(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، باب ما يَفعلُ مَن سلَّمَ مِن ركعتين ساهِيَاً.
فجر السبت 17 محرم 1442هـ.
باب مَا يَفْعَلُ مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ سَاهِياً
249 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟". فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ.
250 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أبِي أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَال :َ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاَةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ". فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ ؟" فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ.
251 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أبِي حَثْمَةَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ إِحْدَى صَلاَتَىِ النَّهَارِ -الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ- فَسَلَّمَ مِنَ أثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ: أَقَصُرَت الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا قَصُرَت الصَّلاَةُ وَمَا نَسِيتُ". فَقَالَ ذُو الشِّمَالَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟". فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ.
252 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَ ذَلِكَ.
253 - قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَاناً مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلاَمِ، وَكُلُّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ بَعْدَ السَّلاَمِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته ومِلّته، وبَيان أحكامه على لسانِ خيرَ بريته، سيدنا المُجتَبى مُحمّد صلَّى الله وَسَلم وباركَ وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وأهل متابعته، وعلى آبائه وإِخوانه من الأَنبياء والمرسلين، المُرتقين ذُرى المَجدِ في القُرب من الحق ومحبته، وعلى آلهِم وأَصحابهم وتابعيهم، وجميع الملائكة المُقرّبين، وعبادِ الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إِنَّه أَكرم الأَكرمين وأَرحم الراحمين.
ويحدّثنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في المُوطأ عن حُكم الكلام في الصلاة، وعن حكُم السَّهو كذلك فيمن سَلَّم من ركعتين في ظُهرٍ أَو عصرٍ ونحو ذلك، فيقول: "باب مَا يَفْعَلُ مَنْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ سَاهِياً" وذكر لنا حديثَ ذي اليدين -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- برواياتٍ متعددة، وذو اليدين الخِرباق السُّلمي كانَ طويل اليَدين، فسميَّ ذو اليَدين لطولٍ في يَديه. وأَختلفوا كما جاء في رواية عندنا، أَهو ذو الشمالين؟ أم وقعت الرواية وَهمًا من بعض الرواة، فإنّ ذا الشمالين أَحد الصحابة كانَ معروفًا بهذا الاسم، قد استشهدَ في غزوة بدر، والقصة واقعةٌ بعد ذلك بسنوات، فإنَّه شَهِدها أبو هريرة كما سمعنا في الروايات، وهو إنما جاءَ في عام غزوة خيبر، في العام السابع بعد بدر بسنوات. فيكون هذا غيرَ ذو الشّمالين، ومال الحنفية ونحوه إلى أنه هو، ولا مانعَ أن يُسمّى بذي اليَدين، أو بذي الشّمالين وأن يشتهر الصَّحابيُّ الذي استشهد في بدر، بذي الشمالين، ويشتهر هذا بذي اليدين، وإن كانَ يُقال له ذو الشّمالين على ما رأى بعضهم. وهكذا عامة الروايات لم تَذكُر ذا الشّمالين، وإنما ذكَروا ذو اليدين، والمَشهور بذي الشّمالَين هو الذي استشهد في يوم بدر -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.
فَذكرَ لنا أن النَّبي ﷺ "أنْصَرَفَ مِنَ أثْنَتَيْنِ"؛ يعني: في صلاة الظهر، أو في صلاة العصر، وقد ورد الشّكُ في إِحديهما عند أبي هريرة، وجاء في بعض الروايات جزمه بأنّها الظّهر، وبعض الروايات جزمه أنّها العصر، وكان ابن سيرين أيضًا عن أبي هريرة يُحدَّث فيشّك أَهي العصرُ؟ أم هي الظُّهر؟ وجاء في بعض الروايات في إحدى صلاتيّ العَشّي، إِما الظُّهر وإِما العَصرُ، والحُكم واحدٌ. يقول أنَّه ﷺ "انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ"؛ يعني: سَلَّمَ من الرّكعتين، يظنُ أنّه قدْ أَكمل الأربع، "فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ، أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" فكان ﷺ يظنُ أنَّه قدْ أكملَ الأربع، فقال لهُ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ"، فقال: بلى نسيتَ يا رسول الله، فالتفتَ إلى الصَّحابة يسألهم أحقٌ ما يقولُ ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. وجاء في روايات أنَّهم أَومئوا، وعُبِّر عن الإيماء والإِشارة بالمقال.
ففيهِ وجود هذا الكلام من رسول الله ﷺ مع ذي اليدين، وعلى ما رأى بَعضهُم أن الصَّحابة أيضًا تكلموا ولم يَحمِل الأمرُ على رواية الإيماء. وقالوا وكيف يتكلمون وقدْ سمِعوه يقول: لم تُقصَر؛ كل ذلك لم يكن لا قصُرت الصَّلاة ولا نَسيت؛ فكيف يتكلمون بعد ذلك؟ وجاءَ الإجماعُ أنَّه قدْ كانَ يُباحُ الكلامُ في الصلاة، ثمَّ حُرِّم وجُعِل مُبطلًا للصَّلاة، وأَّنها لا تَصلح لشيٍء من كلام الآدميين، كما جاء في الصحيح أنَّه ﷺ قال: "إن الله يُحدِثُ من أمرهِ ما يشاء، وإن ممّا أحدَثَ أن لا تكلّموا في الصلاة".
وكما جاء أيضًا أنَّه وردَ بعد ذلك بعض الأعراب، فصلَّى مع النَّبي ﷺ والصَّحابة، فحَضَرته عطسةٌ في الصَّلاة، فعطسَ رجلٌ آخر غيرَ الأعرابيّ، وأنّ الرجل حمِدَ الله، فقال له الأعرابي: يرحمكُ الله! وهو في الصَّلاة وخاطبهُ بقوله يرحمكُ الله، قال: فألقى النَّاسُ إليَّ أنظَارهُم فقلتُ: وَاثُكلى أماهُ مَالكُم تنظرون إليّ؟ وهو يصلي، فأَومَؤا إليه أن أُسكت، فسكت. فلما قضى ﷺ صلاته قال: "منْ المُتكلم في الصَّلاة آنفا؟" قالوا: هذا يا رسول الله، قال: تعالَ، فجِئتُ إليهِ فبأبيّ لقد وجدتُه خيرَ مُعلِم، والله ما قَهرني، ولا نَهرني، ولا ضَربني، ولا َشتمني، ولكن قال لي: "يا عبدَ الله إنَّ هذه الصَّلاة لا تصلُح لشيءٍ مِنْ كلامِ الآدميين، إنَّما هي التِّلاوة، والذِّكر، والدُّعاء"، وتَعلَّم الرجل.ولم يأمره بإعادة الصَّلاة، فقالوا هذا حُكم من تكلم وهو يجهل، وذلك إن كانَ قريب الإسلامِ، أو ناشئ ببادية بعيدة عن العلماء، فهو معذور بجهلهِ إلى أن يعلمَ أنَّ الكلامَ يُبطل الصَّلاة.
فيقول الأوزاعي: إذا رأى طفلًا يُرِيدُ أن يسقطَ في بئرٍ أو حُفرةٍ وما إلى ذلك، فصاحَ به و ردَّه أنه لا تَبْطلُ صلاته. وقالَ الآخرون: يجوز له أن يبطل الصلاة لإنقاذ الإنسان، ثم ليستأنفَ الصَّلاة من أولها، وتكونُ قد بَطَلت. إلا ما كانَ من كلامهِ ﷺ وعلى ذلكَ حملَ بعض الأَئمة كلام الصَّحابة إذا قالَ لهم تَكلموا بعد ما سمعوه يقول: "لم تُقصر الصَّلاة، ولم أنسى" فكيفَ تكلموا؟ لأنه وجَّهَ الخِطاب إليهم، فوجبَ عليهم أن يتكلموا، فإنَّ الكلام معه بأمرهِ لا يُبطلُ الصَّلاة، كما صحَّ في الحديث: أنه نادى بعض أصحابهِ وكانَ يُصلَّي فخفّفَ الصَّلاة، ثمَّ جاءَ قال: ما منعكَ أن تُجيب؟ قال: كنتُ أصلِّي، قال أما سمعتَ قول الله (..اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ..) [الأنفال:24] فأشارَ أنَّهُ لو أستجاب لرسول الله لم َتبطُل صلاتهُ. فقال: لا أعودُ لمثلِ ذلك يا رسول الله. يعني: إذا ناديتني ثاني مرة حتى وأنا في الصَّلاة سأُجيبك وأردُ عليك.
يقول إذا كثُرَ بعد ذلك المُصلون، يرجعُ إلى الأخذ بقولهم، فإذا شكَّ أصلَّى ثلاثًا أو أربعًا مثلًا، أخذَ بالأقل، ولا يعمل على قول غيره؛ إلا إن بلغوا حدَّ التواتر. في الحديث:"إذا شَكَّ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أمْ أرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ولْيَبْنِ علَى ما اسْتَيْقَنَ"
وفي ذلك أيضًا:
كذلك عن الحنابلة كقولِ الحنفية ببطلان الصَّلاة بكلام السَّاهي، ومثلهُ المُكرَه. فإن تكلَّمَ ظانًّا أنَّ صلاتهُ تمّت؛ فإن كان سلامًا لم تَبطلُ الصَّلاة. أما إن تكلم بشيءٍ مما تكمل به الصَّلاة أو شيءٍ من شأن الصَّلاة قالوا مثلَ كلام ذي اليدين مع النبي ﷺ لم تَفسُد صلاته، فحملوه على الكلام في مصلحة الصَّلاة؛ فلو تكلم سهوًا بغير مصلحة الصَّلاة بَطَلت الصلاة عندهم، واغتفرَ الشافعية الكلام اليَسير للنَّاس.
وجاء لنا في الرواية الأخرى عن "أَبَي هُرَيْرَةَ صَلَّى مع رَسُولُ الله ﷺ صَلاَةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ". فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟". فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ" يعني: للسَّهو "بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ جَالِسٌ". في هذه الرواية جزمَ بالعَصر، وفي روايةٍ عنه جزمَ بالظُهر، وفي رواياتٍ جاءت عنه تردّدَ بين الظُهر والعَصر.
كما جاءَ في الروايةِ الثالثة: "سَلَّمَ مِنَ أثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ" هذه الرواية التي خالفت بقيّة الروايات، وعامّة الروايات: "ذو اليدّين" -رجلٌ من بنيّ زُهرة، هذا الذي توفيَّ في بدر-. "أَقَصُرَت الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا قَصُرَت الصَّلاَةُ وَمَا نَسِيتُ"، بحسب ما في ظنِّه، "فَقَالَ ذُو الشِّمَالَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟". فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ". فذو اليدّينِ هو الخِرباقُ السُلَمي، وأما ذو الشِّمالين اسمه عُميّر بن عَمر بن خُزاعة، حليف لبنيّ زُهرة.
إذًا، إذا شكَّ المُصلِّي في صلاتهِ لم يدري كم صلّى، قالوا: يبنيّ على اليقين، وهو الأقل، ويأتي بما شكَّ فيه ويسجد للسَهو. قال ﷺ: "إذْا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثنَتَيَّن فَلْيَبْنِ عَلى وَاحِدَة،" لإنَّها يقين، "فَإنْ لَم يَدْرِ ثنَتَيَّن صَلَّى أَوْ ثَلاثًا، فَلْيَبْنِ عَلَى ثنَتَيَّن، فَإنْ لَم يَدْرِ ثَلاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاَث، وَلِيَسْجُدْ سَجْدَتَيِن قَبْلَ أَنْ يُسَلِم". كذلك في الحديث: "إذا شكَّ أحدُكم في صلاتِهِ فليُلقِ الشَّكَّ وليَبنِ على اليقينِ، فإذا أستيقنَ التَّمامَ سجدَ سجدتينِ، فإن كانت صلاتهُ تامَّةً، كانتِ الرَّكعةُ نافِلةً، والسَّجدتانِ، وإن كانت ناقِصةً كانتِ الرَّكعةُ تمامًا لصلاتِهِ وكانتِ السَّجدتانِ مُرغِمتَيِ الشَّيطانِ".
يقولُ يحيى: قَالَ مَالِكٌ: "كُلُّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَانًا مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلاَمِ، وَكُلُّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ بَعْدَ السَّلاَمِ".
فقال الشافعية: تكون السَّجدتان قبل السَّلام. وقال الإمام مالك: إن سَهَا بزيادة فبعد السَّلام، وإن سَهَا بِنُقصان فقبلَ السَّلام، هذا الذي أشار إليه في كلامهِ هذا. علمنا أنَّ موضع سجود السَّهوِ عند الحنفية بعد التَّسليم مطلقًا. وقول المالكية وهو المذهب القديم للشَّافعي، وَ رواية عند أحمد: أنّه يُفرِّق بين الزِّيادة والنَقُص. فمن سَهَا بزيادة فبعد السَّلام، ومن سَهَا بِنقْصٍ فقبل السَّلام. و المُعتمدُ عند الشافعية وفي المذهب الجديد، وهو رواية أيضًا عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قبل السَّلام مطلقًا؛ لكن الحنابلة اعتمدوا أيضًا أنَّ السّجود كله قبل السَّلام، إلا موضعين استثنوهما، وردَّ النَّاس بِسجودهِما بعدَ السَّلام فَخصصوهما، وقالوا في البقية أنه يسجد قبل السَّلام، هذا المُعتمد في مذهب الحنابلة. ويُروى أيضًا في بعض أقوال في مذهب الشافعية وغيرهِ، أنه يتخيّر في السّجود قبل السَّلام وبعده، والمُعتمد عند الشافعية سجود السَّهو قبل السَّلام مطلقًا.
"فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ." وهكذا، لا يكونُ بعد سجدتي السَّهو تشَهد، بل يكون السَّلام إذا لم يكن سلَّم من قبل. وعددَّ ذكرَ الرواياتِ في حديث ذي اليدين -عليه الرضوان- والمفاد واحد، وقدْ جاء بعض الروايات في صحيح الإمام مُسلم وعند غير الإمام مالك كذلك من الأئمة بعده من أئمة الحديث. وذكرَ بعض الأئمة تَعددّ أنواعِ الكلام في الصَّلاة وقسّمها إلى:
يقول ابن قُدامة في المغنيّ: ليس عن أحمد فيه نص، وقدْ يُحتمل أن لا تبْطل صلاته؛ لأنه في حُكم النَّاسي، وهو وكذلك عند الشافعية إن عُذِر بالجَهلِ؛ بإن كانَ حديث عهدٍ بالإسلام؛ أو نشأ في البادية بعيدًا عن العلماء، أما غيرَ ذلك فلا يُعذر.
فكذلك لا تَبطُل الصَّلاة في رواية عن الإمام أحمد، فهو قول الإمام مالك، والإمام الشافعي -عليهما رحمة الله تبارك وتعالى- وفي رواية عند الإمام أحمد قال: تَبطُل، مقابل قول الحنفية أنه يبطل ولو كان ساهيًا.
وهذا الذي جاء في رواية ذي اليدين، وإن كانَ سلامًا لا تَبطل، وإن لم يكن سلامًا فأيضًا عن الإمام أحمد: إذا تكلم بشيء ممَّا يُكمل الصَّلاة، أو شيءٍ من شأن الصَّلاة لم تَفسُد، وفي الروايةِ الثانية للإمام أحمد: تَفسُد.
خرجت الحروف من فيهِ بغير إختياره، أو كانَ بالإكراه، وهذا مُختَلف في رواية الإمام أحمد والمُكره عندنا كالنَّاسي، يُعذرُ في كلام قليل، وإلا يستأنِف الصَّلاة.
مثل يخشى على صبيّ سقوط أو ضرير، وقوع في مَهلكة. وجاء عن الإمام أحمد فيه روايتان، وعند الشافعية إنما يجوز له أن يقطعَ الصَّلاة لأجلِ الإنقاذ، ولا يبنيّ على صلاته، والكلام يُبطل الصَّلاة في هذه الحالة.
وقد يكون الكلام لإصلاحِ صلاته، وجاءت في ذلك الروايات عن الإمام أحمد، وسبق معنا ذكرُ بعضِ الأقوالِ في هذا، وفي مفاد هذا الحديث الذي كرّره الإمام مالك في الموطأ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. وأشرنا إلى الحديث عن ابن مسعود: أنَّ النَّبي ﷺ قال: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحدِثُ مِن أمْرِه ما شاء، وإنَّه قد أحدَثَ ألَّا تَكلَّموا في الصَّلاةِ". وأنَّ الحنفية حملوا حديث ذي اليدين على النسخ، ومع أنه إنما كانَ في أواخر أيامه ﷺ بدليل شهود أبي هريرةَ له، واستدلوا برواياتٍ منها ما في صحيح ابن حِبَّان: أنَّ الزُهريّ لمّا ذكر قصة ذي اليدين قال: كانَ هذا قبل، ثُم أُحكمت الأمور بعد. ورأوا أنَّ ذلك كانَ من قبلِ بدر، وعلى ذلك صَححوا حديثَ ذي الشِّمالين، فجعلوه هو نفسه ذو اليدين.
يقولُ يَحيىَ قَالَ مَالِكٌ : "كُلُّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَاناً مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ قَبْلَ السَّلاَمِ، وَكُلُّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ سُجُودَهُ بَعْدَ السَّلاَمِ." هكذا مذهبْ الإمام مالك -عليه رضوان الله وَتعالى- . وعلمتَ ما ذكرنا من قول الشافعية أنَّ السَّجود كلهُ قبل السَّلام. وقول الحنفية: أنَّ السَّجود كلهُ بَعد السَّلام؛ سجود السَّهو. وأنَّ التفرقةَ بين الزيادة والنقصان مذهب الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- وهو المذهب القديم للإمام الشافعي. كذلكَ أشرنا الى رواية أنه عند بعض الأئمة يتَخيّر بين السَّجود قبل السَّلام أو بعد السَّلام.
وشُرعَ سجودَ السَّهوِ إرغامًا للشِّيطان، واستبعاثًا للإِنكسارِ من قلبِ الإنسانِ المصلّيّ. وسيأتي بعض التفصيل في مَنْ شكَّ في صلاتهِ كم صلَّى في هذا البابِ الآتي معنا إن شاء الله تبارك وتعالى.
رزقنا الله الإيمان واليَقين والإخلاصَ والصِّدق، وحققنا بحقائق الصَّلاة ورُكوعها وسُجودها وخُشوعها ورَزقنا حضُّور القلوب فيها، وكتبَ لنا القبول عنده بمَحضِ فضله، وأصلحَ شؤوننا والمُسلمين بما أصلح بهِ شؤون الصَّالحين بسِرِ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي ﷺ .
18 مُحرَّم 1442