(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب قصر الصلاة في السفر، تتمة باب قصر الصلاة في السفر، وباب ما يجب فيه قصر الصلاة.
فجر الأحد 24 صفر 1442هـ.
تتمة باب قَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ
391 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ ،عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَجِدُ صَلاَةَ الْخَوْفِ وَصَلاَةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ نَجِدُ صَلاَةَ السَّفَرِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّداً ﷺ، وَلاَ نَعْلَمُ شَيْئاً، فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ.
392 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ,عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ.
393 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَشَدَّ مَا رَأَيْتَ أَبَاكَ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ بِذَاتِ الْجَيْشِ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ بِالْعَقِيقِ.
باب مَا يَجِبُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاَةِ
394 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِراً، قَصَرَ الصَّلاَةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ.
395 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ ،عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى رِيمٍ، فَقَصَرَ الصَّلاَةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.
396 - حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَكِبَ إِلَى ذَاتِ النُّصُبِ، فَقَصَرَ الصَّلاَةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَبَيْنَ ذَاتِ النُّصُبِ وَالْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ.
397 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ إِلَى خَيْبَرَ فَيَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
398 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ فِي مَسِيرِهِ الْيَوْمَ التَّامَّ.
399 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ، فَلاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
400 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، فِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ، وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ إِلَيَّ فِيهِ الصَّلاَةُ.
401 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَقْصُرُ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ الصَّلاَةَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ، وَلاَ يُتِمُّ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلَ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ، أَوْ يُقَارِبُ ذَلِكَ.
الحمدُ لله مُكرمنا بشريعتهِ الغَّراء، وبيان أحكامها على لِسان عبده وحبيبه خير الورى، أرفعَ الخلائق لديه قَدرا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيدنا مُحمد، وعلى آله الأَطهار وأصحابهِ الأخيار طُرّا، وعلى من والاهم فيك وتبعهم بإحسان وأحسنَ في مَسيرهم سيَّرا، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِنْ الأَنبياءِ والمرسلين من رفعَتَ لهُم الدرجات وجَعلتهم خيرَ البَريات وأعظمِهم أجرًا، وعلى آلهم وصَحبهم، وتابعيهم وملائكتكَ المُقربين، وعِبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد يبين لنا الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بعض الأحاديث المُتعلقة بالقَصرِ للمُسافرِ في الصَّلاة، وذكر ذلك لِما جاءَ عنه ﷺ من مواظبتهِ على القَصْرِ في السّفر، وأشارت الآية الكريمة إلى الخوف في إشارةٍ إلى أمرٍ كان واقعًا، وليس بشرطٍ للقَصْرِ، وقال تبارك وتعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا …) [النساء:101] فقولهُ: (..إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..) جاء لبيان الواقع، فلا مفهومَ له، فليس بشرطٍ ببيان السُّنة؛ فإنه ﷺ قَصَرَ الصَّلاة في الأمنِ، وهو ءأَمَنَ ما يكونُ في حِجة الوداع، في النُسك، وفي طريقهِ ما بين مكةَ والمدينةَ في حجةِ وداعهِ وما قبلها من أسفارهِ ﷺ، مِنْ بعدَ صلح الحُديبية وغيرها، فبَّينت السُّنة أن الَقصرُ يكونُ أيضًا في حالة الأمن كما يكون في حالة الخوف، وأن قوله (..إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..) جاءَ لواقع حالٍ فقط، وتقرير أمرًا كان حاضرًا في ذلك الوقت، لا لاشتراط جوازِ القَصر بِمثله.
وقالَ: "باب قَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ"، وهذا القَصرُ:
فالخيرُ كله في اتّباعه، ولا يتّبع دينُ الله وشريعتهُ عَقل أحدْ، ولا فِكرَ أحد، ولا رأيّ أحد، وليس الِّدين بالرأيّ؛ ولكنَّ الدَّين أن تجعلَ هواك تبعًا لما جاء به حبيبُ الرَّحمن ﷺ.
فَبذلكَ جاءَ الحُكمُ في القَصرِ، فالقَصُر فيهِ ما سمِعتَ من الأقوال: فمنهم من رأى أنهُ فرضٌ للمُسافر، مُتعيّن عليه كما فهمتَ عن كلام الحَنفية مَن أنَّ القَصر واجب.ومِنهُم مَن رأى القَصر والإتمامَ فرضٌ مُخيّر، له كالخِيارِ في واجبِ الكفَّارة. ومنهم من رأى أن القَصرَ سُنة.
إذًا، يقول بالسُّنيةِ، أو يطلق عليه السُّنية الماَلكية والحَنابلة، ويقولُ الشَّافعية هو: رُخصة يتَّخيّر صَاحِبهُ والأفضل ما ذكرناه. فإذًا عندَ الخُروجْ مِنْ الخِلافِ يكون الأفضلُ القَصرُ، إلا أنهَُّ بشرطهِ أن لا يَقْتدي بِمُتِم، فإذا أقْتدى بِمُتم أتمَّ. وكانَ ﷺ بمَكَّةَ يقولُ وهو يصلِّي بالنَّاسِ: "إنَّا قومٌ سَفْرٌ" يعني: مُسافرون "فأتمُّوا صلاتَكُم" يُسلِمُ مِنْ رَكعتين ويأمرُ أهلَ البلدِ أن يُكمِلوا أربعَ ركعات، لأنه الواجبُ عليهم.
وذكرَ لنا سؤال عبدِ اللهِ بن عُمر مِنْ قِبل خَالِد بْنِ أَسِيد؛ أو رَجُلٍ مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أَسِيد، وهوَ أُمَّية بْنِ عبدِ الله بنْ خَالِدِ بْنِ أَسِيد، وهو الأَفْصَحُ المَشهورُ في اسمهِ، وقيل أُسْيدْ، فَهذا أُمَّية بن عبدِ الله بْنِ خَالِدِ قال لِعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سائلًا: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَجِدُ صَلاَةَ الْخَوْفِ وَصَلاَةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ نَجِدُ صَلاَةَ السَّفَرِ؟" القَصْر، يعني: القَصْر في وقت الأمنِ، ويشيرُ إلى الآية الكريمة: (… فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا…) ويشيرُ (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا…) [البقرة:239] هذه صلاة الخَوف قال حصّلناها، أينَ صلاةُ القَصرِ هذه في السَّفر ما وجدتها في القران؟! فَبيَّن لهُ عبدُ الله بْنِ عُمر أنَّ القُرآنَ بيانهُ موكولٌ إلى منْ أُنزِل عليه (…لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ…) [النحل:44] وأنَّهُ بفعلهِ وَ هَدْيهِ بَيَّنَ أنَّ قولَ الله: (…إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا…) ليسَ بشرطٍ؛ وإنما جاء لبيان حالٍ وواقع في ذلك السَّفر الذي كانوا فيه، فهو جائز. كما صحَّ أيضًا عن سيدنا عُمر بْنِ الخطَّاب أنَّهُ سُئلَ عن ذلك فقال: قد أشكلَ عليَّ فسألتُ رسول الله ﷺ قال: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ"
فإذًا، لا يختَصُ القَصرُ بوجودِ الخَوفِ عند مواجهةِ الكُفَّار قال: "إِنَّا نَجِدُ صَلاَةَ الْخَوْفِ وَصَلاَةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ نَجِدُ صَلاَةَ السَّفَرِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّداً ﷺ، وَلاَ نَعْلَمُ شَيْئاً،" لا نعلم شيء من أمر الشَّرع، ولا مِنْ أمرِ الدّين فعَلمَنا، فَإنَّما نَتَّبِع قوله و "نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ"؛ يعني: أنّهُ هو المُبِّينُ للقرآنِ ومعانيهِ، وأنَّ الأحكامَ تثبُتُ بالقُرانِ وبالسُّنة النَّبوية، فثبت بسنّته جوازَ القَصرِ بدون الخَوف، فالسَّفر مع الخوف في القرآن ورَدَ، وبدون الخَوف في السُّنة، كما قَصرَ آمن ما يكونُ ﷺ في سفرهِ في حَجة الوَداع وقدْ دخلَ النَّاسُ في دينِ الله أفواجًا، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم.
ويقولُ بن عُمر أيضًا فيما جاءَ عنه: "صَحِبتُ النَّبيَّ ﷺ فكانَ لا يزيدُ في السَّفر على ركعتين"، يعني: في الظُّهرِ والعَصرِ والعِشاءِ؛ أما المَغرِبْ فبالإجماع لا يَصح القَصر فيها ولا بُّد مِنْ صلاتها ثلاثة ركعات، وأمَّا الفَجرُ فهي ركعتان مِنْ أصلها، ولا يجوز أن يُنقِص من الركعتين شيء، فهي ثابتةٌ في الحضرِ والسَّفر، يصلى الصُّبح ركعتانْ. والآيةُ الكريمة دلت على مشروعية القَصر في حالةِ الخَوف، والأحاديثُ الشَّريفة دلتْ على مشروعية القَصرِ في حالةِ الخوفِ والأمن، وهو كذلك كما هو مُجمعٌ عليه.
فَعرفنا وعلِمنا أنَّ القَصرَ جائزٌ كما هو عند الشَّافعية، والرواية عند الحنابلة، وجاءت الرواية عن الإمَام أحمدْ: أنَّ القصر أحبُ إليهِ، فهو إذًا كما يُطلق المَالكية: أنَّهُ سُنَّة. وقالَ الحَنفية: أنَّهُ واجب فرضٌ على المُسافر أن يُقصِر الصَّلاة. ويقول المالكية هو سُنَّة مُؤكدة، ويقالُ أنَّهُ مُباح. ويتَخيَّرُ فيه القَصرُ.
وهكذا تكلمنا عن ما قالوا عنِ الأفضل، وهل الأصلُ هو الإتمامْ ثُمَّ قُصِرت في الحَضر؟ أو بالعكسِ كما يجيءُ معنا في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- يأتي، فقالَ يرى الجمهور: أنَّ الأصلَ فيه هو الإتمام والقَصر رُخصة، كما جاء في حديث مسلم: ".. صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم .."؛ فالأصلُ في الفَرضِ أربع، في الُّظهر، والعَصرِ والعِشاء، قال: ".. صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم .." فصارت ُرخصة طارئة، بخلافِ ما يُشير إليهِ الحديث عن عائشة الآتي معنا في موطأ الإِمام مَالِك. وكذلكَ علِمنا الأفضلية عند الشَّافعية: كغيرِهم عند بلوغِ السَّفر ثلاث مراحلَ؛ أو عندَ أنْ يجدَ كراهةً للقصرِ.
"عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ" وهذا الذَّي مال إليهِ الحنفية؛ يعني: كل صلاة ركعتين إلاَّ المغرب باتّفاق، كما جاءَ في رواية ابن إسحاق قولها: "إلّا المغرب"، وهذا أمرٌ مُتفقٌ عليهِ، فأُقِرتْ صلاةُ السَّفرِ، يعني: بقيت على ما كانتْ عليهِ من كونِّها ركعتين وزيدَ في صلاةِ الحضرِ.
فتقول في رواية عنها السَّيدة عائشة رُواها البُخاري وغيرهِ تقولُ: "فُرضتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ هاجرَ ﷺ ففرضتْ أربعًا". "فُرضتْ صلاةُ الحَضرِ والسَّفرِ رَكعتينِ رَكعتينِ فلمّا قدِمَ ﷺ أطمَئنَ زِيدَ في صلاةِ الحضرِ ركعتان ركعتان، وتُركتْ صلاةُ الفجرِ لِطولِ القراءة، وصلاةِ المَغربِ لأنَّها وترُ النهار".هكذا فعلى هذا القول أنَّ الأصل في فرضِها الرِّكعتين ثمَّ زيدتْ في الحضر، والجمهور قالوا: لا بلِ الأصلُ أنَّها فُرضتْ أربعًا، ورُخِصَ في السَّفرِ، وكانَ صدقةً من الله تباركَ وتعالى على عبادهِ المؤمنين. قالَ ابنُ عمر: "فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ." ﷺ، "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ".
كما جاءَ في روايةٍ عن يعلى بنُ أمية قال: قلتُ لعمر بن الخطاب قالَ الله تعالى (…أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ…) [النساء:101] وقد أمنَ النَّاس؛ قالَ سيدنا عمر: قد عجبتُ مما عَجبتَ منهُ فذكرتُ ذلكَ لرسولِ الله ﷺ قالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" فهذا هو القَصرُ بهذا المعنى.
ومن الغَريبِ تفسيرُ القَصرِ في الآيةِ بأنَّهُ تخفيف الصَّلاةِ (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..) أي خففوا الصَّلاة وتتركوا التَّطويلَ في الرُّكوعِ والسَّجودِ. الجمهور: على أنَّ المُرادَ في القصرِ، هو القصرُ بالمفهومِ الشَّرعي،، أنْ تُصلي الرُّباعية ركعتين.
ويقولُ أيضًا سيدنا "مَالِِكْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَشَدَّ مَا رَأَيْتَ أَبَاكَ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي السَّفَرِ؟" يعني أبو عبدِ الله بنُ عمر، "فَقَالَ سَالِمٌ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ بِذَاتِ الْجَيْشِ" منطقة بطريق ما بينَ مكة والمدينة، "فَصَلَّى الْمَغْرِبَ بِالْعَقِيقِ." وبينهُما مسافة طويلة نحوَ اثنا عشرَ ميل، ،فهذهِ المسافة معناهُ آخَّرَ صلاةَ المغرب إلى العشاءِ، لأنَّهُ لن يقطع هذهِ الأميال إلاَّ وقدْ خرجَ وقتُ المغرب باتفاق، فمعناه وأنَّهُ آخَّرَ صلاةَ المغربِ إلى العشاءِ، فصلَّى العشاءَ جمعًا مع المغربِ، وهذا يأتي في الجمعِ، وذكرَه هُنا في بابِ القَصرِ.
فالصَّلوات التي تُقصرُ بالإجماع هي:
وبذلكَ جاءَتنا السُّنة بصلاة المُسافرِ في النافلةِ وهو ماشيًا، وهو على الرَّاحلةِ، وذلكَ جائز، ولا يتعلقُ القَصرُ بشيء من النَّوافلِ.
وهذا ذِكرُ المسافةِ ما بينَ ذاتَ الجيشِ والعقيق، وهو أكثر ما رأى فيهِ سالم بن عبدِ الله والده أخَّرَ صلاةَ المغرب، وأقل ما قيلَ أنَّ بينهما سبعَ أميال، وهذا أيضًا لا يمكن قطعُها إلا وقد مضى من الليل حظٌّ وافر، وقد خرجَ وقتَ صلاة المغرب بيقين، ولكنَّ المُسافر لهُ أنْ يجمع، فعلى ذلك جاءَ مذهب الإمام الشَّافعي والإمام أحمد بن حنبل.
قالَ: "باب مَا يَجِبُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاَةِ"؛ يعني: من المسافةِ، في مسافةِ كم يُقصر؟ وهل كل من سافرَ إلى أي مكان يُقصر؟ فلا بُدَ أنْ تكونَ المسافة يُباحُ بها القصرُ، وهي مسافةُ مسيرةِ يومٍ وليلة، أو يومين معتدلينِ بِسَّير الأحمالِ والاثقالِ على المُعتادِ، والتي قُدِّرتْ بثمانية وأربعين ميل؛ تطلع بالكيلومترات سبع وسبعين كيلومتر؛ إلا أمر يسير، سبع وسبعين كيلو.
فأشارَ الإمام مالك إلى مقدار السَّفر الذَّي تُقصر في مثلهِ الصَّلاة بقولهِ: "باب مَا يَجِبُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاَةِ"
وعلمتَ:
هُناك أقوال شاذة أُخرى، فنَقل الشَّوكاني أنَّ أقلَ ما قيل في مسافة قَصر أنه ميل، وعليهِ الظَّاهرية؛ مسافة ميل، وأرادوا الاستدلالَ لذلكَ. وذهبَ الجمهورُ كمَالِك، والإمام الشَّافعي وصحبهم، والأَوزاعي أنَّ الصَّلاة تقصرها المسافر إلاَّ في مسيرة اليوم والليلة التّامينِ، أي مسيرة مرحلتين والتي هي ثمانية وأربعون ميلاً.
ويقولُ الإمام أبو حنيفة: المَسافة التي تُقصر فيها الصَّلاة ثلاثة أيام ولياليهنَ بسِّيرِ الإبل، فهي ثلاث مراحل، ويُروى ذلكَ عن سيدنا عثمان رضى الله عنهُ، وابن مسعود وغيرهما. إذاً فلا ينبغي العمل بقولِ الظَّاهرية في مسافة المِيل وحتى يبلغَ المسافة مسيرة يومين أو مرحلتين بسَّيرِ الأحمال.
"وجاءَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِراً، قَصَرَ الصَّلاَةَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ." وهو الميقات لمن أرادَ أن يُحرم بالحَجِ والعُمرة من أهلِ المدينة، ومن خرجَ من المدينةِ وبينه وبينَ المدينةِ نحو ست أميال، أو سبع أميال، فهذا محل الإحرام بالحج والعُمرة فهو خارج المدينة باتفاق، ومن قد خرج من منطقة سفرهِ فجاوزها جازَ لهُ أن يقصر ما دام يريدُ مسافة طويلة، وعليهِ يُحملُ ما جاءَ في حجةِ الوداعِ من قصرهِ ﷺ في ذي الحُليفة. فكانَ يَقصر بن عُمر وهو في ذلكَ المكان عند خروجهَِ من المَدينة المُنورة متجهًا نحوَ مكة، إمَّا لحجٍ أو لعُمرة فيَقُصر مِنْ عند ذي الحُليفة، لأنَّهُ قد خرجَ المدينة وإذا قد جاوزَ المدينة جازَ القَصرُ عند الجمهور.
وجاءَ "عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ"، يعني عبد الله بْنِ عُمر "أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى رِيمٍ"، واحدُ الأرام وهو الظِّباء، والرِّيم من أسماء الظِّباء، والمرادُ هُنا وادٍ لمُزينة قُربَ المدينة، "فَقَصَرَ الصَّلاَةَ فِي مَسِيرِهِ"، ولكنَّهُ الإشارة فيهِ إلى: أَنَّهُ ابتدأ القَصر ولم يقصُد المُكث في وادي ريم، ولا أنَّهُ لا يريدُ أنْ يتجاوزهُ؛ بل كان مارًا فيهِ فابتدأ القصر منهُ، ولأنَّ المسافة بينهُ وبينَ المدينة الُمنورة ليستْ مسافة قصر.
وذكرَ: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَكِبَ إِلَى ذَاتِ النُّصُبِ، فَقَصَرَ الصَّلاَةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ." فمحمولٌ أيضًا:
وجاءَ أيضًا: "عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ إِلَى خَيْبَرَ فَيَقْصُرُ الصَّلاَةَ." قالوا وبينَ خيبر والمدينة نحو تسعين ميل وفوق التَّسعين ميل، فهي مسافةُ قصر. بل يقولون أنَّها ستَ مراحل ما بين خيبر والمدينة المُنورة. بل جاءَ في روايةٍ عندَ عبد الرّزاق عن نافع: أنَّ بن عمر كانَ أدنى ما يُقصر الصَّلاة فيهِ مالٌ لهُ في خيبر، وهذهِ مسافة طويلة فوق مسافة القصر باتفاق. وكذلك جاءَ عنهُ: "كَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ فِي مَسِيرِهِ الْيَوْمَ التَّامَّ"؛ أي: مسيرة يوم وليلة، وهو المرحلتان كما أسلفنا. كذلكَ يروي عن بْنِ عُمر أنَّهُ كان يُسافرُ مع بْنِ عُمر البريدَ فلا يقصر، البريدَ الذَّي هو مقدار فَرسخين، فمقدار مسافة البريدة ليستْ بمسافة قصر؛ ولذلكَ كان يُسافرُ هذهِ المسافة فلا يُقصر الصَّلاة.
وجاءَ أيضًا: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، فِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ"، ما بين مكة بلدِ اللهِ الحرام والطَّائف. يقول وبينهما مكة والطَّائف ثلاث مراحل أو مرحلتين وشيء، فهي مسافة قَصر. وفي مثل ما بين مكة وعُسفان كذلكَ على مرحلتين، من مكة المكرمة إلى عُسفان، وفي مثل ما بين مكة وجُدة -تقال بضمِ الجيمِ ويقالُ غير ذلكَ- هذهِ البلدة المشهورة على ساحل البحر، كانتْ ساحله الميناء لمكةَ المكرمة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ إِلَيَّ فِيهِ الصَّلاَةُ". والبريد يساوي أربع فراسخ، فالأربعة برد تساوي ستة عشر فرسخًا، وهو الثمانية والأربعين ميل، لأنَّ مسافة القصر كما ذكرَ الإمام مَالك: أربع بُرد، والبريد أربع فراسخ، والفرسخَ ثلاث أميال، فستة عشر في ثلاث تُضرب بثمانية وأربعين. وهذا المَسير مسِّير الإبل المُثقل بالأحمال على المُعتاد في المسلك، فهذهِ مسافة القصر.
يقولُ قالَ يَحيى "قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَقْصُرُ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ الصَّلاَةَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ"، وهذا عليهِ الجمهور، وجاءَ عن بعضِ الصَّحابِة: أنَّهُ يجوزُ القصر ما دام مُتأهب مُتهيأ للسفرِ أنْ يقصر عند تأهبهِ وخروجهِ وإنْ كان وسط البلد، فقالَ جمهورُ أهلِ العلمِ: لا قصرَ حتى يُجاوزَ البلد ويخرجُ منها. قالَ: "حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ، وَلاَ يُتِمُّ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلَ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ، أَوْ يُقَارِبُ ذَلِكَ." وما دامَ لم يدخلْ البلد فهو في حُكم المُسافر حتى يدخل وسط البلد، فإذا دخل البلد انتهى الحُكم في القصر كما عليهِ الأئمة الأربعة وجماهير العلماء، واللهُ أعلم.
رزقنا الله الإنابة والاستجابة، والتحقّق بحقائق الصَّلاة، وركوعها وسجودها و خشوعها وخضوعها، وجعلنا عنده من خواص أهلها ورزقنا فيها الاتباع لحبيبهِ ﷺ حتى نطبقَ سر قولهِ: "صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي"، وجعلنا الله ممن يستمعون القولَ فيتبعونَ أحسنه، فيسْتقيموا على اتباع آثار رسول الله، وسُننهِ المُستحسنة، في خير ولطُف وعافية والى حضرةِ النبي محمد ﷺ.
27 صفَر 1442