(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل.
فجر الثلاثاء 5 صفر 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ
309- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رِضًا، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلاَةٌ بِلَيْلٍ، يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلاَتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً".
310- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِى فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.
311- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ".
312- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ امْرَأَةً مِنَ اللَّيْلِ تُصَلِّى فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟". فَقِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْحَوْلاَءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، لاَ تَنَامُ اللَّيْلَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى عُرِفَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ".
313- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلاَةِ، يَقُولُ لَهُمُ الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
314- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا.
315- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
الحمدُ لله مُكْرِمنا بالشَّريعة الغَرَّاء، وبيان منهاجِها على لسان عبده خير الورى، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه الكُبراء، ومَنْ والاهُم في الله واهتدى بهديهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في معرفة الله ومحبته أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الرَّاحمين.
يذكُر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى ورضوانه- في كتابه المُوطأ، بعض الأحاديث المُتعلقة بصلاة اللَّيْلِ. وصلاة اللَّيْلِ التي هي مِنْ أفضل النَّوافل نفلُها. فإنَُ فضل صلاة اللَّيْلِ على صلاة النَّهار، كفضل صدقة السِرِّ على صدقة العلانية. وقد جعل الله -تبارك وتعالى- في طيات اللَّيْلِ مِنْ تجلياته وجوده وخيراته، أمرٌ كبيرٌ جليل.
○ وقال لعبده المُصطفى ﷺ: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:1- 4].
○ وقال له: (وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِۦ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79].
فكان لِصلاة اللَّيْلِ شأنٌ، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة؛ صلاة اللَّيْلِ.
○ وجاء أيضًا في صحيح مُسلم عنه ﷺ: "عليكم بصلاة اللَّيْلِ فإنَّه دٓأْبُ الصَّالحين قبلٓكُم وقُربٓةٌ إلى ربِّكم ومٓكْفِرٓةٌ للسيئات -أو مَكَفَرة- للسيئات وٓمٓنْهاةٌ عن الإثم".
○ وقرأ قول الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ..)، وذلك أنَُه جاء بعد قوله تعالى: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ..) [السجدة:16]؛ تتباعد جُنوبهم عن المضاجع؛ محلَّ النَّوم. (.. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:16 -17].
○ قال أهل العلم: قد فُرِض قيام شيءٍ مِنَ اللَّيْلِ أولًا ثُمَّ نُسخ على الأُمة. وذلك فيما قال: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلًا). وقال تعالى: (..وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ..) . ثُمَّ قال: (..عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ…) [المزمل:20].
○ وقال بعض أهل العلم: أنَّه بقي واجبًا في حقه ﷺ، وصار سُنَّة في حقّ الأُمة.
○ وقال بعضُهم: صار سُنَّةً في حقّ الجميع.
فالإجماع على رفع الوجوب في القيام في اللَّيْلِ بالنسبة للأُمة، واختُلف في هل بقي عليه ﷺ فرضٌ أو لا؟ وذلك لِمَا أشارت الآية في قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ..) [الإسراء:79]. ( .. فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ..). فأخذ مِنْها مَنْ أخذ بأنَّه ليس بفرض عليه ﷺ. وعلى كُلِّ الأحوال، فمهما كان الفرض عليه من قيام اللَّيْلِ، فإنَّ قيامه أكثر مما فُرِضَ عليه؛ إذًا بقي الفرض عليه ﷺ. (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ..) [المزمل: 20].
وتعجَّبوا في عُبيدة السَّلماني التابعي، أنَّه أوجب على المؤمنين قيام اللَّيْلِ، ولو كحلب شاة. وقال: أنَّ ذلك واجب. ولم يقل بذلك غيره. فلمَّا سأله الأعرابي: هل عليّ غيرها؟ أيّ الصَّلوات الخمس، قال: "لا، إلا أنْ تطوّع"، "إلا أنْ تطوّع". وكذلك الذين قالوا بوجوبه ﷺ، فسَّروا قوله: ( .. نَافِلَةً لَّكَ ..)؛ أيّ زائدة في فرائضك على ما فرضناه على بقية أُمَّتك. فكانت لغيره ﷺ تطوعًا. لاشك أنَّ ثواب الفرض يزيد على ثواب النَّفل بسبعين درجة.
وحدَّثنا بالحديث الأول: "عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رِضًا،" أو رضيٌّ؛ يعني مرضيٌّ عنه موثوقٌ به؛ وهو الأسود بن يزيد النخعي. يقول: "أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا مِنِ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلاَةٌ بِلَيْلٍ"؛ أيّ: ما مِنْ أحد مِنْ أشخاص أُمّته عليه الصَّلاة والسَّلام، تكون له صلاةٌ؛ يعني: يُرتِب على نفْسه وردًا مِنْ الصَّلاة في اللَّيْلِ، يعتاده ويواظب عليه، هذا معنى تكون له صلاةٌ بليل. فقد يطرأ عليه مِنَ الأحوال إمَّا لمرض، أو لمواصلة عمل، أو إرهاق، يطرأ عليه أنْ تغلبه عينه فينام، ولا يحس في الوقت الذي رتب على نفسه القيام فيه واعتاده وواظب عليه. قال: "يَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ"؛ أيّ: على تلك الصَّلاة مِنَ اللَّيْلِ نوم؛ فيَعني يذهب في النَّوم، فلا يستيقظ أو يستيقظ فيمنعه غلبة النَّوم مِنَ الصَّلاة. "إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلاَتِهِ"؛ أيّ: التي اعتادها وواظب عليها فيما مضى مِنْ ليالي عُمُره؛ يعني: يكون له أجرُها.
وقال بعضهم: أنَّه يكون له أجرَها غير مّضاعف، بخلاف لو عملها فيكون أجرها مُضاعف. ولكن فحوى الحديث تدُلُّ على أنَّ له أجر الصَّلاة لو صلاها وقتها، ويشهد له فيمَنْ نام عن ورده مِنَ اللَّيْلِ؛ يعني: الذي كان يعتاده، فقضاه ما بين طُلوع الشَّمس إلى زوال الشَّمس، كُتب له كأنَّما صلاه مِنَ اللَّيْلِ. كأنَّما صلاه في وقته، لأنَّه ما تخلَّف عنه إلَّا بغلبةٍ، ثُمَّ كان مِنْ حرصه أنْ قضاه. ولهذا ما يُعتاد مِنَ الصَّلوات ولو كان نفلًا مُطلقًا إذا فات قضاه بحُكم العادة، لأنَّ عمله ﷺ كان ديمة؛ يُداوم عليه، فإذا فات قضاه.
"وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً"، تفضُلًا عليه مِنَ الحقّ تعالى مع ما يكتبه له مِنَ الأجر. وهكذا جاءنا الحثُّ على قيام نصيبٍ مِنَ اللَّيْلِ. وفي أنَّهم يعتادون ويُرتبون على أنفسهم في برامجهم، أخذ حظٍ مِنْ صلاة اللَّيْلِ. كما دعانا أهل البرامج المُختلفة، أنْ نجعل لنا حظًا في اللَّيْلِ مِنْ مُتابعة برامجهم، فاستبدله بعض المُسلمين بالصَّلاة في اللَّيْلِ، فكان آبائهم وأهلهم لهم حظ مِنْ صلاة اللَّيْلِ، فصاروا لا حظ لهم مِنْ صلاة اللَّيْلِ، واستبدلوه بشئٍ مِنَ الأعمال الأُخرى! وهذا مِنْ مظاهر الغفلة والانحطاط في شأن المُسلمين. أيقظ الله قلوبهم، وردَّهم إلى حُسْن الصِّلة به جلَّ جلاله.
○ وقال ﷺ: "وصلاة الرَّجُل في جوف اللَّيْلِ"، وقرأ قوله تعالى: (.. تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ..) [السجدة: 16].
○ وركعتان في جوف اللَّيْلِ كنز مِنْ كنوز البِر؛ أيّ: مِنْ كنوز الجنَّة.
○ كما أخبر ﷺ: أنَّه "من استيقظ من الليل وأيقظ أهله، فقاما فصليا ركعتين، كُتِبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات".
○ وفي الحديث أيضًا يقول ﷺ: "رحِمَ اللَّهُ رجُلًا قامَ مِن اللَّيلِ فصلَّى وأيقظَ امرأتَه". "رحِمَ اللَّهُ امرأةً قامَت مِن اللَّيلِ وصلَّتْ وأيقظَتْ زَوجَها". وجاء في رواية: إنْ لم يستيقظ رشَّتْ عليه الماء في وجهه؛ ليتنشَّط للقيام. وكذلك في حقّ الرَّجُل ليُنشط أهله، وفيه تعاونهم على أنْ يُصلوا شيئًا مِنَ اللَّيْلِ.
وهو دأب الصَّالحين كما سَمِعْنا، ومحلُ تلقي فائضات ربِّ العالمين -جل جلاله وتعالى في عُلاه-. قال عنه كثير مِنْ أخيار الأُمة: لولا القيام في اللَّيْلِ ما أحببنا البقاء في الدُّنيا.
يقول في حديث عَائِشَةَ أيضًا، أنَّها قَالَتْ: "كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ"؛ يعني: مكان سُجوده إلى جهة القِبْلة؛ يعني مضجَعها بجانب القبلة مِنْ مُصلّى النَّبي ﷺ حتَّى أنَّ رجليها تصل إلى موضع سجوده عليه الصَّلاة والسَّلام. "فَإِذَا سَجَدَ "؛ أيّ أراد السُّجود، "غَمَزَنِى"؛ أيّ ضرب بإصبعه فيَّ، وكبس رجلي لأقبض رجلي. فالمَسُّ باليد يُقال له غمزٌ. ففي رواية جاء عن أبي داود: "فإذا أراد أنْ يسجُد، ضرب رجليّ فقبضتُهما فسجد". "فَإِذَا قَامَ" ﷺ مِنْ سُجوده "بَسَطْتُهُمَا"، وفيه كمال تواضُعه، وحسن ملاطفته ﷺ لأهله، وكريم خُلُقه. "قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ" أيّ: حينئذٍ بيوت عامة النَّاس مِنَ العرب "لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ"، ليس فيها ضوء، لا يستعملون المصابيح، لشَظف عيشهم، وقلة ذات يدهم في تلك الفترات؛ ومعناه أنَّه لو كنت أراه وأُحسُّ ما أحوجه إلى أنْ يغمز رجلي، وسأضُمها مِنْ نفسي ولكن ما كانت هناك مصابيح ولا أشعر، فكان يجعل إصبعه على رجلي؛ يُنبهني أنَّه جاء وقت سُجوده ﷺ.
وفي هذا إذًا دليلٌ:
وجاء في بعض الروايات: فإذا كان السَّحر أيقظني. وقد قال ﷺ في الاهتمام بهذه المسألة في الدِّين، وهي أنْ يعتاد المؤمنون في أُسرهم قيامًا مِنَ اللَّيْلِ ولو يسيرًا. "مَنْ يوقظ صواحب الحُجَر؟"؛ يعني: أُمهات المؤمنين، ليقوموا في اللَّيْلِ. فكان كُلٌ يأخُذ نصيبه قلَّ أو كثُر مِنَ اللَّيْلِ. كما قال تعالى: (..فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ..) [المزمل: 20].
وحدَّث أيضًا عَنْ عَائِشَةَ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَرْقُدْ"؛ لأنَّه إذا أخذه شِدَّة النِّعاس، فلا يُتقن ما يقول ويُخربط ويُخطئ في القراءة، وقد يخربط في الدُّعاء، كذلك وما يدري ماذا يقول، يُدخل كلمة في كلمة، وقد يكون معناها مقلوب عليه وغير صحيح. فلهذا قال بهذه الغلبة نَمْ، ثُمَّ قُمْ بعد ذلك وعندك قُدرة على أنْ تجتمع في حضورك ووجهتك، مع إدراك معنى ما تقول وما تفعل. قَالَ: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ"؛ في قيامه باللَّيْلِ. "فَلْيَرْقُدْ". وفي رواية "فلينَمْ". وفي رواية: "فليَضجع". "حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ"؛ أي: أنْ يتمكن بأخذ شيء غفوة ونحوها يتمكن مِنْ حُضور قلبه، ومِنْ استشعاره معنى ما يقول ويفعل. "فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ" في هذه الحالة "لاَ يَدْرِي، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ"؛ يُريد أنْ يستغفر ويدعو الله -تبارك وتعالى-، فيأتي بكلام مخربط مُلَفَّق، يصبح الدُّعاء عليه بدل ما يكون الدعاء على نفسه، فيدعو على نفسه. فإذًا أيضًا فيه بيان أنه:
ويقول ﷺ لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم لا تصادفوا ساعة إجابة.
ويقول: "عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أبِي حَكِيمٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ امْرَأَةً مِنَ اللَّيْلِ تُصَلِّى فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ ؟" سَمِعَ ذِكْرَ صلاتها. فقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ:" القائل له سيِّدتُنا عائشة كما جاء في صحيح مُسلِم، قالت لخ: "هَذِهِ الْحَوْلاَءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، لاَ تَنَامُ اللَّيْلَ،". أو كما جاء في مُسْلِم: "زعموا أنَّها لا تنام اللَّيْلِ". وعدم النوم نهائيًا إما تكثّرًا أو بشئ مِنَ الكُلفة، ما أحبه عليه الصَّلاة والسَّلام. ولكن أنْ يجمع بين نومٍ ولو يسير قليل، وبين قيام، وبذلك يكون التَّهجُد. فإنَّ الذي لم ينَمْ أصلًا، يُقال: صلَّى مِنَ اللَّيْلِ. يُقال: قام مِنَ اللَّيْلِ. ولا يُقال تهجَّد؛ إنَُما التَّهجُد صلاة بعد نوم، وهو أشقُّ على النَّفس. فأمَّا مَنْ طاب له القيام، وسَهُل عليه في أمر مُجاهدته وسيره، مِنْ دون أنْ ينعس وهو يُصلي وما إلى ذلك فله حاله ولا إشكال فيه، ولكن لعموم المؤمنين ومَنْ ينعس في الصَّلاة وللمُقتدين، ينبغي أنْ يُرتبوا لهم نصيبًا مِنَ النَّوم في اللَّيْلِ، ونصيبًا مِنَ القيام أيضًا فيه. وفي الحديث الأمر بالاستعانة، "استعينوا على قيام اللَّيْلِ بقيلولة بالنَّهار، وعلى الصَّوم بأكلة السَّحر". فيحتاج مَنْ له قيام في اللَّيْلِ إلى رقدة أيضًا في النَّهار يُسمى القيلولة، فهي للقائم كالسّحور للصائم.
فهذه المذكورة في الحديث: الحولاء. وجاء في رواية عند البخاري، أنَّه ﷺ دخل على عائشة وعندها امرأة قَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟" قالت: فلانة تذكر مِنْ صلاتها وقيامها باللَّيْلِ. فقال: مَه، عليكم ما تطيقون. فهذه الحولاء الأسدية، أرشدها ﷺ إلى أنْ تأخُذ قيامها باللَّيْلِ، وأنْ تبتعد عن التفاخُر بعدم النَّوم أصلًا، وأنْ تتوسّط في أمورها، وتحرص على إخلاص القصد لوجه الرَّب جلَ جلاله وتعالى في عُلاه. جاء في رواية، لمَّا دخل على عائشة قامت امرأة، فلمَّا قامت لتخرج مرت به أثناء ذهابها، فسأل عنها ﷺ: مَنِ المرأة التي كانت عندك؟ فذكرتها له عليه الصَّلاة والسَّلام.
وهناك قصة أخرى غير هذه، قصة سِّيدتنا زينب بنت جحش -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- أنَّه دخل ﷺ فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين. قال: ما هذا؟ قالوا: حبلٌ لزينب، إذا فترت -تعبت مِنْ طول القيام- تعلقت به. قال ﷺ: لا، حُلّوه ليُصلي أحدكم نشاطه، فإذا فتر، فليقعُد. ففيه الحثُّ على الاعتدال والتوسط في المجاهدة، والبُعد عن المُبالغة وإقحام النَّفس فيما لا تُطيق؛ فينقطع العمل مِنَ الأصل أو يُؤدى على غير وجه الإحسان. فيخرج مِنْ ذلك مَنْ طاب له الحال والأمر حتَّى صار يؤدي بإحسانٍ بلا كَلف، فشأنه شأن كمَنْ جاء عن كثير مِنَ الأخيار والتَّابعين ونحوهم. ولكن الذي يصلُح لعامة المؤمنين، مَنْ يجمع بين أنْ يكون له نصيبٌ مِنَ المنام، ونصيبٌ مِنَ القيام في لياليهم.
قالت: "فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى عُرِفَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا"؛ يعني وقيامكم بهذا التَّكلف يؤدي بكم إلى الملل فينقطع عنكم إثابته وإفاضة الخير عليكم، فلا تُعرِّضوا أنفسكم إلى الملل، بل داوموا على شيءٍ تُطيقون المُداومة عليه حتَّى يدوم لكم تجلى الحقُّ عليكم وإعطاءه الفضل. فإنَّه "لاَ يَمَلُّ" -سبحانه وتعالى-، لا يقطع أجره "حَتَّى تَمَلُّوا" أنتم، وفعلكم بهذه الصورة يؤدي إلى مللكم، فينقطع عنكم الخير. فلا تُعرِّضوا أنفسكم إلى الملل، ولكن داوموا على ما تُطيقون المُداومة عليه. ومِنَ المعلوم أنَّ ذلك أيضًا يحتاج إلى عزيمة وإلى جُهد، وألا يُتخذ مثل هذا الإرشاد ذريعةً للتراخي والتَّكاسل حتَّى لا يكون عمل أصلًا، فما حاشاه أنْ يُريد ذلك ﷺ أو أنْ يقصده، وذلك هو الطرف الآخر الذي نهى عنه، ودعى دائمًا إلى الوسط والاعتدال في الأمور.
والحقُّ أيضًا لمَّا أثنى على المُحسنين، ذكر هجوعهم في اللَّيْلِ، واختلفوا في قوله: أنَّهم (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 17]؛ يعني: ينامون قليلًا أو يتركون النَّوم بعض اللَّيْلِ قليلًا مِنَ اللَّيْلِ، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)) [الذاريات:16- 17]؛ يعني قليل هُجوعهم نوم أو قليلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يهجعون فيه؛ ما ينامون فيه.
○ فإذا كانت ما مصدرية؛ كان معناه: أنَّ نومهم في اللَّيْلِ قليل.
○ وإذا كانت ما نافية؛ المعنى: أنَّ قليل مِنَ اللَّيْلِ لا ينامون فيه وينامون في باقيه.
لكنْ قيل: قليل مِنَ اللَّيْلِ ما ينامون فيه ووصفهم بالمُحسنين (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
يقول: "اكْلَفُوا"؛ يعني خذوا وتحملوا "مِنَ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ" في لفظٍ: "ما تُطيقون". وفيه أنَّ ما دخل في طاقتكم، فلا تُقصِّروا في حمل نفسكم عليه وقيامكم طالما أنه كان في دائرة الطاقة مِنْ دون ضرر بكم. فقوموا به.
وعلى كُلٍّ فالنظر إلى الاختلاف باختلاف أحوال النَّاس هو الصَّواب. وأنَّ الذي يحتاجه عامة المُسلمين أنْ يأخذوا نصيبهم مِنَ المنام، ونصيبهم مِنَ القيام. فلا يُسامحوا أنفسهم في عدم القيام أصلًا، ولا يُكلِّفوا أنفسهم جميع اللَّيْلِ. وأنَّ مَنْ طاب الأمر والحال، واستلذ مُناجاة ذي الجلال، فشأنُه شأن فتلك راحته، وتلك قوته وصحته وعونه مِنَ الحقّ تبارك وتعالى.
وجاء عند ابن كثير في تاريخه في ترجمة سيِّدنا ابن عُمَر -رضي الله عنه-: كان يُصلي بالنَّاس العِشاء، ثُمَّ يدخل بيته، فلا يزال يُصلي إلى الفجر. وعن ابن عُمَر إذا فاتته العِشاء في جماعة، أحيا بقية اللَّيْلِ. ويقول وكان سيِّدنا تميم الداري رُبما ردد الآية الواحدة اللَّيْلِ كُله حتَّى الصَّباح. إلى غير ذلك مما جاء في الآثار عن الصحابة ثُمَّ التَّابعين فمَنْ بعدهم. وجاء عند عدد مِنْ رواة الحديث سؤال بعض الصَّحابة، سيِّدنا عطاء وغيره، لسيِّدتنا عائشة أخبريني بأعجب ما رأيتي مِنْ أحوال رسول الله؟ فقالت: وأيُّ شأنه لم يكُن عجبًا! ﷺ. أنَّه أتاني ليلة فدخل معي في رحابي، ثُمَّ قال: "ذريني أتعبد لربي"، فقام فتوضأ، ثُمَّ قام يُصلي، فبكى حتَّى سالت دموعه على صدره، ثُمَّ ركع، فبكى، ثُمَّ سجد، فبكى، ثُمَّ رفع رأسه، فبكى، فلم يزل بذلك حتَّى جاءه بلال يُؤذِنُه بالصَّلاة، فرأى عليه أثر البُكاء، قال: تبكي، وقد غَفر الله لك ما تقدَّم مِنْ ذنبك وما تأخَّر؟ قال: "يا بلال قد أُنزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمَنْ قرأها ولم يتفكر فيها. ويلٌ لمَنْ قرأها ولم يتفكر فيها. ويلٌ لمَنْ قرأها ولم يتفكر فيها. وتلا عليه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)". ثُمَّ كان مِنْ عادته ﷺ كُلّ ليلة، إذا قام مِنَ اللَّيْلِ يتلو هذه الآيات، ويقرأها إذا قام مِنْ منامه قرأ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [آل عمران:190 -192]. إلى آخر الآيات في آخر سورة آل عمران. إذًا، فغالِب الأحوال أنَّه ينام شيئًا مِنَ اللَّيْلِ. وفي بعضِها كما في هذا الحديث وغيره: أنَّه بعض الليالي لا ينام عليه الصَّلاة والسَّلام في أثناء ليله. صلوات ربي وسلامه عليه.
وكما هو معلوم في قيامه في رمضان، وخصوصًا في العَشر الأواخر مِنْ رمضان، شدَّ مئزره، وأحيا ليله. وعن "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلاَةِ، يَقُولُ لَهُمُ الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ...) [طه:132]." "يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ" مِنْ عدد الرَّكعات مِنَ اللَّيْلِ "حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلاَةِ، يَقُولُ لَهُمُ الصَّلاَةَ؛" يعني: قوموا إلى الصَّلاة وأدوها، "ثُمَّ يَتْلُو: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)" ورُوي أنَّه لمَّا نزلت الآية: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..) كان ﷺ يأتي باب عليّ ويوقظه مع سيِّدنا فاطمة يقول: الصَّلاة رحمكم الله. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:33]. فيعْتني بإيقاظِهم ﷺ في صلاة اللَّيْلِ.
وذكر عن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كان يقول: وكان النَّبي ﷺ " يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ الْعِشَاءِ"؛ النَّوم قبل صلاة العِشاء لأنَّه يُعرِّضُها للفوات. و"يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا"؛ أيّ: الاسترسال في الكلام غير المهم أو الغير الضروري أو في غير طاعة؛ كما جاء في نحو مُسامرة ضيف أو قراءة عِلم أو نحوها أو في سفرٍ، فيتحَدث مع أصحابه فلا إشكال في ذلك. وإنَّما الاسترسال في الكلام اللغو أو الكلام الذي لا ثواب فيه، بعد العِشاء فما كانوا يُحبونه ليكونوا أنشط في قيامهم في اللَّيْلِ ومناجاتهم للرحمن -جلَّ جلاله-. فلا يُحبون كثرة الكلام بعد صلاة العِشاء إلَّا ما كان لضرورة أو ما استثنى أهل الفقه والعِلم مِنْ مثل مُذاكرة عِلم أو مؤانسة ضيف إلى غير ذلك.
وفي الحديث أنَّ سيِّدنا عُمَر جاء إلى النَّبي ﷺ فلم يجده في بيته، فجاء إلى أبي بكر فوجد ﷺ عِنْده، فاستأذن فأذِن له فدخل فوجدتُهما يتشاوران في شؤون الأُمة، وشاركتهم ثُمِّ قام ﷺ بعد نصف اللَّيْلِ، فقُمنا نقلبه؛ يعني: نُوصله إلى بيته؛ نُودعه ونُوصله إلى بيته. قال: فمرَّ ﷺ على باب المَسجد فسمِع ابن مسعود يقرأ، وكانت تُعجبه قراءته، فوقف على الباب يستمع قراءة ابن مسعود حتَّى طال قيامه، وسيِّدنا أبو بكر وسيِّدنا عُمَر قائمين معه، لا ينصرفون حتَّى ينصرف، حتَّى ختم ابن مسعود قراءته وأخذ يدعو. فقال ﷺ: "ادعُ قد أُستُجيب لك. ادعُ قد أستُجيب لك. ادعُ قد أستُجيب لك". ثُمَّ دخل بيته، وعُدنا كُلّ مِنا إلى بيته، ثُمَّ جئنا إلى صلاة الفَجر معه ﷺ. قال: فأردت أنْ أسبق أبا بكر وأُبشّر ابن مسعود، فجئت إليه فوجدت أبو بكر قد سبقني، متى جاء آخر اللَّيْلِ؟ متى جاء! وقد كلّم ابن مسعود وبشره أنَّ النَّبي سمِع قراءته، وقال له عند الدعاء: "ادعُ قد أُستُجيب لك. ادعُ قد أستُجيب لك. ادعُ قد أستُجيب لك". هذا حال الصَّحابة في القيام. وفيه أيضًا كلامه في اللَّيْلِ مع سيِّدنا أبو بكر الصِّديق في مشاورته في شؤون الأُمة وطول ذلك في اللَّيْلِ. فمِنْ هُنا استثنوا ما كان مِنْ مُذاكرة عِلم أو كان مِنْ مصلحةٍ للمُسلمين، وإلَّا فما بعد العِشاء ليس وقت للهذر وكثرة الكلام بغير نافع وبغير مُفيد. نَمْ حتَّى تقوم نشيط وتُناجي ربَّك -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-. يقول: "مَنْ كثُرت صلاته باللَّيْلِ حسُنَ وجهُه بالنَّهار".
قال: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ."
فأخذ الإمام مالك بظاهر هذا الحديث، فإنَّ عنده صلاة النَّفل لابُدَّ أنْ تكون ركعتين ركعتين لا يزيد عليها، فيُسلِّم مِنْ كُلِّ ركعتين. وهذا واجب عند الشَّافعية في صلاة التراويح. وقالوا: لا يجوز أنْ يجمع بين أكثر مِنْ ركعتين في صلاة التراويح، فلابُدَّ أنْ يُسلِّم مِنْ كُلِّ ركعتين.
كذلك لا يصح التَّطوع بركعة واحدة عند الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- وأنه لابُدَّ مِنْ ركعتين فأكثر. إلَّا في صلاة الوتر، يقول ﷺ: "إذا خِفت الصُّبح فأوتر بواحدة". والله أعلم. كما صحّ عنه ﷺ في سُنَّة الظُهر أنَّه صلاها أربعًا بتسليمة واحدة. سُنَّة الظُّهر القبلية أنَّه صلاها أربعًا بتسليمة واحدة. فهذا مِنْ جُملة ما ورد عنه عليه الصَّلاة والسَّلام في أنَّه صلى أربعًا بتسليمة واحدة. وعليه عَمَل بعض أهل العلم منهم الإمام الحداد، فكان يُصلي سُنَّة الظُّهر بتسليمة واحدة. أربع ركعات، يقرأ في كُلّ ركعة آية الكُرسي، ومُقرأ مِنْ سورة يس، وثلاثة مِنَ الإخلاص، في ساعةٍ مُباركة، يُقال: تُفتح فيها أبواب السَّماء؛ وقت ساعة الزَّوال. ويُروى: أنَّ مَنْ صلى فيها أربع ركعات، فأحسن رُكوعِهن وسُجودِهن، صلى عليه سبعون ألف مَلك، يستغفرون له إلى اللَّيْلِ. فهي ساعة تُفتح فيها أبواب السَّماء.
نظر الله إلينا، وأصلح شأننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين، وجعلنا مِنْ مُقيمي الصَّلاة، وجعلنا مِنْ المُقبلين بالكُلية عليه، وجعلنا مِنَ المقبولين لديه في خيرٍ ولطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 صفَر 1442