(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصلاة، تتمة باب ما جاء في النِّداءِ للصَّلاةِ، وباب النِّدَاءِ فِي السَّفَرِ وَعَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.
فجر الإثنين 27 ذي الحجة 1441هـ.
تتمة باب مَا جَاءَ فِي النِّدَاءِ لِلصَّلاَةِ
187- قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا، إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا.
188 - وحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَوَجَدَهُ نَائِماً، فَقَالَ: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ.
189 - وحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئاً مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ، إِلاَّ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ.
190 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيع، فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ.
باب النِّدَاءِ فِي السَّفَرِ وَعَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
191 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، فَقَالَ: أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: "أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ".
192 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَزِيدُ عَلَى الإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ، إِلاَّ فِي الصُّبْحِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِيهَا وَيُقِيمُ، وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّمَا الأَذَانُ لِلإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ.
193 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ أَبَاهُ قَال لَهُ: إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ فَعَلْتَ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلاَ تُؤَذِّنْ.
194 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ : لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ.
195 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى بِأَرْضِ فَلاَةٍ، صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، أَوْ أَقَامَ، صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ.
الحمد لله مُكرمنا ببيان أحكام شريعته على لسان حبيبه وصفوته خير بريّته. اللهمّ صلِّ وسلم وبارك وكرّم على المجتبى المختار نور الأنوار عبدك المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن على منهاجهم سَار، وعلى آله وصحبه وأتباعه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورُسُلك خيرة الأخيار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وعبادك الصالحين أهل الأنوار، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا عزيز يا غفار.
وبعدُ..
فَيُوَاصِل الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلقة بالأذان لأجل الصلاة، ويروي لنا في هذا حديث أو قول الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- في صلاة الفجر: "لَمْ تَزَلِ الصُّبْحُ يُنَادَى لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّا لَمْ نَرَهَا يُنَادَى لَهَا، إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُهَا"، أي؛ يَدُخل وقتها كما تقدّم معنا في الأذان للجمعة.
فإذًا، عند الإمام مالك والشافعي وأحمد: يجوز أن يُقدَم أذان الصبح الأول على دخول وقته؛ لأجل أن يقوموا وفيه ثَبَتَ الحديث في الصحيحين وغيرهما: "إنّ بلالًا ينادي بليل" فلا يمنعنّ أحدكم أذان بلال عن سحوره، "فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أمّ مكتوم". فأثبت الأذانين وأثبت أن الأذان الأول قبل طلوع الفجر؛ أنه كان سيدنا بلال -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- يؤذن بليلٍ.
ويُذْكَر عَن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وكذلك الثوري: أنه لا يؤذن للفجر حتى يَطُلُعَ الفجر، لا يؤذن الفجر حتى يَطُلُعَ الفجر، وجاء عن ابن وهب: لا يؤذن لها إلا بالسَحَر، قال: ما السَحر؟!، قال: السدس الآخر من الليل. على كلٍ أيضًا يقول الجمهور: بجواز تقديم الأذان في صلاة الفجر. وهو أيضًا قول أبو يوسف من الحنفية، وقال الإمام أبي حنيفة ومحمد بن الحسن: أنه لا يؤذَّن لصلاة الصبح حتى يطلع الفجر. فعلى هذا إذا أراد أن يوقظ الناس لآخر الليل أن يوقظهم بشيء من القراءة والأذكار غير الآذان حتى يطلع الفجر، ثم يؤذن أذان الفجر. ولكن علمت أنها عند ايضًا الشافعية وغيرهم: أن للصبح أذنان إثنان، أول وثاني وهو الوارد أيضًا في الحديث هذا، والذي سَمِعْتَهُ في الصحيحين عن أذان سيدنا بلال وسيدنا عبد الله ابن أمّ مكتوم عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. إذًا، فلا يُنادى لشيءٍ من الصلوات قبل وقتها؛ لأن الأذان إعلام عن دخول الوقت، إلا صلاة الصبح.
وعلمت قول أبي حنيفة: لا ينادى لها قبل الفجر، ولكن أبو يوسف يقول: أولًا كذلك حتى أتى المدينة فسمعهم يؤذنون؛ فعلم السند الذي استندوا إليه في الأذان بِلَيل وقوله ﷺ: "إنَّ بلَالًا يُؤَذِّنُ بلَيْلٍ" فقال: بأنه يؤذَّن للفجر قبل الوقت كما هو مذهب الإمام مالك أيضًا والإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله تعالى- فَيُؤَذِن الأذان الأول لصلاة الصبح قبل الفجر.
وهكذا يدخل وقت الأذان الأول للفجر من بعد نصف الليل.
وهكذا و -لا إله إلا الله- فَعَلِمْتَ أن عند هؤلاء الأئمة الذين قالوا بالأذان قبل الفجر من بعد نصف الليل يُمكن؛ إلا أن ابن وهب قال: في سدس الليل الأخير.
ثم ذكر لنا عن مالك إنه بَلَغَهُ: "أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَقَالَ: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ" ما المعنى؟ أليست كانت موجودة في حياته ﷺ؟! وكان بلال يؤذن بها: "الصلاةُ خيرٌ من النوم" وهذا الذي يسمى بالتثويب؛ والتثويب: أن يقول المؤذن بعد الحيعلتين وقبل التكبيرتين الأخيرتين وقول لا إله إلا الله، أن يقول:
الصلاةُ خيرٌ من النوم
هي ثابتة من قبل سيدنا عمر عليه رضوان الله في حياة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلهذا ما معنى قول سيدنا عمر فأمره أن يجعلها في نداء الصبح؟ المعنى فيه: أنه أنكر عليه أن يأتي ببعض ألفاظ الأذان في غير وقت الأذان، وقال له اجعل هذا في محلّها في وقت النداء، إذا أردت أن تُؤْذِنِّي للصلاة، ائتِ لي بأي كلام ونَادِنِي بكلام آخر، وقل لي حضر الوقت ولا تأتي بشيء من ألفاظ الأذان تقطعها من الأذان وتجعلها في غير وقت الأذان! اجعل الأذان في وقته وألفاظه متكاملة. وهذا معنى قول سيدنا عمر، وإلا فقد ثبت ذلك عن سيدنا بلال عليه رضوان الله، وعنه أيضًا جاء أنه لما جاء للنبي ﷺ مرةً وقال له: "الصلاةُ خيرٌ من النوم" فقال: "ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك"، ثم لما علم ﷺ أبا محذورة الأذان لمّا كان وقت فتح مكة فقال له فإذا كان أذان الصبح فقل: "الصلاةُ خيرٌ من النوم". فإذًا،هي من سنّته عليه الصلاة والسلام، وأمره وتقريره لها.
فهذا الذي يسمونه التثويب يكون أثناء الأذان فيزيد المؤذن عبارة: الصلاةُ خيرٌ من النوم مرّتين بعد الحيعلتين. ويقول بعض الحنفية: ويمكن أن تكون بعد الأذان يكمل الأذان ثم يقول: الصلاةُ خيرٌ من النوم. وهذا التثويب في صلاة الصبح سُنّة باتفاق الأئمة الأربعة أن يثوّب لصلاة الصبح ويقول: الصلاةُ خيرٌ من النوم. فكما جاء في قوله ﷺ لأبي محذورة: "فإذا كان صلاة الصبح قلت: الصلاةُ خيرٌ من النوم.. الصلاةُ خيرٌ من النوم"، وهكذا قوله لبلال قبل ذلك في المدينة المنورة لمّا نطق بلال بقوله: الصلاةُ خيرٌ من النوم، فقال النبي ﷺ: "ما أحسن هذا يا بلال؛ اجعله في أذانك" فهو مخصوصٌ بصلاة الصبح.
ولمّا أذّن مرة بعض العوام في صلاة الظهر فأتى سهوًا أو نسيانًا: الصلاة خيرٌ من النوم؛ فقيل له مالك تجيء بها في هذا الوقت قال: إنهم نيام؛ نايمين الناس في هذا الوقت. وعلى هذا أقوال بعض أهل العلم، سبحان الله! كما يقول هذا العام~ي:
الصلاةُ خيرٌ من النوم، لا يقال في غيرها من الصلوات الخمس، فهو مخصوصٌ بصلاة الصبح. ولهذا لمّا دخل مرة ابن عمر إلى المسجد، وسمع رجل في أذان الظهر يقول: الصلاة خير من النوم.. خرج.. قالوا ما لك؟ قال: أخرجتني البدعة، زدْتُم في الأذان شيء ليس واردًا فيه! وأن ذاك مخصوصٌ بصلاة الصبح.
ومعلومٌ أن هذا المؤذن الذي جاء يريد أن يؤذن سيدنا عمر غير بلال؛ لأن سيدنا بلال لم يؤذن بعد وفاته ﷺ لأبي بكر ولا لعمر ولا لغيرهما، بل انتقل -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- إلى الشام وأقام هناك وإنما جاء زائرًا للمدينة المنورة. وإذًا، فبعض الذين اتخذوا من المؤذنين بعد وفاته ﷺ.
ثم ذكر لنا عن "أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ" إنكاره لحال الناس بعد العهد الأول والرعيل الأول؛ وتغير شأن الناس في أنواع من الآداب والأخلاق، وكيفية المعاملة وغَلَبة الخشوع والخضوع عليهم؛ فأنكر حال الناس و"قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئاً مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ، إِلاَّ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ" ما عدت أرى شيء ممّا أعهده من أيام الصحابة إلا هذا الأذان تُؤذنون، أما طريقة مجيئكم إلى الصلاة ليست مثل طريقة مجيئهم، حالكم في الصلاة وخشوعها ليست مثلهم، و أموركم تنكّرت من بعد، فكانوا يحزنون لذلك، و يشق عليهم ذلك وهم في القرون الأولى! فكيف يُستطاب تقليد الفساق والفجار في الأزياء والأقوال والأفعال إلى وسط ديار المسلمين حتى يكون سنّتهم هي الغالبة على سنة النبي محمد ﷺ وعلى سُنّة الصالحين وسُنّة الخلفاء الراشدين وإنا لله وإنا إليه راجعون!! قال ما عرفت إلا الأذان هذا الذي كنت أعهده في عهد النبي ﷺ والباقي تغيرتم فيه و بدّلتم ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهكذا كان حزن الصالحين على تَغَيُر الناس في أحوالهم، وكان معرفتهم بقدر من مضى قبل ذلك.
ثم ذكر "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَمِعَ الإِقَامَةَ وَهُوَ بِالْبَقِيع، فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ إِلَى الْمَسْجِدِ"؛ وليس المرادُ السرعةُ المنهي عنها التي تخرج به عن السكينة؛ ولكنه عَجِلَ في مشيه أكثر مما كان يمشي متأنيًا من أجل إدراك الصلاة. ومن هنا جاء اجتهادهم في قوله: "فلا تَأتوها وأنتُمْ تَسعونَ، ولَكِن ائتوها وأنتُمْ تمشونَ، وعليكُمُ السَّكينةَ" إذا سمعتم النداء؛ فالمراد أن لا يخرج عن هيئة الوقار والسكينة بسرعة المشي، وأمّا أن يسرع الخطى شيئًا ما لأجل الإدراك من دون أن يخرج عن الوقار والسكينة، فلا إشكال في ذلك وهو الذي جاء عن ابن عمر، وهو كان متحرٍّ للسُنَة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- ولكن يسرع الخطى لأجل إدراك ثواب تكبيرة الإحرام مع الإمام، لكن من دون أن يكون في سرعته تلك إخلالٌ بالوقار والسكينة والتأني، وإنما يختلف مع السكينة والوقار مشيٌ عن مشي؛ فمتأنٍ ومستعجل، ولكن تحت دائرة السكينة والوقار، و المنهي عنه ما زاد على ذلك، فهذا نهى عنه ﷺ؛ أن يجري إلى الصلاة أو يخرج عن وقاره فتظهر أثر السرعة عليه فيخرج عن المشي المعتاد؛ هذا المنهي عنه في الصلاة "فما أدرَكْتُمْ فصلُّوا، وما فاتَكُم فأتمُّوا" كما تقدّم معنا.
ثم ذكر لنا حديث النداء في السفر وعلى غير وضوء، ويُكره أن يؤذن على غير وضوء، والإقامة أشدّ كراهة، أن يقيم الصلاة وهو على غير وضوء لقرب الصلاة فذلك مكروه، فينبغي أن يُبادر بالوضوء قبل أن يؤذن، والأذان يكون في السفر وفي الحضر كذلك. يقول "عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ" يعني: وكان مسافرًا فجاء في بعض الروايات: "وأَذَنَ بضجنان" منزل ومنطقة بعيدة، بينه وبين مكة 25 ميل، ففيه أذان المسافر، وإنما لمّا كان الوقت وقت برد وريح أضاف إلى الأذان أي بعد انتهاء الأذان قول: "أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ " وهذا الذي أيضًا عليه الأئمة:
وقال بعضهم جعلها بعد الحيعلتين؛ لأن فيها الأمر بالمجيء بعد: حي على الصلاة، يقول: ألا صلوا في رحالكم؛ ليبيّن أنهم في وقت عذر وفي حالة عذر.
يقول: "أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، فَقَالَ: أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ: "أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ". بضابط أن يَشُقُ معه الحضور إلى المسجد مشقة شديدة؛ لشدة برد أو شدة ريح وما إلى ذلك. إذًا، عند شدة المطر أو الريح، أو البرد يقول المؤذن: "ألا صلوا في رحالكم" يكون ذلك بعد الأذان، أو: "أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ"، كما جاء في حديث ابن عمر أنه ﷺ يقول ذلك، وجاء في رواية: "إذا ابتلَّتِ النعالُ فالصلاةُ في الرحالِ".
وبهذا يثبت أن الأذان سُنَّة مُؤكدة سواءً للمقيم أو للمسافر؛ فكلهم يؤذن، ثم أنه يحضر الصلاة من غير من نرى من الإنس، من يحضرها؛ من الجن ومن الملائكة، فيكون الأذان مدعاةً لحضورهم و لمشاركتهم المُصَلِّي في صلاته، فلذا ما ينقطع الأذان بسبب السفر ويقول أؤذن لمن؟ من سيأتي عندي؟ وهكذا.
وجاء عنه ﷺ أنه قال لمالك ابنُ الحويرث وصاحبه: "إذا سافرتُما فأذِّنا وأقيما ، وليؤُمَّكُما أَكْبرُكُما". كما اتفقوا أيضًا على أنه لو ترك الأذان عامدًا أو ناسيًا أجزأته صلاته، إنما هو متأكَّد عليه، هكذا يقول الشافعية وأبي حنيفة والإمام أحمد، ولأن الأذان غير واجب فرضًا من فروض الصلاة. وهكذا يكون المعتمد أيضًا عند المالكية: أنه للمسافر سُنّة مؤكدة فإذا تركه فصلاته صحيحة ولا تبطل صلاته لأنه ليس من شرط الصلاة الأذان.
ثم ذكر فضل من صلّى بأرض فلاة؛ أي: صحراء لا أبنية فيها؛ فبقعة لا تُعمَر بالناس وصلاتهم وذكرهم فيكون له ثوابٌ مخصوص؛ حيث يصلي في هذه الفلاة، صلاة الفلاة. وجاء في بعض الأخبار أنها بخمسين صلاة؛ الصلاة في فلاة. ولذا كان يحرص كثير من المسافرين الأخيار إذا كانوا يمرّون بفلاة أن يجعلوا صلاتهم في الفلاة، فيخرجون يصلون في الفلاة اغتنامًا لهذا الأجر، ومضاعفة أجر من يصلي في الفلاة، فإذا صلى بالأذان والإقامة صلّى معه ملائكة كثير، وإذا صلّى بأرض فلاة كما يَقُول ابن الْمُسَيَّبِ: "مَنْ صَلَّى بِأَرْضِ فَلاَةٍ، صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ" الملكان؛ صلى معه ملكاه اللذان يُرَافقانه في أحواله كلها، و(مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]. عن اليمين وعن الشمال فإذا صلى صلّيا معه، لكن إذا "أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، أَوْ أَقَامَ، صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ" أي: أعداد كثيرة؛ فيحصّل ثواب عظيم، فَيَغْتَنِم صلاة الفلاة في حين يتسنّى له الصلاة في الفلاة، والأرض الصحراء القاحلة و حيث لا يوجد أحد من الناس.
وما تقدّم من العذر بالريح:
قال: "أَذَّنَ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، أَوْ أَقَامَ، صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ". ولذا اختلف أهل العلم في هل هي أفضل من الجماعة في غير الفَلاة إذا صلّى بأذان وإقامة وهو في الفلاة؟ وهكذا لأنه تزكو الصلاة بكثرة المصلين وهؤلاء أمثال الجبال من الملائكة!
قال: "عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَزِيدُ عَلَى الإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ، إِلاَّ فِي الصُّبْحِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِيهَا وَيُقِيمُ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الأَذَانُ لِلإِمَامِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ." مذهب عبد الله بن عمر. وسمعت مذاهب الأئمة في الأذان في السفر، وإن كان لا يتّرتب عليه صحة الصلاة. وجاء عن عروة أنه قال لابنه هشام: "إِذَا كُنْتَ فِي سَفَرٍ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤَذِّنَ وَتُقِيمَ فَعَلْتَ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ وَلاَ تُؤَذِّنْ"، إذًا، الأذان مَشروع للصلوات المفروضة سواءً في حال الحضر أو في السفر، والجماعة وحتى المنفرد وحده.
لِمَا جاء معنا في الحديث أنه ﷺ لما ناموا عن صلاة الصبح وأمر بلالًا أن يؤذن بعد طلوع الفجر أمره أن يؤذن، وأن يقيم عليه الصلاة والسلام، كما كان يفعل في وقتها، فأذن بلال بالصلاة فَصلوا ركعتين ثم صلوا الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم.
فإذا كان عنده عدد من الفوائت؛ عدد صلوات فاتته فيريد أن يصليها، فيُسنّ أن يؤذن،
وعند الشافعية والحنابلة: الأذان واحد للصلاة الأولى، ثم ما بعدها يقيم يقيم يقيم ثنتين أو ثلاث.. وهكذا. إذًا، علمنا مشروعية الأذان والإقامة للفرد والجماعة، في السفر والحضر.
وذكر عن مالك يقول: "لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ الرَّجُلُ وَهُوَ رَاكِبٌ"، بل وفيه إذا كان أيضًا يمشي امتداد الصوت إلى مكان أكثر، يبتدأ الأذان بمكان وينهيه بمكان فيصير هذا المكان كله وصله صوت أذانه. وهكذا كان بعض شيوخنا إذا كان في السفر يحرص على الصلاة في الصحراء، ويحرص على الأذان وهو في السيارة، ويفتح زجاج السيارة إن كان مقفل، ويؤذن حتى تشهد له المناطق، فيمر على أماكن كثيرة وأشجار كثيرة وأحجار كثيرة، ففي مدة الأذان تقطع السيارة عدد من الكيلومترات ويقول كلها يشهد لي! ثم يخرج في الصحراء ويصلي، وهكذا الراغبون في الثواب وتجّار الآخرة عليهم رضوان الله عليهم تبارك وتعالى.
وكذلك ينبغي أن لا يؤذن إلا وهو قائم، وإن كان يصح إن يؤذن قاعدًا ولكن الأفضل أن يقوم ويؤذن وهو قائم، حتى قال في المدوّنة عند الإمام مالك يقول: لا يؤذن القاعد. وجاء عند ابن عباس: أن يؤذن قاعد فهو خُلاف السُنَة. وكذلك الراكب ما يكون إلا قاعد، فيؤذن ولكن ما يقيم وهو راكب لأن الإقامة متصلة بالصلاة والصلاة ما تؤدى وهو على الدابة، لابد يخرج بالنسبة للفرض، إنما يصلّي على الدابة صلاة النافلة وهو مسافر.
ومما يستحب للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه حال الأذان؛ وهما: السَبابتان فَيجعلهما في صماخ الأذنين× في خرق الأذنين، لأنه ﷺ أمر بلالًا بذلك، وقال: إنه أرفع لصوتك. فيؤذن وإصبعاه في أذنيه. ومرّ أيضًا معنا كلام مالك: أنه يجوز أن يكون المقيم غير المؤذن، ولكن الأفضل أن يكون المؤذن هو المقيم وهذا مستحب. وجاء في الحديث كنا أشرنا إليه في حديث زياد اِبن الحارث الصُدائي؛ حين أذن بلال أذن زياد بن الحارث الصُدائي، ثم جاء وقت الصلاة فأراد سيدنا بلال أن يقيم، فقال ﷺ: "إنّ أَخا صُداءِ هُوَ أذنَ ومَنْ أذَّنَ فهو يقيم"، فهذا هو المستحب والأفضل: أن يكون متولّي الإقامة هو الذي تولّى الأذان، وإن كان يجوز أن يؤذن غيره. ويقول أيضًا الحنفية: إذا كان يؤذن لنفسه وليس معه أحد يُصلي فلا بأس أن يؤذن وهو قاعد، والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان واليقين والتوفيق والإستقامة، وأتحفنَا بالكرامة، ودفع عنا الآفات وأصلح لنا الظواهر والخفيّات، وبلّغنا الأمنيات، ورَعَانا بعين عنايته في الظواهر والخفيّات، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
29 ذو الحِجّة 1441