(536)
(228)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، باب وقت الجُمُعة.
فجر الإثنين 1 ذي القعدة 1441هـ.
باب وَقْتِ الْجُمُعَةِ
13 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِىِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ، قَالَ مَالِكٌ -وَالِدُ أبِي سُهَيْلٍ-: ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ.
14 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَلِيطٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ لِلتَّهْجِيرِ وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته العظيمة، وباعث المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه بالمناهج القويمة، اللهم أَدِم صلواتك على المصطفى المختار سيّدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاهم فيك وسلك سبيلهم الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الصدق وأئمة كل من ركع وسجد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وسبق معنا الكلام في درس الأمس، عن أوقات الصلوات الخمس، وما أجمع عليه الأئمة من الأوقات وما اختُلِفَ فيه، فذكرنا: صلاة الصبح وذكرنا صلاة الظهر، وأيضًا مررنا في أخبار صلاة العصر وبدايتها، ونهايتها عند الغروب، كذلك المغرب قد ذكرنا أنَّه من المُجمَع عليه أنَّ أول وقتِها غروب الشمس، فإذا غربت الشمس فقد دخل وقت المغرب. وإنّما الخلاف في آخِر وقتها؛
إذًا فَهُم يُقدِّرون الوقت للمغرب تقدير لأنَّه لا امتداد له عند المالكيّة بل مقدار ما يحصل ممّا يَسَع من تحصيل شروط الصلاة وإقامَتَها وانتهى وقت المغرب، وهو المذهب الجديد للإمام الشافعي، و هو موافق لمذهب مالك ولكنّ أصحاب الشافعي أخذوا بالمذهب القديم لأجلِ قوة الدليل في ذلك، ولذلك يقول صاحب الزُّبَدْ:
والوَقتُ يبقى في القديمِ الأظهَرِ*** إلى العشاءِ بمغيبِ الأحمَرِ
مغيب الشفق الأحمر، فيمتد وقت صلاة المغرب إلى أن يغيب الشفق الأحمر، هذا في المذهب القديم للشافعي وعليه الفتوى في مذهبه. وفي مذهبه الجديد وافق الإمام مالكًا بأنَّ الوقت فقط ما يَسَعُ تحصيل شروط الصلاة وإقامتها، إلّا أنَّ الشافعيّة عبَّروا بخمس ركعات باعتبار ركعتين سنة المغرب البعدية، وعبَّرَ المالكية بثلاث ركعات أي وقت الفرض نفسه ليقع في الوقت.
وعلِمنا بعد ذلك ما اعتمده الشافعيّة يوافِقُ ما قاله الحنفيَّة والحنابلة: أنَّ وقت المغرب يمتدُ إلى دخول وقت العشاء بمغيبِ الشفقِ الأحمر، فإذا غابَ الشفقُ فقد دخلَ وقتُ صلاة العشاء. ولَكِنْ أيضًا يُذكَر عن أبي حنيفة أنَّه فسَّرَ الشفقَ بالبياض، فمعناه: الشفق الأبيض الذي يظهر بعد ذهاب الحُمرَة، ولَكِن صاحباهُ ذهبا إلى أنَّ الشفقَ هو الحُمرَة كما هو مذهب جمهور الفقهاء، الشفق الأحمر.
و جاء عنه ﷺ "أنه كان يُصلّي العشاءَ عند مغيبِ القمرِ في الليلةِ الثالثة"، قالوا: و في الليلةِ الثالثة يكونُ مَغيبُ القمر عند مَغيبِ الشفقِ الأحمر؛ فدَلَّ على أنَّ المرادَ بالشفق هو الشفقُ الأحمر، وهذا هو وقت دخول صلاة العشاء.
فيبقى وقتُ العشاء إلى أن يَطلَع الفجر الصادق، كذلك هو عند الحنفيَّة وعند الشافعيّة وهو قول غير مشهور عند المالكيَّة، فالمشهور في مذهب الإمام مالك أنَّ آخِر وقت العشاء ثُلث الليل، و على هذا يبقى فاصل ما بينَ العشاء والفجر.
إذًا فعلى مذهب الإمام مالك يكون الفصل:
إذًا نهاية وقتَ العشاء وكذلك يقول الحنابلة:
وبَعده إلى طلوع الفجر يَعُدُّونَهُ وقت ضرورة، أن يكون مريض شُفِيَ من مرضه، أو حائضًا أو نَفْساء طَهُرَتْ وما إلى ذلك.
ويتكلم الشيخ الآن عن وقت الجُمُعة، الفرضُ العظيم الذي يَلزَمُ المسلم البالغ العاقل المُقيم الصحيح الذي يَقدِرُ على حضور الجُمُعة، شِعَارٌ مِن شِعارات دين الله -تبارك وتعالى- وَرَدَتْ النصوص في الوعيدِ الشديدِ لِمَنْ يُهمِلْهَا ويتهاون بها، و "مَن ترَكَ ثلاثَ جُمَعٍ -متوالية- تهاونًا بِها، طَبَعَ الله على قلبهِ" بطابعِ النفاق، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فيتكلم على وقت الجُمُعَة، وَرَدَ لنا حديث عمر يقولُ: "أبي سهيل بن مالك عن أبيه مالك أنَّه قال: كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً .."، وهذا الأفصَحُ في نطقها: طِنْفَسَة، وهي عبارة عن بِسَاط يُبسط في طَرَفِهْ أهداب، خَميلة تخاط في طرفه، هذا بِساط صغير يُبسط ويُجلس عليه؛ طُنْفَسَة، طِنْفَسَة ويقال أيضًا: طِنفُسَة، وطِنفِسة، وبعضهم أيضًا عدَّدَ الحركات في الطاء، ولكنَّ الأفصح كسر الطاء وفتح الفاء طِنْفَسة.
أنَّه كان يرى طُنفَسَة "..لعقيل بن أبي طالب،" عقيل بن أبي طالب كان يحبه والده أبو طالب ولذا خاطبه النبي ﷺ و قال له: "أُحبك محبّتين: لقرابتك، ولأنّي كنت أرى عمّي يحبك"، عمي أبو طالب كان يحبك؛ فنال منزلةً وسرايةُ آثارِ المحبةِ لها شؤونٌ قويةٌ كبيرة، وقد انتهت إلى أَن يُبيّن ﷺ أنَّ شؤون الحشر في القيامة مرتبة عليها، "يُحشر المرء مع مَن أَحب".
ولمَّا كانت سَرَت سراية المحبة لأبي طالب، و وصلت إلى عقيل منها نفسها -لأنَّ أبا طالب كان يحبه- فكانت له بذلك أيضًا مكانة عند رسول الله ﷺ. جاء في بعض الروايات أنَّ طِنفِسة كانت لسيدنا العباس بن عبد المطلب، فكان يوم الجُمْعة، "تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِىِّ"، جهة الغرب الذي هو جهة خوخة سيدنا أبو بكر الصديق، والجهة المقابلة للحجرة الشريفة من الناحية الثانية جِهة الغرب، وكان المسجد هناك فيه مسقوفٌ و فيه مكشوف. فكأنَّهُ يُصلّي في المَحل المكشوف الذي تطلع عليه الشمس، ويبدأ الظلُّ لَهُ. فيوضع عند الجدار الغربي، وأنَّ امتداده نحو 100 ذراع المسجد الشريف ومنه هذا المسقوف، وعلامته الآن السواري التي فيها خطوط صُفُرْ؛ هذا محل المسجد المسقوف. ثم بعد ذلك سَواري لا خطوط فيها: هذا محل المسجد المكشوف إلى سواري مكتوب في رأسها "حَدُّ مسجدِ النبي"، هذاك مَحل الجدار الذي يضع عنده الطُّنفَسة، يضع الطُّنفَسة عنده هذا مَحَل الجدار في الجانب الغربي.
يقول: "تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِىِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ، خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،.." وهذا بيقين أنَّه قد زالت الشمس، أنَّه بعد الزوال، وقد بدأ الظل يظهر من الجدار حتى غطّى الطنفُسة التي بجانبه. إذًا فَهْو بعد زوال الشمس بيقين. وقد جاء عن النبي ﷺ، ثم عن الخلفاء الراشدين صلاتُهم للجُمعة بعد الزوال، بعد زوال الشمس، وعليه جماهير أهل العلم.
وإنما يُذكر قولٌ في مذهب الإمام أحمد -عليه رضوان الله تعالى- أنَّه يجوز الخطبة لها والدخول فيها قبل الزوال -الجُمعة-، ولّكِنْ من خَطَبَ وصلّى بعد الزوال فقد أدرك الوقت وصَحَّت جُمعته بالاتفاق، بالإجماع، فَدَلَّ على هذا أنَّه ما يمكن أن تكون كالعيد أصلًا؛ لأنَّ العيد لا تُصلّى بعد الزوال، وهذه صلاتُها بعد الزوال صحيحة باتفاق جميع العلماء، باتفاق جميع المذاهب الصحيحة؛ صلاتها بعد الزوال.
فهكذا ينبغي أن لا يدخل الخَطيب للخطبة إلا بعد زوال الشمس كما صَحَّ في الحديث عنهُ ﷺ في البخاري وغيره: أنَّهُ يخرج حين تميل الشمس، أو يَخرُج عند الزوال وبعد الزوال، فيخرج ﷺ ويَخطُب بالناس، ثم يصلّي بهم، عليه الصلاة والسلام.
وهنا أورَدَ لنا حديث سيدنا عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، يقول: "كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِىِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ، قَالَ مَالِكٌ -وَالِدُ أبِي سُهَيْلٍ-: ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ"،
الضَحاء بفتح الضاد وبالمد، الضَحاء: اشتداد النهار، نصف النهار يُقال له: ضَحاء.
أما الضُحى: بداية ارتفاع الشمس يُقال لها: ضُحى، من بداية ارتفاع الشمس يُقال الضُحى، بضم الضاد وبالقَصْر من دون مد؛ ضُحى،﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه:59]، هذا قبل الزوال.
ولكن عند اشتداد النهار وانتصافه يُقال: ضَحاءٌ، وإنّما عبَّرَ بذلك لأنَّه تدارُكْ يتداركون، يعني الأصل كانوا يَقيلون، من القيلولة وهو الراحة في نصف النهار، يُقال لها: قيلولة ويُقال لها: مَقيْل، الاستراحة ليس شرط النوم فيها؟ الاستراحة في هذا الوقت لها معونة على السهر في الخير أو قيام الليل، والذي يَقيْلُ في النهار ثم لا سَهَرَ له في الخير ولا قيام الليل، كالذي يَتَسحّر ولا يصوم، يُجهّز لنفسه سحور آخر الليل ثم يُصبِح مُفطِر.
فإنَّ القيلولة معونة على قيام الليل والسهر في الخير، فتُأخَذ هذه القيلولة، و يُروى: "قِيلوا فإنَّ الشياطين لا تَقيْل"، وكان يَعتاد هذا الصحابة و غيرهم و عنه ﷺ، قبل الزوال يضطجعون و ينامون أو يرتاحون، يتهيؤون لصلاة الظهر، وأنَّه خصوصًا أيام الصيف تكون قيلولتهم قبل الصلاة؛ لأنَّهم يبردون بصلاة الظهر، وهذا فرق بينه وبين الجُمُعة،
فإذا واحد قال أنهم قد قَالَوا: "فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ"، معناه صلّوا قبل الزوال ورجعوا وقت الضحاء، هذا مثل الذي يقول أنَّه يجوز السحور إلى وقت الزوال! وهذا لا يكون هكذا، لأنَّه ما سمّاه غداء إلا باعتبار نيابته عنه، و قيامه مقام الغداء، بدل ما تأكل في أول النهار تأكل آخِر الليل، فيكون هذا بدل ذاك الغداء، فقال لبعض أصحابه: "هَلُمَّ إلى الغداءِ المبارَكِ"؛ وسمَّاه غداء من هذا الباب، وهذا سمَّاه قائلة الضحاء من هذا الباب، ليس معناه خرجوا قبل الزوال، ما صَلَّوا إلا بعد الزوال. ولكن لمَّا نابَ وقت النوم في هذا الوقت عن نومتهم المعهودة في وقت الضحاء، قال إنها "قَائِلَةَ الضَّحَاءِ"، نصف النهار. ".. ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ".
وجاء في الروايةِ الأخرى عن عامر بن أبي عامر : "أن العباس كانت له طنفسة في أصل جدار المسجد عرضها ذراعان، أو ذراعان وثلث، وكان طول الجدار ستة عشر ذراعًا، فإذا نظر إلى الظل قد جاوز الطنفسة أذَّن المؤذن، وإذا أذَّن نظرنا إلى الطنفسة، فإذا الظل قد جاوزها".
ففي رواية مالك جعل الطنفسة لعقيل، وفي رواية محمد بن إسحاق جعل الطنفسة لسيدنا العباس بن عبدالمطلب، وهو أقرب لهيبته ومكانته عند أمير المؤمنين وغيره، وكان أيضًا عقيل نسَّابَة ويجتمع إليه الناس ويتكلم، وسيدنا العباس كان محل إجلال الصحابة كلهم لمكانته من النبي ﷺ، حتى قال سيدنا عمر -كما جاء في البخاري- عند استسقاءه بالعباس: "إنَّ هذا -العباس عم رسول الله- كان رسول الله ﷺ يَرى له ما يَرى الولد للوالد"، فيُنزله منزلة أبيه، في البِر والإحسان ﷺ وهو صاحب الخلق العظيم.
وهي الجمعة التي تُسقِطُ علينا فريضة الظهر، فلابد أن يكون وقتها وقت الظهر نفسه، وإلا كيف تُسقِط علينا الظهر و نحن نصليها قبل وقت الظهر وهو لم يدخل! فإذا دخل وقت الظهر بالزوال جاءت صلاة الجمعة، وهي تنوب وتُسقِطُ صلاة الظهر على المكلَّفين الذين صحَّت صلاتهم الجمعة.
إذًا فوقت الجمعة هو وقت الظهر، فإذا فات وقت الظهر بدخول وقت العصر لم تُصلّى الجمعة، وسيأتي الخلاف عند مالك في الباب بعد هذا.
وما جاء أيضًا في البخاري وغيره، قال: "كُنَّا نُصَلِّي مع النَّبيِّ ﷺ الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وليسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ فِيهِ" وذلك أنَّ الحيطان كانت قصيرة، عندهم في وقتُهم، وكان يُصلّي أول وقت الزوال عليه الصلاة والسلام، وكان يُقصِرُ الخُطبة ﷺ، فيُقصِرُ الخطبة ويصلي بهم ويطيل الصلاة فيخرجون، لا أنّهم لا يجدون ظل، الظل موجود لكن يعني ما يُظلّلهم بقاماتهم التي يمشون بها، الشمس تصل رؤوسهم ووجوههم وصدورهم هذا معناه، ليس معناه لا يوجد ظل نهائي، الظل موجود، ولكن لا يوجد ظل يستظلون به يُغطّيهم؛ لأنَّ الحيطان ما كانت مرتفعة في ذلك العهد.
بل إلى قرونٍ متأخرة كانت البيوت حواليِّ المدينة لا ترتفع على المسجد، ولا ترتفع على سقوف بيوت النبي ﷺ، فكانت كلها تحت، وإلى بعد ذلك من القرون، إلى القرن قبل الماضي كانت البيوت حواليِّ القبة، تحت القبة كلها، ليس من بيتٍ يُقارب القبة في طولها أصلًا، أدبًا مع المقام والجناب الشريف، ولكن الناس صاروا بحال ثاني، وجعلوا الكعبة تحت، وجعلوا القبة تحت،... وإذا كان من علامات الساعة التطاول في البنيان، فعلى بيت الحق وبيت رسوله أشَد الأشياء، أشَد التطاول، يتطاولون مع بعضهم البعض، لكن على بيت الرحمن وعلى بيوت المصطفى ﷺ؛ هذا تطاول أشنع من كل تطاول!
وفي هذا أيضًا: بَسْط الطُنفَسة في المسجد، مثل بَسط السجادات التي يجيء بها الإنسان ليصلي معه في أنواع من المصليات، أو بَسْط رداؤه للصلاة عليه، فيصير لا بأس به يتوقّى به برد الأرض أو حرَّها أو الحصباء، بأنواع المصليات يأتون بها. وقالوا إنَّهم بهذه الأيام يتوقُّون كورونا بها! وكان بعضهم يفرُش رداء من أجلِ أنَّ فَرشَ المسجد فيه خطوط فيه تصاوير، فيضعُ الرداءَ الأبيض حتى لا يكون أمامه شيء من النقش والخطوط فيكون أخشع في صلاته.
إذًا فهذا أول وقت الجمعة: زوال الشمس، معلومٌ سقوط الظهر بها و ليست هي مجرد بدل له، ولكنَّها فرضُ الذي وجَبَتْ عليه الجُمعة ذاك اليوم هي الجمعة، وكل من صلَّاها ممن تصحُ صلاته سقط عليه الظهر، سقط عليه فرض الظهر.
ويقول الإمام أبو حنيفة: أنَّ الأصل هو الظهر، و لكن من تكاملت فيه شرائط الجمعة فإنَّه مأمور بإسقاطه وإقامة الجمعة مكانه على سبيل الحَتْم، أمَّا من لم تتكامل فيه الشرائط فهو على أصل الظهر، إلّا أنَّه يُخَاطَبْ بأداء الجمعة في مكانه على سبيل الترخيص، فإذا أدّى الجمعة وإن كان لم تكن واجبة عليه سقط، كالمرأة إذا صلّت مع الناس الجمعة، والمسافر إذا دخل وصلّى مع الناس الجمعة سقط الظهر عليه، مع أنَّه لا يلزمه صلاة الجمعة بسبب السفر، ولا يلزمها لكونها أنثى أن تصلي الجمعة، ولكن إذا حضرت وصلّت، كالمريض إذا حَضَر وتَكلَّفْ وصلّى سقط عنه الظهر وهكذا.
يقول: "عَنِ ابْنِ أَبِي سَلِيطٍ : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ…" ثم مشى وسار "...وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ"، و مَلل: موضع بين مكة والمدينة على سبعةَ عشر ميل من المدينة المنورة وقيل أكثر من ذلك، والمعنى ما قال مالك: "وذلك للتهجير و سرعة السير"، التهجير معناه: صلاة الجمعة في أول وقتها، ثم سرعة السير، ولا يلزم أنَّه صلى العصر في أول وقته، قد يكون في أثناء الوقت، وقد يكون وصل في آخِر الوقت، ممكن صلى العصر في مَلل هذا الموضع الذي بينه وبين المدينة سبعة عشر ميلًا، ما يمكن الوصول إليه إلا إذا صلّى الجمعة مبكرًا أوّل وقتها، أوّل وقت الزوال ثم أسرعَ في السير حتى يَصِلْ هناك قبل غروب الشمس بمدة، فيمكن أن يَصِلْ فيصلي العصر قبل غروب الشمس أو قبل اصفرار الشمس.
التهجير، الهاجِرة أصله انتصاف النهار الزوال، يقال له: وقت الهَجْر، ولكن يُستعمل بعد ذلك التهجير في المبادرة في الشيء في أوّل وقته، في أي وقت كان يُقال: هَجَّرَ فيه وبَكَّرَ وبادَرَ، كُلُّه يأتي للقيام بالشيء أوّل وقته، سواءً أول النهار أو وسطه أو آخره، وإن كان الهاجِرة وسط النهار.
للتهجير؛ صلاة الجمعة وقت الهاجرة و انتصاف النهار من بعد الزوال، وأكثر ما قيل في مَلل أنَّ بينها وبين المدينة اثنان وعشرون ميل، وقيل ثمانية عشر و الثالث المشهور التي ذكرناه أنَّ سبعة عشر ميلًا بينها وبين المدينة، فكما قال الإمام مالك: هَجَّر سيدنا عثمان فصلَّاها أوّل الزوال ثم أسرع السير فوَصل إلى مَلل، فوقت العصر باقِ، فصلّاها و الشمس لم تَصفَرْ بعد ولم تَغرُب. فما فيه دليل على أن سيدنا عثمان صلّى الجمعة قبل الزوال.
"بابُ من أدركَ ركعةً من الصلاة" فيه بعض البحث سيأتي معنا إن شاء الله. رزقنا الله الإيمان واليقين والصدق والإخلاص والتوفيق، والثبات على أقوم طريق، وألحقنا بخير فريق، ووقانا الأسواء، وأصلح السِرّ والنجوى، وغمَرنا بفائِضات الجود مع صلاح الغيب والشهود، بسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
03 ذو القِعدة 1441