(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في السَّعي يوم الجُمُعة، وباب ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر.
فجر الأربعاء 28 محرم 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
287 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة:9]، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقْرَؤُهَا: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا السَّعْيُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ) [البقرة:205]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى) [عبس:9]، وَقَالَ: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) [النازعات:22]، وَقَالَ: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:4].
قَالَ مَالِكٌ: فَلَيْسَ السَّعْيُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَا الِاشْتِدَادَ، وَإِنَّمَا عَنَى الْعَمَلَ وَالْفِعْلَ.
باب مَا جَاءَ فِي الإِمَامِ يَنْزِلُ بِقَرْيَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي السَّفَرِ
289 - قَالَ مَالِكٌ: إِذَا نَزَلَ الإِمَامُ بِقَرْيَةٍ تَجِبُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، وَالإِمَامُ مُسَافِرٌ، فَخَطَبَ وَجَمَّعَ بِهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَغَيْرَهُمْ يُجَمِّعُونَ مَعَهُ.
290 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ جَمَّعَ الإِمَامُ وَهُوَ مُسَافِرٌ بِقَرْيَةٍ لاَ تَجِبُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ، وَلاَ لأَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَلاَ لِمَن جَمَّعَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلْيُتَمِّمْ أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ الصَّلاَةَ.
291 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ.
الحمد لله مُكرِمنا بأحكامه، وتنزيله القرآن على عبده المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه محسنًا الائتمام به، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يقول الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في موطئه: "باب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" وذلك ما جاء في القرآن الكريم في قول الله تعالى: "(يٰٓاَيُّهَا الَّذِيْنَ اٰمَنُوْٓا اِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلٰوةِ مِنْ يَّوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا اِلٰى ذِكْرِ اللّٰهِ وَذَرُوا الْبَيْعَۗ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ اِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ) [الجمعة٩]" ولمّا كان السّعي مُشتركٌ لمعانٍ، فمنها المُضيُّ والعمل، ومنها الجَريُ مقابل التأني في المشي، وفيه جاء الحديث الكريم: "إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ولا تأتوها وأنتم تسعون"، وفي لفظ: "إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينةِ، ولا تأتوها وأنتم تَسْعَوْنَ، فما أدركتم فَصلُّوا وما فاتكم فَأَتِمُّوا" وفي لفظ: "وما فاتكم فاقضوا".
فلمّا كان السعيُ بمعنى الجري منهي عنه لإدراكِ الصلاة، ولكن نأتيها وعلينا السكينة، فقد يُشْكُل على بعضهم ذلك في قول الله: (..إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ..) إذا أذّنَ المُؤذن لها عند دخول الخطيب وجلوسه على المنبر (..فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ..) وهل المراد العدو والجري؟ أو المراد المبادرة والمضيّ من دون تخلّف واشتغالٍ بشيءٍ آخر؟. فأراد الإمام مالك أن يبين المعنى المراد في هذه الآية الكريمة، وأنّه تَعدّد ذِكرُ السّعي في الآيات بمعنى العمل لا بمعنى الجري. فذكر عددًا من الآيات فيها لفظ السّعي، وليس المراد به جريٌ ولا عَدوٌ أبدًا؛ فيبين بذلك موافقة السّنه للكتاب وأنّه لا يُراد بمعنى السّعيُ في الكتاب إلا ذلك العمل. قال -عليه الرضوان-: "حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ" أحد شيوخه من التابعين ابن شهاب الزُهري "عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ..) [الجمعة٩] (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ..)؛ الخطبة أو الصلاة أو الخطبة مع الصلاة (..فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ..) فاقتضى وجوب السّعي إلى الذكر.
فهناك ذُكرٌ يجب السّعي إليه. قال ابن المسيب: (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ..) موعظة الإمام. وجاء عن سيدنا عمر: إنّما قُصِرتْ الجمعة لأجلِ الخُطبة. والخُطبة هي التي تلي النداء، إذًا، هذا المنادي ينادي للخطيب (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّه..) فيدل على أنّ معناها الخطبة كما قاله الحنفية وغيرهم. وهكذا جاء عن جماعةٍ من السلف، ومعلومٌ أنّهم أيضًا يرَووا: لو لم يخطب لما صلّوا الجمعة، بل صلّوا أربع ركعات. فجمهور العلماء على أنّ الخطبتين قبل الجمعة شرطٌ أو ركنٌ، فهي من الشروط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، فالجمهور على أنها فرضٌ أو واجبٌ أو شرطٌ أو ركنٌ.
وهل هي بدل عن الركعتين؟.
وعلى كل الأحوال أراد الإمام مالك أن يبين معنى السّعي. فذك: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ" الزُهري "فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقْرَؤُهَا: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"، ولم يقلْ: (فاسعوا) وهذه من قراءات الآحاد، و ليست من القراءات المتواترة. وكان كذلك يقرأ ابن مسعود -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. ويقول ابن مسعود: ولو قرأتها (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) لجريت حتى يسقط ردائي ولاشتدّتّ في العدو لأجل الصلاة.
وهكذا المراد بالسّعي (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) المضي وعدم الاشتغال بشيءٍ آخر غير السّعي إلى الجمعة، كما أشار في قوله (وَذَرُوا الْبَيْعَ) واتركوا كل قاطعٍ يقطعكم عن تلبية النداء والحضور. ومن هنا علمنا ما قال أهل الفقه من حرمة الإشتغال لمن وجبتْ عليه الجمعة بأيّ شيءٍ غير السّعي إلى الجمعة، ولو كان قضاء صلاةٍ مفروضة، لا يشتغل به في ذلك الوقت بل يمضي الى الجمعة تعظيمًا لأمرِ الله تبارك وتعالى. ويحرم عليه الاشتغال بأيّ شيءٍ، وأنّ البيع والشراء في ذلك الوقت حرام يشتركُ في إثمه البائع والمشتري، وإن صحّ البيع ولكن مع الإثم والحرمة والعياذ بالله تبارك وتعالى. فذكر قراءة سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وأهل الأصول يقولون: أنّ القراءة للصحابي -إذا جاءت- فهي بمعنى التفسير، فإن أسندها إلى النبي ﷺ فحكمها حكمُ حديث الآحاد في الاحتجاج به، والإّ فهي قوله ورأيه إن لم يُسندها الى النبي ﷺ.
يقول: "قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا السَّعْيُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ"؛ يعني: جاء في عددٍ من الآيات لفظ السّعي بهذا المعنى، وسرد الآيات يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ) يعني: انصرف عنك. (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) [البقرة 204-205]. وليس المراد أنّه جرى في الأرض، ولكن عمل فسادًا في الأرض، وفعل أمورًا مخالفة بعيدة عن الخير. (سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ). ويقال إنّها نزلت في الأخنس بن شُريق، وكان في أول أمره منافقًا حلو الكلام ويحلف أنّه مؤمنٌ ومحبٌ للنّبي، وهكذا يحلف للنبيّ، فيُدني مجلسه و مرّ بزرع وحُمر لبعض المسلمين ليلاً فأحرق الزرع وعقر الحُمر، و قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصام* وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚوَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:204-206].
وقال عز وجل: (وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ* وَهُوَ يَخْشَىٰ) [عبس8-9]. فليس المراد أنّه جاء يجري، ليس المراد أنّ عبد الله بن مكتوم جاء الى النبي يجري في الطريق، ما جاء يجري! يعني: علم أنّ العمل الصالح الطيب في الحضور بين يديك والاستماع إليك. (جَاءَكَ يَسْعَىٰ). وهذا فيه -في حديث سيدنا عبد الله بن مكتوم- والذي استرسل فيه المفسرون وغيرهم، أنّ ذلك عِتاب من الحقِّ لحبيبه ﷺ، وإن ورد ايضًا في الحديث: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي"، فإن ذلك من الألفاظ اللائقة بمقامِ النّبوة في تذلّـله وتواضعه للإله -جل جلاله- والآية تضمّنت تقريرًا له ﷺ عمّا فعله في بلاغ الدعوة، في اهتمامه بالإرشاد والتّعليم، وتنبيهه ضمنًا للسائل كابن مكتوم وغيره: أن يتحيّنوا للسؤال الوقت المناسب، وأن يُحسنوا السؤال وقتًا وكيفيةً، ولا يبادروا بأسئلتهم في غير الحال اللائق بالسؤال؛ فكان هذا إرشاد منه ﷺ لابن مكتوم أقرّه عليه القرآن الكريم.
وكان فيه بيان اهتمامه عليه الصلاة والسلام ببلاغ أمر الله حتى خالف العادة للبشر، وهو أنّ الإنسان إنّما يُحب ويستأنس ويُقبل على من عظّمه واحْترمه وأقبل عليه، وأمّا من كان يُكابره ويُعانده، فإنّ نفسه تنفر عنه ولا يحب الإقبال عليه، ولكنّه ﷺ لم يكن في مسار الأنفس البشرية ولا عادتها، وكان في نورانيّته وعبديّته للحق تعالى، أقبل على هؤلاء المعرضين المدبرين رجاء إنقاذهم من الجحيم، وأن يهديهم الله، ويكون سبباً لهداية غيرهم.
والنفس ما تحب الإقبال على هذا الصنف. وبهذا يقول الإمام عيدروس بن عمر الحبشي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: إنّ الله تبارك وتعالى ذكر حال نبيّه عند بلاغ الرسالة وقرّره وأيّده عليه بقوله في مخالفة حاجة النفس: (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ *أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ) فصدر منه ﷺ ذلك وترقّبَ من الحق أذلك هو الأحقّ والصواب فيما فعله أو لا؟ فقال له: نعم (وَمَا يُدْرِيكَ) إنّ فعلك معه ذلك في تزكيتك للمؤمنين بك واتباعك (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ) فهو بإعراضك عنه في هذه الساعة وإقبالك، يتنبّه ويعلم كيف يسأل؟ ومتى يسأل؟ لعلّه يزّكّى ( لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ..) بحسن تنبيهك وتوجيهك (..فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ)؛ لأنك على هذا المسار. (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ) فالنفس لا ترغب في مقابلته ومخاطبته (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ) مجاهدةً في سبيلنا وأداءً لحق البلاغِ عنّا (وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ* فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ) والنفس تحب الإقبال على مثل هذا الصنف، لكنّك لا تُقبل لنفسك ولا بنفسك و لا تُعرض بنفسك ولا لنفسك، ولكن من أجلنا تُقبل ومن أجلنا تُعرض. يقول سبحانه وتعالى: (فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ* كَلَّا إِنَّهَا..) هذا المسار منك والتوجيه (..تَذْكِرَةٌ* فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ* فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) سطّرنا فيها خَبرك و أحَوالك وشَأنك ﷺ. فتعلّم من ذلك ابن أم مكتوم، وعند انصراف النبي ﷺ نزلت الآيات.
وكذلك قوله تبارك وتعالى (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) [النازعات:22] ليس المراد به الجري في الأرض، بل قال في فرعون (ثُمَّ أَدْبَرَ..) عن الإيمان (..يَسْعَى) يعني: في الأرض بالفساد؛ يعمل بالفساد وليس المراد يجري. (ثمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ* فَحَشَرَ فَنَادَىٰ* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ) [النازعات:22-25]. وكذلك قوله (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ) [الليل:4] أي: عملكم وفعلكم و اجتهادكم وليس المراد (إِنَّ سَعْيَكُمْ..) يعني: مسابقتكم في الجري، جريكم في الأرض لشتّى! وليس المراد هذا ولا العدو في المشي، ولكن المراد عملكم ووجهاتكم و نياتكم. (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ) على أحوالٍ مختلفة. "قَالَ مَالِكٌ: فَلَيْسَ السَّعْيُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَا الِاشْتِدَادَ، وَإِنَّمَا عَنَى الْعَمَلَ وَالْفِعْلَ.".
وكذلك جاءنا في الباب الذي بعده، في نزول الإمام عن السلطان بقريةٍ من القرى؛ إن كانت من قرى الجُمعة فيصلي بهم الجمعة و عليهم أن يُصلوا معه. وقال مالك: إن كانت القرية ليس فيها جمعة ولا يُعقد فيها جمعة، يعني: في مذهبه لا يجتمع من المقيمين المستوطنين في أي اثنى عشر نفرًا، فلا جمعة للإمام ولا لمن صلى معه. "قَالَ مَالِكٌ: إِذَا نَزَلَ الإِمَامُ بِقَرْيَةٍ تَجِبُ فِيهَا الْجُمُعَةُ"؛ أي: في تلك القرية. وما القرية التي تجب فيها الجمعة؟
قال: "وَالإِمَامُ مُسَافِرٌ" يعني: السلطان في سفره، "فَخَطَبَ وَجَمَّعَ" يعني: صلّى الجمعة بِهِمْ فَإِنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَغَيْرَهُمْ يُجَمِّعُونَ" أي: يصلون الجمعة "مَعَهُ." مع السلطان. فالسلطان إذا حضر أحقّ بالإمامة، وهكذا يقولون الحنفية، فهو أحقّ بالإمامة لكونه نافذ الأمر، وأحقّ بالإمامة من حاكم القرية وغيره، لكون سلطته أعلى منه وأنفذ.
هكذا وذكر هذا الإمام مالك مشيرًا أيضًا الى ما في مذهبه من أنّه لا ينبغي أن يَؤم بالجمعة مسافر؛ لأنه لا بد أن يؤم المقيم، والمسافر ما يؤم الناس في الجمعة، لكن استثنى السلطان هنا؛ إذا جاء السلطان يجتمعون ويصلون معه. كذلك لا يُصلي بهم غير الخطيب، إذا خطب الخطيب فهو أحقُّ بالإمامة في الصلاة، ولا ينبغي أن يؤم غيره.
وكذلك قال: "وَإِنْ جَمَّعَ الإِمَامُ" يعني: يصلي الجمعة "وَهُوَ مُسَافِرٌ بِقَرْيَةٍ لاَ تَجِبُ فِيهَا الْجُمُعَةُ" لفقد الشروط "فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ" يعني: للسلطان "وَلاَ لأَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَلاَ لِمَن جَمَّعَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلْيُتَمِّمْ أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ الصَّلاَةَ." يعني: فالصلاة صلاة ظهرٍ، هي بالنسبة للمسافرين جائز أن تكون ركعتين. وأمّا بالنسبة للمقيمين فلابدّ أن يتمّوا الأربع؛ فذكر المقيمين دون المسافرين. فنبه بهذا الكلام على أن القرى نوعين:
ويفصّل بينهما. فجاءت الروايات والآثار واستنبط الأئمة -عليهم الرضوان- منها الشروط، والأمر المتفق عليه بينهم أنّ الجُمعة ليست مثل الصلوات الأخرى المطلقة، بل لها شروط تختصّ بها. واختلف الأئمة في هذه الشروط فيقول الأئمة الأربعة وعامة الفقهاء: أنّ للجمعة شروط لا تصح بدونها، هذا أمر متفق عليه بينهم، ثم بيّنوا ذلك.
وهكذا فلا تصح جُمعة في براري ونحوها، بعيدًا عن البلد عند الأئمة الأربعة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. وكان ﷺ والخلفاء من بعده والتابعين يجمّعون في البلدان و حواليهم قرى وبدو لم تقم فيهم الجمعة.
إذًا تختص الجمعة: باشتراط عددٍ، وإقامةٍ واستيطان، وليس ذلك في بقية الصلوات.
فهكذا جاءت اجتهادات الأئمة فيما وَرَد من الأخبار والآثار.
رزقنا الله إقام الصّلاة على الوجه المرضي له، والحضور فيها، والخشوع لجلاله، وحقّقنا بحقائق الجماعة والجمعة، وحقائق الركوع والسجود، في لطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النّبي محمد ﷺ.
02 صفَر 1442