شرح الموطأ - 43 - كتاب الصلاة: باب العَمل في القِرَاءة

شرح الموطأ - 43 - كتاب الصلاة، باب العمل في القراءة، من حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبْسِ القَسِّيِّ
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، باب الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ.

فجر الإثنين 5 محرم 1442هـ.

باب الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ

214 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ.

215 – وَحَدَّثَنِي، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ، عَنِ الْبَيَاضِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: "إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلاَ يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ".

216 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: قُمْتُ وَرَاءَ أبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ لاَ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ.

217 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عِنْدَ دَارِ أبِي جَهْمٍ بِالْبَلاَطِ.

218 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الإِمَامِ، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ.

219 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَيَغْمِزُنِي فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرِمنا بالشّريعةِ الكريمة، وبيانَها على لسانِ عَبده المصطفى مُحمد ذو الأخلاق العظيمة. اللهم أدِم صلواتك على المصطفى سيدنا محمد، وعلى آلهِ وأصحابهِ، ومَنْ والاهُ فيك واتبع طريقه وتعليمه، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمرسلين، أهل المراتب العلا الفخيمة، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.

يقول الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في الموطأ: "باب الْعَمَلِ فِي الْقِرَاءَةِ"، فيذكر مسائل متعلقة بالقراءة مِنْ جهة الجهر بها، والإسرار بها، وأحوال تصاحب شأن القارئ في أثناء الصّلاة. فروى لنا هذا الحديث: "عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى ﷺ نهى عن لُبْسِ القَسِّيِّ، وعن تَخَتُّم الذهبِ، وعن قراءة القرآن في الركوعِ". والمراد منه آخره في قوله: "..قراءة القرآن في الركوعِ"؛ فلا يُقرأ في الصّلاة إلّا في القيام، ولا يُقرأ القرآن في غير القيام مِنَ الأركان. 

ابتدأ ﷺ بذكر النّهي عن القَسِّيِّ. والقَسِّيُّ: ثياب تصنع في القَسِّ بمصر، منطقة قريبة مِنْ دمياط، اشتهر بصناعة الثّياب فيها، فكان يُصنع فيها ثياب مخطّطةٌ بالحرير. والحرير محرّم على الرِّجال. فنسبة إلى القَسِّ؛ القَسِّيِّ؛ اشتهرت الثّياب بالقَسِّيِّ؛ وهي ثياب مخططةٌ بالحرير، تأتي مِنْ القَسِّ فتنتشر في كثير مِنَ الأماكن. والقصد النَّهي عن لبس الحرير للرّجال. ومعلومٌ أنَّ الحرير يجوز لِبسه للنساء، ويحرم على الرّجال. 

  • وأنّه إذا اختلط الثّوب بحرير ولم يكن حريرًا خالصًا، 
    • فإن كان الأغلب الحرير، حَرُمَ على الرّجل لبسه. 
    • وإن كان الحرير أقل وغير الحرير أكثر، فيجوز للرجل لبسه. 

فالنَّهي عن القَسِّيِّ إنْ كان أكثرهُ حريرًا، فمعلومٌ أنَّهُ نُهي تحريم على الرّجال، وإنْ كان أكثرهُ غير الحرير فالنَّهي نهي تَنزيه، فيجوز للرّجال لبسه. "نهى عن لُبْسِ القَسِّيِّ". فإذا كان كما يتبادر الى الذّهن أنَّ فيها خطوط مِنَ الحرير؛ فيكون الحرير أقلّها، فيُحمَل النَّهيُ على التّنزيه حينئذ. وأمّا الحرير الخالص وما كان أكثره حرير، فقد أجمع الأئمة على تحريمه على الرِّجال، فيحرم على الرّجل أنْ يلبس الحرير.

"وعن تَخَتُّم الذهبِ" كذلك مخصوصٌ بالرّجال، مع الإجماع على إباحة خاتم الذّهب واستعمال الذّهب للنساء، هذا أمر مُجمع عليه. ولكن المقصود للرجال دون النّساء "وعن تَخَتُّم الذهبِ"، وجاءَ فيه: "أيعمَد أحدكم إلى جمرة مِنْ نار فيضعها في إصبعه". كما جاءَ في الحديث: هذان وقد حمل قطعةً مِنْ حديد وقطعةً مِنْ الذّهب "هذانِ حَرامٌ على ذُكورِ أُمَّتي، حِلٌّ لِإناثِهم". 

ثمَّ ذكر المقصود مِنْ إيراد الحديث وهو قوله: "عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ"، ومثل الرّكوع السّجود، وبقية الأركان للصلاة؛ فلا يُقرأ القرآن إلا في القيام في الصّلاة. وحينئذٍ لا يكون مِنَ المكروه للمُصلي أنْ يقرأ إلا إذا قرأ آيات الدعاء؛ وقصد الدعاء في الرّكوع والسّجود دون التلاوة، فلا شيء عليه. بأنْ يقرأ في سجودهِ: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً..) [البقرة:201]، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا..)  [آل عمران:8]، وغير ذلك مِنْ آيات الدعاء؛ إذا قصدَ الدّعاء. كما هي أيضًا في القنوت، إذا قرأ شيئًا مِنْ الآيات يقصد بها الدعاء. 

  • فالجمهور على كراهة القرآن في الرّكوع والسّجود، كما هو مُبَيّن في حديث سيِّدنا علي هذا. 
  • وقال جماعة مِنْ أهل العلم؛ مِنَ التّابعين ومِنْ بعدهم: أنَّ ذلك جائز. 

والذين كَرِهوا ذلك قالوا: إنَّ الكراهة كراهة تنزيه، أكثرهم يقول ذلك. وقيل عند البعض: أنّها كراهة تحريم.

  •  فلو قُرأ في ركوعٍ وسجودٍ غير الفاتحة.. كُرِه ولم تبطل صلاته. 
  • وإنْ قرأ الفاتحة، ففيهِ وجهان:
    • الأصح عند الشّافعية: أنَّه كغيره مِنَ القرآن يُكره ولا تَبطل.
    • والثاني: يحرم ولا تُبطل؛ لأنَّه ركن مِنْ أركان الصّلاة، نقله الى غير محله مُتعمدًا.

والمعتمد عند الشّافعية هو الأول. فحالَتيّ الركوع والسجود فيهما إظهار للذل والخضوع، فهما محل تسبيحٍ وسؤال، لا يليق فيهما القراءة. فإنّها موقف خشوع وتذلل للحق -جلَّ جلاله-، وإنَّما تكون المناجاة بالقراءة في القيام، تعظيمًا وإجلالًا للحق -جلَّ جلاله-، يُقام ثمّ يُتلى كتابه؛ فيكون خير ما يتقرّب به المؤمن إلى ربهِ -سبحانه وتعالى- كتابه العزيز. 

ثمّ ذكر: "عَنْ أبِي حَازِمٍ التَّمَّارِ، عَنِ الْبَيَاضِيِّ" المنسوبين إلى بياضة بن عامر بن زريق يقُال له: بياضي؛ وهذا بطن مِنَ الأنصار، ومنهم زياد بن لبيد الذي عَيَنهُ ﷺ واليًا على حضرموت، كان من هذا فخذ مِنَ الأنصار بياضي، مِنْ أصل بياضة بن عامر بن زُريق، وهذا الْبَيَاضِيِّ، عبد الله بن غنّام وقيل غيره، "أَنَّه ﷺ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ،"، مِنْ أين خرج؟ وكانت الواقعة في رمضان وهو وسط خيمةٍ له في المسجد، والنّاس يُصلون عُصَبًا عُصَبًا، وعلت أصواتهم كلٌ يقرأ، فأشرف عليهم ﷺ وخرج مِنْ قُبّتهِ، "وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ"؛ جهرًا "فَقَالَ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ"؛ يُحدّثه ويُكلمه، وعَبَّر بالمناجاة؛ إشارة إلى القُرب المعنوي، ولشدة القُرب المعنوي. قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) [ق:16]. "إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ"؛ يعني: فأحرصوا في الصّلاة على إحضار القلب والخشوع، دون الجهر بالقراءة. "فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ"؛ يعني لِيُحسن تَفَكّره وتَدَبْره؛ كيف يناجي ربَّه، وعلى أي حال يُناجي ربَّه -جلَّ جلالهُ وتعالى في عُلاه-، "بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ"؛ والغرض: التنبيه على وجوب حضور القلب والخشوع، وجهر بعض على بعض يفوّت الخشوع. قالَ: "وَلاَ يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ"؛ لأنَّ فيه أذى ومنع الآخر مِنْ حضوره وخشوعه في صلاته. 

وحينئذٍ تكون القاعدة العامة المتلقاة عنه ﷺ أنَّه لا يشوش بعض القراء على بعض، ولا بعض الذّاكرين على بعض. ومَنْ كان في جهرٍ من صلاة ونحوها، فليكن بقدر ما يُسمع به مَنْ حواليه ولا يشوّش على غيره. ومَنْ كان في صلاة، ومَنْ كان خارج الصّلاة كذلك، لا ينبغي أنْ يرفع صوته فيُشوّش على قارئ آخر، أو على مُصلٍّ، بل التّشويش على المُصلّي يحرم. فحينئذٍ ينبغي أنْ يُراعى حضور القلوب والخشوع في الأذكار والتّلاوة، وأنْ لا يُستعمل الجهر بحيث يؤذي الآخر، أو أن يمنعه مِنَ الخشوع والحضور، "فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلاَ يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ". في لفظ جاء أنّه فتحَ مِنْ باب الخيمة وأشرف برأسه الشّريف وأقبَل عليهم، وقال: ألا إنْ كُلكم مُناجٍ ربّه، فلا يجهر بعضكم على بعض. فهذا حكم القراءة في الصّلاة، ومثله خارجها، ينبغي أن يكون معتدلًا، وإذا اجتمع قومٌ على قراءة، فليكن القارئ جاهرًا، بحيث يُسمع القوم الذين اجتمعوا معه، حتى لا يشوّش على قومٍ آخرين. 

وتعرف أيضًا أن استعمال مكبرات الصّوت بمبالغة بشيءٍ من الدّروس أو الأذكار أو غيرها، بحيث يشوش على حلقات أخرى أو على جيران أو ما إلى ذلك، ليس له وجهٌ في السُّنة، وإنّما بمقدار ما يصل به التّذكير للغير بلا تشويش ولا إزعاج. من باب أولى من يفتح في محل تجارتهِ وغيره مسجل معه أو شريط أو إذاعة يَضج مَنْ حواليه. إلا في أحوال نادرة، إنْ كان مَن حواليه يشتغل بغيبة أو نميمة أو بسوء يزعجهم نعم؛ هذا يدخل مِن النّهي عن المنكر والشّغل بالخير، وما عدا ذلك فلا يجوز التّشويش. وإذا كان بجانبه مريض يسمعه فيتأذى.. أثِم بذلك. 

فكيف إذا كان بالأغاني؟ تعجبه يفتح الصّوت بها ويزعج خلق الله من حواليهِ. أو صوت واحد يصِف لعبهم في المباراة وتصفيقهم وما إلى ذلك. وإلا خرجوا من لعب فرحانين، يمشون بالشّوارع يرفعونَ أصواتهم يزعجون كم مِنْ مريض؟ وكم مِنْ مُتأذي؟ وكم مِنْ قارئ؟ وكم مِنْ تالي؟ والخلاصة، النّاس يمشون وراء أنفسهم، وتقليد السّفهاء والسّاقطين مِنْ دون بصيرة، وما يرجعون إلى العلم! إذا ستُعبّر عن فرح وغيره، خذ لك قواعد مِنْ شريعتك وأُسُس مِنْ دينك تُعبّر بها عن الفرح بذلك، لا ضجة وصجة ورجة وشيء مِنْ هذا الّذي يصل به الأذى الى النّاس. 

حتى بالقرآن، حتى في الصّلاة، لا تؤذي. وهذا يطبل لأن الكرة دخلت في المرمى! ما معنى أن تطبل وتصيح وتزعجني! وما شأني إذا الكرة دخلت هنا او هنا..؟! هذا عمل؟! ولكن هكذا التّقليد الأعمى كما يُسمّونَه، والتّتابع على ما لا يفيد، بل على ما يضر. فإذا كان حتى وسط القراءة، فـ "لاَ يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ" كلام الله، فمن باب أولى غيره من الكلام الفارغ. كمثل واحد عنده زواج أيضًا، يصلح له سهرة، يُحضر مكرفونات تعدّي البيت الأول والثّاني والثّالث والرّابع والخامس والسّادس والسّابع وعاشر بيت.. إثنا عشر بيت.. خمسُ عشر بيت.. مزعوجين كلهم من هذا الزّواج! فهذا اسمه ازعاج، ما اسمهُ زواج. اسمه ازعاج، صَلّح ازعاج، قالَ: إنَّه زواج.. أزعجت خلق الله!! وفيهم المريض، وفيهم الشايب، وفيهم التّالي للقرآن، إلى حد بعد ذلك بعضهم يريد يُكلّم أهلهُ ما يسمعونه مِنْ الصّوت الخاص بالجار ومن المكرفون موجه إلى جهة بيته؛ فلا يسمعون بعضهم البعض مِنْ شدّة هذا الصّوت. هذه أعمال خبيثة سيئة ما لها أصل في العقل، ولا في الشّرع المصون. يحرم إذا المسلم حتى برائحة الثّوم والبصل. ما يجوز تؤذيهِ، وإذا وقعت في أكله فحتى ما تقرب المسجد؛ حتى لا تؤذي المصلين. فكيف بمكبرات الصّوت؟ أصلح الله أمور المسلمين، ورزقنا المتابعة لحبيبه الأمين.

ثُمَّ أورد لنا حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ في عدم ظهور البسملة: "قُمْتُ وَرَاءَ أبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ لاَ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ". 

  • أمّا بالجهر فعند الأئمة الثّلاثة: أنَّه لم يجهر بها.
  • وأمَّا قراءَتها بالإسرار،  فعند الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل.
  • وأمّا سُنّية الجهر بها، فعند الإمام الشافعي. وجاءَت فيها عدد من الرِّوايات الأُخر.
  • وأمّا عدم النّطق بها أصلًا، فعند الإمام مالك: لا سرًا ولا جهرًا. 

وكان مبنى خِلافَهم على أنَّ البسملة هي آية مِنَ القرآن مستقلة، أم آية من كل سورة؟ أم ليست آية مستقلة، إلا ما ضُمّن وسط سورة النّمل. 

  • هذا مذهب الإمام مالك: أنَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية مِنَ القرآن التي وسط سورة النمل فقط. وليس هناك آية أخرى من القرآن.
  • وهل هي آية مستقلة؟ وجُعِلت في أمام السور للفصل بين السّورة والسورة، هذا مذهب الإمام أحمد. أو الرّاجح فيما رُوي عنه وعليه أيضًا ميل الحنفية.
  • أو أنَّها آية من كل سورة، وهي في سورة النّمل آيتين؛ آية في أول السّورة وآية في وسط السّورة، وهذا ما ذهبَ إليهِ الإمام الشّافعي -عليه رضوان الله-، أنَّها آية من وسط سورة النّمل، وآية من كل سورة من القرآن إلا براءة -إلا سورة براءة-. 

وبذلك قالَ الّذين قالوا: إنّما كُتبت أوائل السّور للفصل، فأجابهم الإمام: إنَّها آية من كل سورة إلا براءة، وهي لمْ تُكْتَب بسورة براءة والفصل حاصل معروف ما أحد يخلط بسورة البراءة، بالسورة التي قبلها، سورة الأنفال بل هي مستقلة، ولا بالتي بعدها سورة يونس، وسورة براءة ما أحد يخلطها مع بعضها البعض. وعلى كلٍ ولكلِ من الأئمة استدلالات في هذا.

  •  وأورد الإمام مالك، ما يشير إلى مذهبهِ أيضًا؛ من قولهِ لسيِّدنا أنس، فـ "َكُلُّهُمْ كَانَ لاَ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)". 
  • فَحَملها الحنفية على أنَّه لا يقرأون جهرًا. وكذلك الحنابلة أنَّه لا يقرأون جهرًا؛ فيقرأونها سِرًا. كما رُوي عنهم في روايات أخرى الجهر بها. كما رُوي كل ذلك عنه ﷺ. 

إذًا، ففي قول أنَّها ليست من القرآن إلا في سورة النّمل. وهو قول مالك ومعه بعض طائفة من الحنفية، وفي رواية عن أحمد غير المشهور، عن الإمام أحمد. كذلك أنَّها آية من كل سورة، وهي أيضًا وسط سورة النمل باتّفاق؛ وهذا مذهب الإمام الشافعي أنَّها آية من كل سورة؛ فكل سورة أولها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)غير سورة براءة. وجماعة ممن وافق الإمام الشّافعي أيضًا على ذلك من الأئمة قبله وبعده. 

كذلك فيها رواية عن الإمام أحمد، والرواية الثالثة عن الإمام أحمد وهو القول الثالث إنَّها آية من القرآن مستقلة؛ وليست من السّور، بل كُتبت في أول كل سورة لأجل الفصل بين السّور. هكذا كان يقول ابن المبارك، وعليهِ منصوص عن أحمد في رواياته، أنَّها آية مستقلة من القرآن الكريم، وليست متعلقة بكل سورة، ولكن وضعت أمام كل سورة للفصل بين السّورة والسّورة. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وهي عظيمةٌ لها كبير الأثر في أحوال الناس وقلوبهم، وكان يَعْتني ﷺ بكتابتها في أول رسائلهِ.

 وأورد لنا حديث الصّلاة بالجهر، فَذَكر: "عَنْ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ" مالك بن أبي عامر "أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"؛ يعني: وهو يصلي في الجهرية، "عِنْدَ دَارِ أبِي جَهْمٍ بِالْبَلاَطِ"، البلاط: موضع في المدينةِ المنورة بين المسجد والسّوق. يعني أنّ سيِّدنا عمر كان جهوري الصّوت، ويصل صوتهُ إلى محل بعيد، فهو في المسجد يصلّي، ويسمعونه من خارج من هذا المكان عند هذا الدّار في محل يسمى بالبلاط. معلوم أنّه من دون مكرفون ما عندهم مكبرات الصّوت هذه، فصار النّاس حتى وسط المسجد الواحد ما عاد يسمعون الصوت إلا بالمكرفون، -بالمكبر-. يقول مالك بن عامر: "كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" يعني: وهو يصلي بالمسجد، "عِنْدَ دَارِ أبِي جَهْمٍ بِالْبَلاَطِ". أبو جهم مذكور في حديث: "أمّا أبو جهمٍ فلا يضع العصا عن عاتقه"، أو لا يضع عصاه من يدهِ. بعدها قالوا: لماذا مالك هذا بن أبي عامر جالس في ذلك المكان ما يُصلّي مع النّاس، إذا كانت صلاة سيدنا عمر هناك؟ فأوردوه إشكال، قالوا وفيه احتمالات، يقول: فاتهُ بعض الصّلاة وهو مقبل، يدرك الصّلاة معهم سمعه من ذاك المكان، أو يكون في أيام مرض له، كان مريضًا جالس في البيت، فيسمعه من هناك يقرأ إلى غير ذلك من الاحتمالات، وقالوا: في احتمال أن يكون أهله في البيت في ذلك المحل يسمعون وهم أخبروه قالوا له: من هذا المكان نسمع قراءة عمر وهو يصلي في المسجد.

 وذكر: "عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَ الإِمَامِ، فِيمَا جَهَرَ فِيهِ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ"؛ يعني: الركعة الأولى أو الثّانية، "أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ" فيكون مذهب ابن عمر مذهب من قال: أنَّ المسبوق يقضي ما فاته بعد سلام الإمام، وأنَّ ما أدركه مِنْ آخر صلاة الإمام هو آخر صلاة نفسِه ذلك المسبوق. فلذلك إذا قام يجهر. كما أنه عند الشّافعية وغيرهم ممن أخذ برواية: "فليتمّ صلاته"؛ أن المسبوق يصلّي مع الإمام أول صلاة نفسه مع آخر صلاة الإمام، فإذا سلم الإمام، كمل صلاته لنفسه، فيصلي آخر صلاة نفسه. أخذًا برواية "فليتم"، "فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأتِمُّوا"؛ إنّه تمام لصلاته. فأولها قد مضى وإن كان آخر صلاة الإمام.

 والرواية الأخرى: "فاقضوا" يعني: وقعت آخر صلاتكم هي هذه، والذي فاتكم مع الإمام، فاقضوا بعد سلام الإمام، على ماحمله المجتهدون في معنى الحديث الشّريف.

  • وعلى ذلك أيضًا تَرتْبَ صحةِ أن يصلّى خلف المسبوق عند الإمام الشّافعي؛ لأنّه يتم صلاته بعد أن خرج عن رابطة الائتمام بالإمام. 
  • وعند غيره قالوا: ما يصح أن يكون المسبوق إمام؛ لأنّه يقضي مافاتهُ قبل الإمام، فلا يمكن أن يصلّي خلف مسبوق.

وعلى هذا فإذا جاء مصلون في آخر صلاة الإمام، فينبغي أن لا يصلوا خلف أحد من المسبوقين، إذا كانوا اثنين أو أكثر، وليُحدثوا صلاةً من جديد خروجًا من الخلاف، إلا أن يكون واحد وحده ولا جماعة له، فيصلي خلف المسبوق على مذهب الإمام الشافعي. 

"إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَرَأَ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي وَجَهَرَ".  كما أنَّه أيضًا عند الشّافعية إذا لم يتمكن من قراءة السّورة بسبب أن الإمام في ركعته الأخيرة؛ ركعتيه الأخيرتين، فينبغي إذا قام هو لصّلاته أن يقرأ السّورة، لكن تدارك لا باعتبار أن الركعة الأولى والثانية، ولكن من فاتته السّورة في الركعة الأولى أو الثانية، فيقرأها فيما بعدها، يقرأ السّورة فيما بعدها، نعم، ولا يجهر بشئٍ من ذلك. إلا أن يأتمّ به مؤتم؛ ولكن لا يجهر باعتبار أنّه يُتمّ صلاته، باعتبار أنّها ركعتين، أوثّالثة لا جهر فيها هذا معتمد الشّافعية. وإن قالوا بقراءة السورة إذا فاتتهُ في الركعة الأولى أوالثّانية فَيقْرؤها في الثالثة أو الرّابعة. 

وذكر لنا حديث يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، أَنَّهُ قَالَ: "كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَانِبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ،" بن عدي"فَيَغْمِزُنِي" هذا نافع بن مطعم كان من أصحاب زيد بن ثابت من تلامذته الّذين أخذوا عنه، قال " فَيَغْمِزُنِي"؛ يعني: يشير إليّ. وأصل الغمز: الكبس باليد، فمعنى يشير إلىّ أو يلمسني وأنا بجانبه، "فَأَفْتَحُ عَلَيْهِ" يعني: يرد عليهِ القراءة، "فأَفْتَحُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نُصَلِّي" قال: هو يصلّي وأنا أصلّي، فإذا أرتج عليه، وما درى بالآية أشار إليهِ، فذكرَ له الآية، وردَّ عليه. فإذًا، يجوز الفتح على الإمام وعلى من ليس مع الإمام غيره ممّن يصلي فيه بجانبه، كما جاءَ في هذا الحديث. 

  • هكذا يقول أيضًا الإمام مالك، ولكن الأصح عندهم بطلان صلاة من فتح على غير إمامه. 
  • وأكثر العلماء على الفتح على الإمام. 
  • وكَرِهَ الكوفيون الفتح على الإمام.

وجاءَ في الحديث أنّه ﷺ تردّد في آية ثُمّ قال: أين أبيّ بن كعب لم يكن معنا؟ ليذكره بالآية ﷺ. فهذا تابعيٌّ من تلامذة سيِّدنا زيد بن ثابت، الّذي كان يطلب مِنْ جاره أن يفتح عليه. وبذلك جاء الفتح على الإمام عند الجمهور. 

  • قال الحنفية: بالكراهة مع الجواز، الفتح على الإمام، أمّا على غير الإمام فلا يشتغل باستماع  أحد، ولا بالرد على أحد، وليُقبل على من هو بصدده من الصّلاة. 

نعم إن كان في غير الصّلاة، فيُحسن أن يفتح على مصلٍّ وهو خارج الصّلاة، واحد يصلي وحده، فيرد عليه وإن لم يكن إمام  له، فهو في غير صلاة. 

جعلنا الله وإياكم من أهل الإقبال الصّادق عليه، والقبول الكامل لديه، والتوفيق لما يرضيه، مع دفع كل سوء أحاط به علمه في الدارين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

07 مُحرَّم 1442

تاريخ النشر الميلادي

25 أغسطس 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام