(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة في رمضان، باب التَّرْغيبُ في الصَّلاةِ في رمضان، وباب ما جاء في قيام رمضان.
فجر الاثنين 4 صفر 1442هـ.
باب التَّرْغِيبِ فِي الصَّلاَةِ فِي رَمَضَانَ
301 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى اللَّيْلَةَ الْقَابِلَةَ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلاَّ إنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ". وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
302 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوفِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أبِي بَكْرٍ، وَصَدْراً مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
باب مَا جَاءَ فِي قِيَامِ رَمَضَان
303 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ أَنَّهُ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ، فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إنِّي لأَرَانِي لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى, وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ. يَعْنِى آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
304 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيماً الدَّاريَّ، أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ.
305 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِي رَمَضَانَ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً.
306 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَنَّهُ سَمِعَ الأَعْرَجَ يَقُولُ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ، إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ. قَالَ: وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ.
307 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ، فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ.
308 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ذَكْوَانَ أَبَا عَمْرٍو - وَكَانَ عَبْداً لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ فَأَعْتَقَتْهُ عَنْ دُبُرٍ مِنْهَا - كَانَ يَقُومُ يَقْرَأُ لَهَا فِي رَمَضَانَ.
الحَمْدُ للهِ مُكرمنا بِبيان مِنهاجهِ، الّذي ارتضاهُ على يدِ عبدهِ وحبيبهِ ومُصطَفاه صَلّى اللهُ وسَلّم، وبارَك وكَرّم عليهِ في كلِ لمحة ونفس، وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَن والاه واهتدى بهداه، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلينَ، وآلِهم وصَحبِهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصّالحين، وعلينا مَعهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
ويَذكر الإمام مالك -رضيَ اللهُ تعالى عنه- في مُوًَطَئهِ كتاب الصّلاة في رمضان، ويَذكر لنا: "باب التَّرْغيبُ في الصَّلاةِ في رمضان" وهي الصّلاة المخصوصة في رمضان، وهي صلاة قيام رمضان وهي التي اشتهر بين الأمة اسمها بصلاة التّراويح، فهي من النّوافل الشّريفة المؤكدة التي يترتب عليها ربحٌ كبير، والمُواظب عليها يدخل في دائرة من قامَ رمضان فيحل لهُ الثّواب المذكور في قولهِ ﷺ: "مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ"
"باب التَّرْغيبُ في الصَّلاةِ في رمضان" أي: هذهِ الصّلاة المخصوصة التي تتميز بها رمضان عن بقية أيام وليالي السّنة. وذكرَ لنا حديث السّيدة عائشة زوج النّبي ﷺ أمُ المؤمنين "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ" أي: من ليالي رمضان "فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ" أي: المقتدين بهِ "نَاسٌ"، أي: عدد من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم؛ وفيهِ جواز الاقتداء في النّوافل، وإن لم ينوي الإمام إمامته، فإن ظاهر الرّواية أنَّه لما رأوهُ يُصلي، اقتدوا بهِ من دون أن يشعر بهم. ولكن قيل أنَّهم زادوا فيما بعدها، ثُمَّ تَخلف عنهم متعمدًا عليه الصّلاة والسّلام كما نقرأ في الحديث الشّريف. وقد كان يحتجر ﷺ عِند باب المدخل إلى بيت السّيدة عائشة؛ وهُو المدخل الّذي يدخل منهُ إلى المسجد، يحتجر بحصير، مكانًا يعتكف فيه، ويُصلّي فيهِ، إذا كان ليل احتَجر المكان بالحصير، وأمر السّيدة عائشة أن تحتجر لهُ مكانًا بالحصير، ثُمَّ إذا كانَ النّهار بسطهُ، فَصلَّى ﷺ.
"ثُمَّ صَلَّى اللَّيْلَةَ الْقَابِلَةَ"، أي: الليلة المُقبلة "فَكَثُرَ النَّاسُ" لمَّا سمعوا خبر الصّلاة مع النبي، وأنَّهم صَلّوا خلفهُ، ثُمَّ شاعَ الخبر أكثر واشتهرَ بين النَّاس، "ثُمَّ اجْتَمَعُوا" خلق كثير حتى جاءَ في الرواية: امتلأ المسجد حتى غَصَّ بأهلهِ، وفي بعض الرّوايات في رواية مسلم: "حتى عَجِز المسجد عن أهلهِ". ملأوا المسجد يريدون الصّلاة خلف النَّبي ﷺ حرصًا منهم على الإقتداء بهِ، وعلى حضور الصّلاة معهُ، في ليالي تَنزّل الرّحمٰن بواسعِ الأفضال، والامتنان في ليالي رمضان، "مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ"، أي: اسْتمَرَ بِهم ثلاثُ ليال، ففي الليلةِ الرّابعة عَجز المسجد عن أهلهِ، وتَعَمدَ الرّسول ﷺ عَدم الخروج إليهم.
وجاءَ في رواية صَلّى فقامَ معهُ ناس يُصلّون بصلاتهِ، ليلتين أو ثلاث، حتى إذا كان بعد ذلك، جَلس الّرسول ﷺ فَلم يخرج. امتلأ المسجد حتى اغْتصَّ بأهلهِ؛ حتى إذا كانت الليلة الرّابعة اغْتَصَّ المسجد بأهلِهِ، إذًا، فَتركَ الخروج كانَ في الليلةِ الرّابعةِ. ولِتعدد الرِّوايات:
فَعلى التَّعدد يأتي أنَّهُ ما عَيَّنهُ سيدنا أنس بن مالك، من ليالي قِيامهِ، وأنَّها كانتْ ليلة بعدَ ليلة، وأنَّهُ قامَ بِهم ليلةَ الثالثة والعشرين؛ وصَلُّوا معهُ حتى كانَ بعدَ ثُلثِ الليلِ، ثُمَّ قامَ بِهم لَيلةَ الخامِس والعشرين، لمْ يَقُم ليلةَ الرّابع والعشرين، وقامَ ليلةَ الخامِس والعشرين؛ فَصَلَّى بِهمْ حتى كانَ بَعدَ نُصف الليل، ثُمَّ لَمْ يَقُم بِهم ليلةَ السّادس والعشرين، فَصَلَّى بِهمْ ليلةَ السّابع والعشرين، حتى كانَ وقتُ السّحور؛ فانصَرفُوا في آخرِ الليل. هذا يُقرب أن يكون في سَنةِ من السّنين، وغير القصة المُشار إليها في قصةِ السَّيدة عائشة؛ أنَّهُ قامَ منَ القابلةِ مباشرةً، الليلةَ الثانية فَحملُ ذلك على تَعدّد القصة في السّنوات، يتناسب مع اختلاف الرِّوايات.
وجاءَ في رواية عِند أبي ذر: صُمنا مع النبي ﷺ رمضان فلم يقم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت: يا رسول الله لو نفّلتنا قيام هذه الليلة، فقال: "إنّ الرجل إذا صلّى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبَ له قيام الليلة". "فَلمَّا كانت الرّابعة لَمْ يَقُم، فَلمَّا كانتْ الثّالثة جَمعَ أهلهُ ونِسائَهُ والنَّاس فقامَ بِنا حتى خَشينا أن يَفوتَنا الفلاح؛ -أي: السّحور- ثُمَّ لَمْ يَقم بِنا بَقيةَ الشّهر" رواه أبو داود والتّرمذي والنّسائي. إذًا، فَحمله على تَعدّدِ الرّوايات أقرب على تَعدّد القصة، إنَّها في بعض السّنوات كذا.. وكلٌّ حدّث بِما حَضر مَعهُ ﷺ.
وفِيهِ سُنِّية صلاةُ التّراويح، وهِي مُجمعٌ عَليها
وذلك أنَّ أهل مكةَ كانوا إذا صَلّوا أربع رَكعات تُسمى تَرويحة، طافوا بالبيتِ العتيق، وصَلَّى كلُ مِنهم رَكعتين سُنَّة الطّواف، ثُمَّ صَلّوا أربعة أخرى مِن التّراويح، ثُمَّ قامُوا فَطافُوا بالبيتِ، ثُمَّ صَلّوا رَكعَتي الطَواف، ثُمَّ صَلّوا أربعًا ثالِثةً، ثُمَّ يَقومون ويَطوفون بالبَيتِ يُصُلّوا رَكعَتي الطَّواف، ثُمَّ يُصَلّون أربعةً رابِعةً فيصَلّون إلى السّتةِ عَشر مِن الرَكعات، فَيطوفون بالبيتِ يُصَلون سُنَّةَ الطّواف، ثُمَّ يُصَلّون أربعًا يَكمِلوا بِها العَشرين والوِتر. فَلمْ يَكن عِندَ أَهل المدينة طَواف لأن الكعبة لَيستْ عِندهم، فأحبُوا أن يَزيدُوا مكان كُلَ طَوفَة تَرويحَة، فَصارتْ أربعُ تَرويحات، كُلَ تَرويحَة رَكعة، أربع رَكعات ستَةَ عشر فوقَ العشرين فَصارت سِتَ وثلاثين، فصاروا يُصَلون التّراويحَ بالمدينةِ سِتًا وثلاثين. وهكذا قالَ الإمامُ الشافعي: أدْركتُ النَّاسَ بالمدينةِ وَهُم يُصَلون سِتًا وثلاثين رَكعة صلاة التّراويح في رمضان.
ثُمَّ إنَّهُ في تَعيينِ الرَّكعات التي صَلَّى بًِها بِهم ﷺ جاءتْ رواياتِ وَصَحَّح عدد مِنَ الحُفاظ رِواية العشرين. -وعندنا في المُوطأ رِواية الثمان ورواية العشرين- وصَحَّحَ جماعة رِواية العشرين التي قَوّاها إجماعُ الصّحابة، فإنَّهُ أجمع الصّحابة بعد ذلك في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، لمَّا أقامَ صلاة الجماعة وأعادها بصلاةِ التراويح، فجمعهم فَصَلّوا عشرين رَكعة وأوتَروا بثلاثِ، فصَلّوا ثلاث وعشرون رَكعة في المدينةِ وكذلك في مكة. فَصارَ ذلك مُقَوِيًا لحديثِ صلاته ﷺ عشرين رَكعة، فيما روى ابن أبي شيبة والطبراني وغيره.
وقالت: "فَلَمَّا أَصْبَحَ" في الليلةِ الرّابعةِ ولمْ يخرج، وقد انتظروا خُروجَهُ وحتى تَنحْنَحَ بعضهم، وحتى قالَ بعضهم: الصّلاة الصّلاة! يُريدون النبي ﷺ يَخرج إليهم، النبي ﷺ فَكانَ مُتعمِدًا أن لا يخرج إليهم، وأخبرهم بذلك في اليوم الثّاني، فقالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ" وفي روايةٍ: "لمْ يَخْفَ عليَّ مكانكم". قالَ: "وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلاَّ إنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ"؛ يعني: القيام في رمضان، فَكانَ رحمةً وشَفقةً بِأُمّته عليه الصّلاة والسّلام، تَركَ الخروج إليهم؛ لأنَّهُ خافَ إذا اجتمعوا بهذا الاجتماع أن يُفرَض عليهم القيام في رمضان. ولا يَتَنافى هذا مع ما قالَ لهُ الحق ليلةَ الاسراءِ والمعراج: "أمضيتُ فريضَتي وخَفّفَتُ عن عبادي هُنَّ خمسٌ ولَهُنَّ أجرُ خمسين لا يتَبدل القولُ لَدّي"؛ لأنَّ ذلك في فرضِ الصّلوات في اليوم والليلة، فَالصَلوات في اليوم والليلة لن تزيدُ على الخمس هي هذه؛ لا يُبدل القول لَدَّي، ولكن لايزالَ وقتُ التّشريع قائم، أن يُفرض قيام رمضان غير الصّلوات الخمس في اليوم والليلة يُمكن لذلك فقال: " خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ " ﷺ فَلا تنافي بينه وبينَ ما قالَ لهُ ما يُبدِّلَ القَول لَدَّي. فَلَم يَخف زيادةَ الصّلَواتِ في اليوم والليلة، ثابتة كما هي في كل يوم وليلة خمس صَلوات لكن خافَ أن يَختَصّ رَمضان بفرضٍ في القيامِ فًيُفرض عليهم قيامُ رمضان إذا اجتمعوا، وذلك هو الّذي أُمِنَ بَعدُ وفاته عليهِ الصّلاةِ والسّلام، ولكن في السّنةِ الحادية عَشر التي تُوفِيَ فيها لمْ يَجتمع النّاس في عهدِ سيدنا أبو بكر، وفي السّنةِ الثّانية عشر لم يجتمع النّاس كذلك، ثُمَّ السّنةَ الثّالثة عشر وقَد تُوفِيَ سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وكانت خلافة سيدنا عمر ولَم يَجتمع النّاس كذلك، فَلمَّا كانتْ السّنة الرّابعةَ عشر جَمعهم سيِدنا عمر بن الخطاب فكانَ اجتماعهم على صَلاةِ التّراويح من تلك السّنة. ولَم يَزل المُسلمون يجتمعون على صَلاةِ التّراويح العشرين من السَنةِ الرّابعةَ عشر حتى سَنة ألف وأربعمائة واثنان وأربعون، وإن خَفَّت في هذه السّنة في بعض الأماكن، أو صَلّوا مُتفرّقين ولكن ثابتة فيها السنِّية من تلك السّنة قبل ألفين وأربعمائة عام وثمانية عشر سنة وأكثر، هذهِ ثمان وعشرين سنة وأربعمائة وألف استمر المسلمون يُصَلّونها بهذا الجمع الّذي جمعهم عليه سيدنا عمر بن الخطاب رَضيَ الله تبارك وتعالى عنه.
ويذكر عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ" أي: بفرضِ؛ يعني نَدَبَ إلى القيامِ ورَغّب فيهِ من دونِ أن يفرضه ويُوجبه على الأُمة ﷺ، فَيَقُولُ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ " أي: واظبَ على صَلاةِ القيامِ في رمضان، ولهذا قالوا من واظبَ على صلاةِ التّراويح مِن أول ليلة إلى آخر ليلة يدخل في أنَّه قامَ رمضان باتفاق. "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً" تصديقاً بخبرِ الحقِ ورسولهِ ﷺ "وَاحْتِسَاباً" طَلبًا للثوابِ مُخلِصًا لوجهِ رَبهِ، لا لِرياءٍ ولا لِغرضٍ آخر، "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، قالوا في أحاديثِ المغفرة أن المرادُ بِها الصَّغائر، ألا أنَّهُ تتناول الكبائر لِمن لا صَغائِرَ لهُ، وأن الكبائر وما يتعلق بحقوقِ الخلق، لا يُكَفَّر بشيءٍ من الأعمالِ الصّالحة، وإنَّما بالتوبةِ الصّادقةِِ، إلا الحج المبرور قالوا إنَّهُ يُكَفِّر الصّغائر والكبائر، وتبقى حقوق النّاس إلا ما عجزَ عن أدائهِ بعد الحج المبرور. "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" وفي الحديث أيضًا: "إن الله فرضَ عليكم صيامَه، وسَنَنّتُ لكم قِيامه، فَمن صامَهُ وقامَهُ إيمانًا واحتسابًا خرجَ من ذنوبهِ كيومُ ولدتهُ أُمُه".
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوفِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" استوفى العمر الّذي أقسمَ اللهُ بهِ في القرآنِ، وكَتبَ أن يَقضِيَهُ بين أظهُرِنا على ظهرِ الأرض، استوفى ذلك فَتُوفِيَ "وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ" في السّنة الحادية عشر من الهجرةِ، وذلك أنَّ المرض ابتدأ بهِ في اليومِ السّابع أو الثامن والعشرين من شهرِ صفر، في يومِ الأربعاء آخر أربعاء في صفر، ولَم يَزل كذلك إلى أن تُوفِيَ يومَ الاثنين، في أثناء شهر ربيعُ الأول، قيلَ: اثنا عشر وقيلَ غَيرهُ، ولا يَتطابق اثنا عشر معَ ما صَحَّ في الرّواياتِ أنَّهُ ﷺ تُوفيَ يوم الاثنين، فبالإجماع أنه يوم الاثنين، وما يجيء يوم إثنا عشر في تلك السّنة، الحادية عشر يوم الأثنين؛ لأنَّهُ حَجَّ بالنّاس فكانت حُجَتهُ الجمعة، أي دَخل شهر ذي الحجة يوم الخميس، فيكون اليوم التّاسع والعشرين من ذي الحجة يوم خميس، فلو خَرجت كُلهَا تسع وعشرين، فيكون السّبت أول يوم في مُحرم وهو التاسع وعشرين، والأحد أول يوم في صفر وهو التّاسع والعشرون، فيكون الإثنين أول يوم في ربيع الأول، فلا يتأتي أن يكون إثنا عشر ربيع الأول ما يكون. ولو خرجت كُلها بالثلاثين، فكانَ يوم الجمعة يوم الثلاثين من شهر ذي الحجة، فدخلَ محرّم يوم السّبت، وخرجَ ثلاثين، فيكون يوم الإثنين أول يوم من أيام شهر صفر، فإذا خرجَ بثلاثين أيضًا، فيكون يومَ الأربعاء أول يوم من أيام شهر ربيع الأول، فلا يكون يوم الإثنين يوم إثنا عشر! وإذا حسبنا بعضها تسع وعشرين، وبعضها ثلاثين ما يجيء يوم الاثنين يوم الاثنا عشر في ربيع الأول، فيكون وفاتهُ في غير يوم إثنا عشر في ربيع الأول، لأنَّهُ متفق على أنه يوم الاثنين ﷺ. إلا أنَّهُ جلسَ مدة نحو سبعة عشر يومًا في المرضِ ﷺ، فصادفَ فيه جُمعتان في أيامِ مرضهِ، يقال أنه خرجَ فيهما فَصَلَّى بالنّاسِ، وكانَ استخلافُه لسيدنا الصّديق لبقية الفروض، أمّا الجمعة فَتَكلَفَ الخروج إليها، فخرجَ أيام مرضهِ فَصلَّى بِهم ﷺ.
"ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أبِي بَكْرٍ"، وهي في السّنة الحادية عشر، والسنة الثانية عشر من الهجرةِ، كانَ سيدنا أبي بكر في الخلافة، ولَم يأتي رمضان في السّنة الثّالثة عشر، إلا وقد تُوفِيَ سيدنا أبو بكر، وكانت الخلافة لسيدنا عمر بن الخطاب رضيَ اللهُ عنهُ، فَلمَّا كانت السّنة الرّابعة عشر جمع النّاس لِصلاةِ التّراويح عليهِ رُضوان اللهِ تبارك وتعالى. وقالوا إنَّهُ لَم يَجمع النّاس سيدنا أبي بكر الصديق؛ لأنَّهُ شُغِلَ بأمرِ أهلِ الرِّدة والجهاد ولََم يُفكر في هذا، ومُهماتِ الأمور فما تَفَرّغَ للنظرِ فيما يتعلق بهذهِ المهمة، أو بهذهِ السُّنة. وكذلك ما كانَ النّاس عليهِ في ذلك العهدِ، من قيامِهم في آخر الليل وَقُوَّتِهم عليهِ، وبعد ذلك رأى سيدنا عمر أن يجمعهم على إمامٍ واحد، ولمَّا رآهم هذا يُصلّي وكذلك كانوا لمَّا تَخلَف صَلَّى ﷺ عن الخروجِ إليهم، كانوا يُصَلّون أفرادًا ويُصَلّون جماعات، الرّجل يُصَلّي ومعهُ ثلاثةَ وأربعة وخمسة وعشرة، وأقل وأكثر.. فكانَ ذلك في عهدهِ ﷺ، وفي عهدِ سيدنا أبو بكر، ثُمَّ في أولِ خلافة سيدنا عمر ثُمَّ جاءَ جمعهم على إمامِ واحد.
إذًا، هي سُنَّة مؤكدة للرجال والنّساء. وقيل أنَّها تَسُن أن تُصلّى فرادى، وهو أيضًا قولٌ عندَ المالكية. ولكن عندهم أيضًا تأكد التراويح مُقرّر في مذاهِبِهم قيام رمضان والجماعة فيهِ مُستحبة كما يأتي في كتاب شّرح الكبير من كتب المالكية في الفقهِ وغيره. فتتأكد صلاة التّراويح في رمضان عشرون رَكعة، بعد صلاة العشاء، يُسلم من كل ركعتين بالاتفاق؛
وأخذَ المالكية بقولهِ: "صلاة الليل مَثنى مَثنى"، وذلك أنّّهُ الأفضل أن يُسَلّم من كلِ رَكعتين. وجاءَ في بعض الرّوايات: صلاته ﷺ أربعًا ثُمَّ أربعًا، وذلك في غيرِ رمضان. إذاً فهي عند الأئمة سُنَّةٌ مؤكدةٌ، من قولهِ ﷺ ومِن فِعلِهِ في بعضِ الليالي ومِن فِعل الصّحابة بعدهُ وإجماعِهم على ذلك، عليهم رضوانُ الله تبارك وتعالى.
يقول: "عَن عبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ" بن عبد، أي: بن عبدٍ؛ اسم أبيه عبد، القاريّ نسبةً إلى القارَةِ بطن من خزيمة. "قَالَ: خَرَجْتُ" كانَ من عمالِ سَيِدنا عُمر هذا عبد الرّحمن بِن عبد كانَ من عمال سَيِدنا عمر يعمل معَ عبد الله بِن الأرقم في بيتِ مال المُسلمين. قَالَ: "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ" لسنة أربع عشر من الهجرةِ "إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ" يعني: بعد صلاةِ الِعشاء "فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ" يعني جماعات مُتفرقة، "مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ، فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ"، والرّهط من الثّلاثة إلى عشرة، "فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إنِّي لأَرَانِي" يعني: أرى نفسي، "لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ" يأتَمُّونَ بهِ، ويَسمعون قِراءَتهِ. وفي لفظٍ قال: "لو جمعنا هؤلاء على قارئٍ واحدٍ لكانَ خيرا"، وفي هذا اللفظ عندكم في المُوطأ: "لَكَانَ أَمْثَلَ"؛ يعني: أفضل وأَسَر. ومِن المعلوم أنَّ هذا الجمع وإن لَم يَكن في آخرِ حياتهِ ﷺ، ولا في زمن أبو بكر الصديق لكن يندرج تَحتَ:
فلم يرَ به بأسًا، وكل ما اندرج تحتَ عموم ما جاءَ في النصوصٍ الكريمة لا يكون بالقيامِ بهِ بأس؛ إنَّما البأس فيما خالفَ النّصوص، وخرجَ عن الأصولِ والقواعد التي جاءَ بِها ﷺ، وهو الّذي يكون بدعة؛ أي: مَذمومة، وتَسمِيَتهُ ببدعةِ في اللغةِ، لا في الشّرع.
وهكذا يقول ﷺ في روايةِ: "ومن ابتدع بدعةً ضلالةً، لا يرضاها الله ورسوله"، جاءَ هكذا في روايةِ عنهُ ﷺ فبَيَّنَ معنى البدعة في الشّرعِ، كما بين معنى السُّنة عليهِ الصّلاة والسّلام في الشرع فقال: "عليكم بِسُنَّتي وسُّنة الخلفاء الرّاشدين المهديين من بعدي"، وبَيَّن معناها في اللغةِ فقال: "مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها ، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها ، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها ، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها" وكيفَ تكون سُنَّة سَيئة؟ سُنَّة بمعناها اللغوي؛ طريقة مخالفة لطريقةِ النّبي هذهِ السُّنَّة السيئة وهيَ البُدعة نَفسها في عرفِ الشّرع.
قالَ "فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ" جَعلهُ إمامًا لهم، لقوله ﷺ فيهِ: "أقرَأهم أُبَي" وقالَ سيدنا عمر: أقرَأنا أُبَي وإنّا لَنترك أشياء من قِراءةُ أُبَي. فَجمعهم على أُبيّ ولأنَّهُ كانَ من أيامِ النَّبي ﷺ يُصَلّي معه جماعة، سيدنا أُبيّ يصلي بهم مِن أيامِ النَّبي يُصَلّي بِهم ﷺ أحيانًا، ولكن بعضهم وحدهُ، وبعضهم جماعة أخرى، سَيدُنا عمر إختارَ سَيدُنا أُبَي لِكونهِ مِن أيامِ النَّبي ﷺ وهو يُصَلّي بالنّاسِ ولِكونه أقرَأ؛ مِن أقراأ الصّحابة ومِن أقرأ الأُمّة للقرآنِ فجمعهم عليهِ، فكانَ يُصَلّي بالناسِ فَمرَّ سيدنا عمر بن الخطاب وَهُم يُصَلّون، فقالَ:" نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ" يعني: رأَينا في جمعهم بَعد أَن كانوا مُتفرقين؛ بدعةٌ من جهةِ اللغة لأنَّ ذلك لَم يكن قائِمًا في آخرِ عَهدهِ ﷺ وفي أيامِ أبي بَكر. والقولُ عند المالكية: بأنَّ البيت فيها أفضل، أو الفُرادى مالم يتعطل المسجد، وإلا فالخروج إلى المسجدِ أفضل. قال سيدنا عمر: "وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا" يعني: آخر الليل؛ صلاة آخر الليل "أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ. يَعْنِى آخِرَ اللَّيْلِ" أفضل من قيام أوّل الليل "وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ".
ولكن بَعد ذلك تَبيّن مِن كلامِهم أنَّهم صاروا يُطيلون الصّلاة جِدًا، حتى عَمَّ قِيامِهم أول الليل وآخر الليل، كما جاءَ. فكأنَ سيدنا عمر بذلك بَدأَ يَندبهم إلى الإطالةِ، حتى يَشمل الصّلاة آخر الليل، فجاءَ ذلك، كما أنَّه جاءَ عنهُ ﷺ في روايةٍ سابقة أنَّه لمَّا صَلّى بِهم في ليلةِ سبع وعشرين، صَلّى بِهم حتى خِفنا أن يفوتنا الفلاح؛ يعني: ما نُدرك أكل الطعام قبل طلوع الفجر. يعني عَمَّمَ الليل بالصلاةِ ﷺ. فَبِكلام سَيدنا عمر نَدبَهم إلى الإطالةِ؛ أن لو يُطيلون التّراويح إلى وقتِ السّحور كانَ الأفضل، ثُمَّ ثَبتَ ذلك أيضًا عنهم. ويقولُ في روايةٍ عنه سَيدنا عمر عِند أبي شيبة: "إنَّكم تَدَعون أفضل الليل آخره". ويقولُ ابن عباس: دعاني عمر إلى لأتغدّى عِنده -أي: السّحور- فَسمع هيعة النّاس حين يَخرجون من المسجدِ، فقالَ: ما بقي من الليل خيرٌ مِمّا ذهبَ عنه.
ويذكر لنا: "أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيماً الدَّاريَّ، أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ"، الدّاري نسبةً إلى دير كانَ في تميمِ قبلَ الإسلام، وقيل أنَّها قبيلة، ولكن الأصح أنه نسبة إلى الدير. "أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ" أي: يُصَلّي بِهم أُبَيّ، ثُمَّ يَكمل الصّلاة تميم. ويقرأُ الثّاني من حيثُ انتهى الأول، في هذه الرِوايةَ "بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً"، المُراد: ثمان تراويح وثلاثُ وتر. وجاءَ في روايةِ مالك كما ستأتي، جاءَ كذلك في رواية غير مالك: "إحدى وعشرون"، وهذا هو الصّحيح إنَّهُ إحدى وعشرون ركعة وهو المرجّح وعليه العمل. ولذلك كما رَجَّح ابن عبد البر وغيرهُ: ان الصلاة كانت بثلاثِ وعشرين، فكانوا يُصَلّونَ عشرين تراويح وثلاثًا هي الوتر.
"قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ" يعني: مِئات الآيات، مئين جمع مئة؛ أي: السّور التي تلي السّبع الطّوِال إلى الكهفِ، التي تَقرُب عدد آيات السّورة مِن المئة حتى يقولُ: "حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ" جمع عصا "مِنْ طُولِ الْقِيَامِ" لِهذا اكتسبت أسم التّراويح؛ لأنَّهم كانوا يُراوحون بين أرجلهم من طولِ القيام. "وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ"، يعني: أوائِله وأعالِيِه، يعني قُرب طلوعِ الفجر، فكأنَّهم لمَّا دَأَبوا على صلاةِ التّراويح صارَ يُطَوِلونَ شيء فشيء حتى استغرقوا عامةَ الليلِ عليهم رضوانُ اللهِ تعالى. وكانوا يَقومونَ بالمئين وكانوا يتوكئون على عِصِيَّهم في عهد عثمان من شدةِ القيام.
قال: "كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِي رَمَضَانَ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً". وذكر في الحديث بعده قال: "مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ، إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ" يعني: يَقنِتُون في الوترِ، المراد بالقُنوت في الوترِ، وفيهِ الدُّعاء على المُعاندين والمُحاربين والمُقاتلين من الكفارِ، فَسَمّاهُ اللعن. فالقُنوت في الوترِ، وذهبَ أيضًا الى القُنوتِ في رمضان في الوترِ إلى أنَّهُ يُقنت فيهِ، وليسَ ذلك عِندَ الإمام مالك.
وصارت روايات عن الشافعي.
قال: "وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ"؛ أي: يُوزعها على ثمانِ رَكعات. أشارَ إلى مقدارِ ما يقرأونَ في الصَّلَوات، قالَ: "فَإِذَا قَامَ بِهَا بسورةِ البقرة فِي اثْنَتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ" هذا الإمام يُخفف قرأَ سورةَ البقرة في اثنتي عشر رَكعة! والآن نَقرأَها ونقسّم منها مَقارئ في عشرين رَكعة، ويرى بعض النّاس أنَّها طويلة! لا حول ولا قوة إلا بالله!! كانَ إذا قرأُوها في اثنتي عشرَ رَكعة، قالوا خَفّف! ونحن نَقرأُها و نُقَصّر مِنها في عشرينَ رَكعة، ويَرَون أنّها طويلة.. ما لَه نفس تعشق القيام بينَ يَدَي الله! يريد يتكلم هو وأحد من أصحابه أو ينام أو يلعب أو يشاهد الجوال ساعة وساعتين … أما هذه طويلة! ولكن هَدي الأكابر والأوائل عندنا والصّحابة يَرونَ أنَّ سورةَ البقرة في ثمانِ، والثمان الثانية نحتاج لها مثل سورة البقرة؛ ستة عشر، والأربعة تحتاج لها مثل نصف سورة البقرة، فإذا قرأ الإمام وزّعها على اثنتي عشرَ رَكعة قالوا خَفِّف..! لا إله إلا الله! الله يردُ على المسلمينَ حقائق الإيمان واليقين وذوقهم لِلوُقوفِ بينَ يَدي رَبِّهم.
ويقول: "كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ، فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ" بسرعة قدّموا السحور "مَخَافَةَ الْفَجْرِ".يعني كملوا صلاة، وهكذا.. قالَ بعضهم ذكر أن الحبيب أحمد بن حسن العطاس أنَّهُ سافرَ إلى بعضِ مناطق في الهند، جاء في رمضان دخلَ إلى مسجد معاه من أول الليل يُصلون، وشَرَع الإمام يُصلّي بِهم بسورة البقرة، وهكذا وكمّل البقرة شَرعَ في آلِ عمران، وكمّل الِ عمران وهم في أثناءِ الصَّلاةِ، يقسّم القرآنِ على الرَّكعات، وهكذا ومن أول الليل وهم يُصَلّون، قامَ قرأَ سورةَ النّساء، وقرأَ سورةَ المائدة، وقرأَ سورةَ الأنعام إلى آخر الليل، آخر رَكعة في التّراويح قرأَ قُل أعوذُ بربِ النّاس.. كمّل! فَتعجبَ فيهم! قالوا له أنتَ غريب.. اذهب صلِّ في مسجد ثاني، هذا المسجد عندنا نُصَلّي كُلَ ليلةٍ ختمة في التّراويح، كل ليلة يختمون ختمة، يُصَلّون مِن أول الليل إلى آخرهِ ويخرجون قبلَ الفجر يوهم كمّلوا ختمة في صلاةِ القيام في رَمضان.
قال: "كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ، فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ.". ويقولُ: "أَنَّ ذَكْوَانَ أَبَا عَمْرٍو - وَكَانَ عَبْداً لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ فَأَعْتَقَتْه عَنْ دُبُرٍ مِنْهَا" أي: دَبّرته؛ جَعلته مدبّرًا يكونُ عتيقًا بِمماتِها؛ إذا ماتت يكون حُر. فكانَ يأتي عائشة هو وأبوه عبيد بن عمير بن بسر بن مكرمة، فَيُؤُمهم أبا عمر مولى عائشة، وهو حينئذٍ غلام لم يُعتق كانَ مَملوك، ولكِنَّهُ كانَ قارئ يحفظُ مِن القرآنِ "كَانَ يَقُومُ يَقْرَأُ لَهَا فِي رَمَضَانَ"؛ يعني: يَؤُمَها في صلاةِ التّراويح، لأنَّهُ لا تَؤُمّ المرأة الرّجل، وتُصَلّي خلفَ الرَجل، فكانَ هذا مَملوكها وعَبدها، يُصَلّي بِهم وأُمُ المؤمنينَ عائشة مأمُوم خَلفهُ تُصَلّي. كما جاءت بهِ الشّريعة المُطهرة.
الله يُبلغنا رمضان، ويَجعلنا من خواصِّ أهله، اللهم بلّغنا رمضان هذا العام وأنتَ راضٍ عَنّا، في صلاحٍ ونجاحٍ وفلاحٍ ودفعٍ للبَلاء عن المؤمنين والمؤمنات، وظهورٍ لراية الحقِ والهدى والدينِ القويم، يا حيّ يا قيوم.. بلّغنا ما نروم، وفوق ما نَروم، واربطنَا بالسّيد المعصوم، ربطًا لا ينحل في جميع ما نفعل وننوي ونعتقد ونقول، وبلغنا بذلك غايات المنى والسّول، وأقصى المأمول من كل خير أحاط به علمِكَ يا بَرّ يا وَصول، في الدين والدنيا والبرزخ والآخرة، بوجاهة سيّد أهل الوجوه النّاضرة التي إليك ناظرة، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
05 صفَر 1442