وينبغي لسالك طريق الآخرة أن يواظب عليها، فيصلي الضحى في كل يوم: 

  • وأقلّها ركعتان كما مرّ معنا. 
  • وأكثرها ثمان وقيل اثنا عشر. 
  • وأشرنا إلى القول عند غير الأئمة الأربعة بعشرين، فهذا عدد صلاة الضحى. 

و تعرضنا لذكر أحاديث: "يا ابنَ آدمَ صَلِّ لي أربعًا أوَّلَ النَهارِ أَكفِكَ آخرَهُ"، وجاء فضل أن يصلي الإنسان في أول النهار أربع ركعات فيتولاه الله في يومه كله ويدفع عنه الآفات.

 ثم مما ورد من الأدعية في صلاة الضحى أن يقول: "اللهم بك أصاول وبك أحاول وبك أقاتل". ووقته بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، والأفضل؛ أفضل أوقاته أن يكون عند مُضي ربع النهار حين ترمض الفِصال وتقوم من حر الشمس من الأرض، فهذا أفضل أوقات صلاة الضحى، وهو يبدأ من ارتفاع الشمس قدر رمح كما علمنا، وتأخيره إلى أن يمضي نحو ربع النهار أفضل. 

ومما جاء عن كثير من الصالحين أنهم اختاروا من الأدعية في ذلك الوقت بعد أن يصلي الضحى أن يقول: اللهمَّ إنّ الضحاء ضحاؤك، والبهاء بهاؤك، والجمال جمالك، والقوة قوّتك، والقدرة قدرتك، والعصمة عصمتك، اللهمَّ بحقّ ضحائك وبهائك وجمالك وقوّتك وقدرتك وعصمتك أجرني من النار ووسّع لي في رزقي.

  وكذلك يأتي الإمام أحمد بن حسن وغيره في دعائه: اللهمَّ إن كان رزقي في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان معسراً فيسّره… في هذا الوقت، وهو وقت تكون فيه الغفلة عند عامة الناس؛ فلهذا سميت الصلاة فيه بصلاة الأوابين الرَجَّاعيْن إلى الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.

 

باب التَّشْدِيدِ فِي أَنْ يَمُرَّ أَحَدٌ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّى

 

ثم ذكر الأحاديث التي تتعلق بالنهي عن المرور بين يدي المُصلّي، والسُنّة للمصلي إن كان إمامًا أو منفردًا أن يصلي إلى شاخصٍ بينه وبين القبلة، فيحرم على أحد أن يمر بين ذلك الشاخص وبين المصلي، فإن لم يجعل له شاخصًا فلا حرج على أحدٍ أن يمر بين يديه إلا ما تعلّق بِحَريمه، وهو إلى موضع سجوده؛ ما بين موضع سجوده و رجليه، لا أحد يمر سواءًا اتخذ له شاخص يصلي إليه أم لا، إما جدار وإما سارية، وإما عود منصوب بين يديه كما كانت تُرْكَزُ العَنَزَة في السفر بين يدي رسول الله  فيصلي إليها. وما أمام محل وضع الجبهة فإن لم يكن صلى إلى شاخص فَلِلمَارِّ أن يمر بين يديه، أو كان على المدخل عند بابٍ أو طريقٍ ليس هناك من طريق غيره فصلى.. فيجوز أن يمر بين يديه؛ لأنه هو الذي قصَّر في عدم اختيار مكان الصلاة. 

  • كما أنه لا ينبغي أن يصلي إلا وبين يديه شاخص يصلي إليه: فإما جدار، وإما سارية، وإلا شيء مرفوع قدر ثلثي ذراع من الأرض يصلي إليه، فيكون حاجزًا بينه وبين من يمر، فلا حرج أن يُمَرُّ أمام ذلك الحاجز. 
  • ولا يُمَرُّ بين الحاجز وبين الإمام. 
  • ولا يكون متباعدًا الحاجز عنه بأكثر من ثلاث أذرع؛ فيكون بين رجله وبين الحاجز أقل من ثلاثة أذرع؛ ثلاث أذرع فأقل ولا تزيد على ذلك، وإلا فلا يكون حاجزًا ولا شاخصًا له. 
  • ولا ينقص ارتفاعه عن ثلثي ذراع. 

 قال: "باب التَّشْدِيدِ فِي أَنْ يَمُرَّ أَحَدٌ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّى"، وذكر لنا: "عن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلاَ يَدَعْ أَحَداً يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ،" أي: يدفعه ويرده "لْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ" وهذا مندوب مسنون أن يَرُدَّ من أراد أن يمر بين يديه، "فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ" أي: يشتد في دفعه؛ يدفعه دفعًا شديدًا، فقد يُعَبَّرُ عن شدة الدفع وشدة الخطاب والمنازعة بالقتال، يقال: قاتله؛ وما المراد به القتال إزهاق روحه ولكن اشتداد المخاصمة والمدافعة، فيقال له: قاتلنا فلانًا أو قاتلت فلانًا. قال: "فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ"؛ يعني: متشبّه بالشياطين وممتثل أمر الشيطان الذي يحب أن يمر الناس بين أيدي المصلين. 

فيُكره المرور بين يدي المصلي، وقد جاء فيه الوعيد العظيم، وحرَّمه من حرَّمه من الأئمة، كما ذكر المالكية والحنفية والشافعية الإثم على هذا المار، لمن كان يصلي فرضًا أو نفلًا وبين يديه شاخص من جهة القبلة، أو يمر في حريمه؛ المكان الذي يسجد فيه أو ما دونه إلى محل قيامه، فلا يجوز له ذلك، وأنه يأثم بذلك فيصير محرّمًا عليه. وعند بعضهم هو مكروه كراهة شديدة، والوعيد جاء فيه؛ لأن ينتظر ويجلس أربعين أحسن له من أن يمر من بين يدي المصلي إلا ما كان من عذر كما تقدم معنا، وتأتي الإشارة إليه في موطأ الإمام مالك.

يقول: "عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي،" إلى أي شيء يستره، بينه وبين القبلة شاخص، وكما جاء في رواية: "إلى شيء يستره"، "فَلاَ يَدَعْ" أي: لا يترك "أَحَداً يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ،" بينه وبين السترة، فهذه فائدة وجود السترة، "وَلْيَدْرَأْهُ" أي: يمنعه ويدفعه أن يمر بين يديه، وهذا أيضًا للندب حيث لا يأثم إن ترك الدرء ولكنه يُكره أن يترك ذلك فيُندَبُ له أن يردّه. "مَا اسْتَطَاعَ،"؛ بحسب قدرته واستطاعته بدءًا بالرفق واللطف ثم الدفع بالعنف بالشدة، "فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ،"  إن أبى إلا أن يمر بين يديه والرجل بينه وبين القبلة شاخص وهو يصلي فإذًا يدفعه بشدة حتى يصدّه عن هذا العبث وهذا المرور بين يدي المصلي.

وفي مذهب مالك قولان في أنَّه:

  • إذا دفعه فسقط هل يضمن أو لا؟ إذا انكسر فيه شيء أو هلك، وبالأخذ من قوله "فَلْيُقَاتِلْهُ" إشارة إلى الرخصة من الشارع في دفعه فلا يكون ضامنًا عليه بشيء.
  • وقيل يضمن، ولكن إذا اشتد الدفع سيتعرض الدافع لبطلان صلاته!

 ويقول عن هذا المُصِّر أن يمر بين يدي المصلي "فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" شبهه بالشيطان وحذف أداة التشبيه للمبالغة، وفيه أنَّ من اتصفّ بصفة يحبها الشيطان وهو آدمي يقال له شيطان.

  • وجاء في لفظٍ في الحديث قال: "فإن معه الشيطان" يريد أن يمرّ معه.
  • وفي لفظ عند الإمام مسلم وغيره: "فإنَّ معه القرين" الملازم للإنسان الذي يمشي معه. 

فإنَّ لكل إنسان قرين من الشياطين وقرين من الملائكة لا يفارقونه، فهذا القرين من غير الحفظة الذين يتعاقبون في الليل والنهار، مع كل واحد منا عشرة من الملائكة في الليل وعشرة في النهار، وغير الكاتبين رقيب وعتيد يكتب الحسنات والسيئات، غير العشرة وغير الكاتبين قرين من الملائكة مرافق له دائمًا إلى أن يموت، يُلقي إليه خواطر الخير ويساعده على التحذّر من الشر وعلى الإقبال على الطاعة وموافقة الشرع الحنيف فهو ناصح أمين، فإذا غفل عن ذكر الله التقم الشيطان قلبه فأخذ يوسوس له، فإن عاد إلى ذكر الله التقمه المَلَك، فإن استرسل مع خاطر الشيطان أسلمه إلى شيطان آخر فتناوبوا قلبه بالوساوس والشر، وإذا استرسل مع خاطر المَلَك والانصياع له سَلَّمَهُ الملك لملك آخر، وسَلَّمهُ آخر لآخر فلا يزال بين الروحانيين والملائكة يُلقَى عليه خواطر الخير، والخَنَّاس الشيطان يَخنَس إذا ذُكِرَ الله تبارك وتعالى، وهكذا جاء الإرشاد منه ﷺ.

ثم يذكر أيضًا: "أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ رضي الله عنه أَرْسَلَهُ إِلَى أبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ : مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ،" يعني: من الإثم والشر والضر، "لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ،" يومًا، وقال بعضهم أن الراوي لم يذكر تحديد الأربعين أربعين يوم، أو أربعين شهر، أو أربعين سنة، "لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" لو وقف أربعين لكان خيرًا له، في لفظ: "لو وقف أربعين"، "قَالَ أَبُو النَّضْرِ : لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ شَهْراً، أَوْ سَنَةً."، لو كان أربعين ساعة لكان كافيًا فكيف باليوم وبالشهر وبالسنة! جاء في رواية عند البزار: "لأن يقف خريفًا" يعني سنة، "لأن يقف خريفًا خير له من أن يمر من بين يدي المصلي".

وجاء في اللفظ الآخر، يقول "كعب الأحبار: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي، مَاذَا عَلَيْهِ،" ماذا عليه من السوء والشر والضر والإثم، "لَكَانَ أَنْ يُخْسَفَ بِهِ،" في الأرض يغوص فيها، "خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ." لأن الخسف عذاب في الدنيا، وعذاب الآخرة أشد. وهكذا أورد عن "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ، أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ أَيْدِي النِّسَاءِ" أيضًا  "وَهُنَّ يُصَلِّينَ." أي: لا يختص ذلك بالرجال. وأورد "عن ابْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدٍ، وَلاَ يَدَعُ أَحَداً يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ." ممتثلًا للأمر.

ثم ذكر الرخصة وهي متعلقة بما كان من عدم وجود شاخص للمصلي، أو كان على الطريق التي يمر الناس فيها فوقف على الباب يصلي ولا ممر للناس إلا من حيث هو، فهو المُقَصِّرْ في ذلك، وسيأتي معنا الأحاديث في ذلك، والله أعلم. 

أكرمنا الله بصدق الإقبال عليه، وعَصمنا وأهلينا وذُرّياتنا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا والمسلمين من البلايا والشرور والآفات ومن كل محذور، ووقانا وإياهم البأس وشر الناس وشر الجِنّة، وجعلنا في وقايةٍ وحِصنٍ وجُنّة من جميع الشرور والبلايا والآفات الظاهرة والباطنة، وجعلنا في حِصنٍ حصين وحِرزٍ متين، ورزقنا حسن المتابعة لحبيبه الأمين، وحمانا به من جميع الآفات ومن كل محذور في البطون والظهور بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

04 ربيع الأول 1442

تاريخ النشر الميلادي

19 أكتوبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام