(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب المُسْتَحاضَة.
فجر الإثنين 20 ذي الحجة 1441هـ.
باب الْمُسْتَحَاضَةِ
159- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبِي حُبَيْشٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِ الصَّلاَةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وَصَلِّى".
160- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدِّمَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ إِلَى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفر بِثَوْبٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّي"
161- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا رَأَتْ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي.
162- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الْقَعْقَاعَ بْنَ حَكِيمٍ وَزَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ أَرْسَلاَهُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ الْمُسْتَحَاضَةُ، فَقَالَ: تَغْتَسِلُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ، فَإِنْ غَلَبَهَا الدَّمُ اسْتَثْفَرَتْ.
163- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ إِلاَّ أَنْ تَغْتَسِلَ غُسْلاً وَاحِداً، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلاَةٍ.
164- قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا صَلَّتْ، أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا، وَكَذَلِكَ النُّفَسَاءُ إِذَا بَلَغَتْ أَقْصَى مَا يُمْسِكُ النِّسَاءَ الدَّمُ، فَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُصِيبُهَا زَوْجُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ.
165- قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.
الحمدُ لله مُكرمنا بالشريعة الغرّاء، وبيانها على لسانِ عبده المُصطفى مُحمَّد ﷺ، المُشيّد لأركانها، اللهم أدِم صلواتك على سيدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أَحبابه، وآبائه وإخوانه من الأَنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أَجمعين، وعلى ملائكتكَ المقربين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أَرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيواصلُ الشيخ -عليه رحمة الله- ذكرَ الأَحاديث المتعلقة بالحيض، ويذكر في هذا الباب: "المُستحاضة"؛ وهي: التي جاوزت مقدار الحَيض ومقدار النِفاس، واستمرَ معها الدّم زيادةً على ذلك. فخُروج الدّم مِنْ المرأة في الوقت الذي لا يُعد فيه حيض ولا نِفاس هو الاستحاضة.
وقد جاءت فيه رواياتٌ عنه ﷺ، واختلفت استنباطات الفقهاء إِختلافًا كثيرًا في الأقسام وأحكامها، فيما يتعلق بالمُستحاضة، حتى أُفردت في ذلك التآليف والتصانيف. ولم يزل الأَمر قائمًا على تعدّد استنباط الأَحكام، واختلاف فُقهاء الإِسلام في كثيرٍ من مسائل الاستحاضة، وهي التي ترى الدّم في غير أوقات الحَيض والنِفاس.
فإِن له هذه الثلاثةُ حالات:
فذكر حديث فَاطِمَةُ بِنْتُ أبِي حُبَيْشٍ أنها قالت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لاَ أَطْهُرُ" أي: يستمر معيَ الدَّم حتى ينتهي وقتُ الحيض ويتجاوز إلى بقية الشهر، "أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟" هل أتركُ الصَّلاة ما دام الدَّم منيّ سائل؟ "فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِ الصَّلاَةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وَصَلِّي".
فكيف تذهب الحَيضَة؟ وكيف يذهبُ قدرها؟ فقوله: "فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا" إنّما يكون هذا إِمّا لما يسمّى:
قال الشافعية: ولو مرة واحدة حاضت حيضًا صحيحًا وطَهُرت طُهرًا صحيحًا فهذه عادتها. فيُحمَل قوله "فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ" أي: جاءت في الوقت الذي تعتادين فيه الحيض. "فَاتْرُكِ الصَّلاَةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا"مقدار ما اعّتَدتَ سابقًا.. ستة أيام، سبعة أيام، أقل، أكثر.. "فَاغْسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وَصَلِّي" فأمرها بالصلاة.
أو تكونَ:
يقول: "فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا" أي وقت الدّم القوي، وجاء الضعيف "فَاغْسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وَصَلِّي". فالحيضُ يمنعُ من الصّلاة بالإِتفاق، بالإجماع ولكن الاستحاضة لا؛ فيحرمُ على الحائض أن تُصلّي وليس عليها قضاء الصلاة.
قال: وكان بعضُ السَلفِ يرى للحائض أن تتوضأَ عند وقت الصَّلاة، وتذكُرَ الله تعالى وتستقبِلَ القبلة ذاكرةً لله. أمّا الصَّلاة فحرام باتفاق، ولكن لتأخذَ نصيبها من العبادة. والعبادةُ بالذِّكرِ مفتوحٌ بابُها. أما الوضوء فعند الشافعية: لا يجوز للحائض ولا للنُفساء أن تتوضأ بنية العبادة، أمّا أن تَتَنظف أو تَتَبرد فلا شيء عليها، ولكن إذا تنويَ الوضوء فلا يجوز عندهم. فعليه يُحمل قول بعض السلف أنّ أيام حيضها تتوضأ عند وقت الصلاة وتذكر الله، فالمراد: أنها تَتَنظف وليس الوضوء بنية العبادة؛ الوضُوء بنية العبادة يَحرم عليها. وكذلك الاغتسال لا يكون لها بنية العبادة إِلا في يوم العيد وأَغسال الحج. فالحَائض والنُفساء تغتسِل أَغسال الحج، عند الوقوف بعرفة، وللرَّمي وما إلى ذلك، ويَحرُم عليها دخول المَسجد، والطواف، والصَّلاة كما هو معلوم، ولكن تَغتسل كمثلِ يوم العيد يُسن الإغتسالُ فيه ولو للحائض وللنُفساء؛ يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى.
أمّا نِعمة الإذن من الله بذكره، فقد وسَعها لنا الحقُ جل جلاله للمُتوضئ، والمُحدث، والجُنب، والحَائض، والنُفساء، والقائم، والقاعد، وعلى جَنب، والسَفر، والحَضر، وللصغير، والكبير،.. فَسَحَ لنا نِعمة ذكره والإذن بذكره _ جلّ جلاله _ ووعدنا أَن يذكُرنا إذا ذكرناهُ سبحانهُ وتعالى. هذا من أعظم ما امّتنّ الله به وأَكرمَ عبادهُ المؤمنينَ، أَن يذكروهُ في أَيّ حال، وعلى أيّ كيفية، وفي كل وقت، و وعدهم أن يذكُرهم (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ..) [البقرة:152]. وكان ﷺ يذكر الله على كل أَحيانه.
وأثنى الله على الذين أسْتقبلوا هذه النعمة بالشّكرِ فأَكثروا الذكرَ فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ..) [آل عمران:191]، وجعلها صفة أوليّ الألباب، فالعُقلاء يَغنمونَ الوقتَ بِذكر ربَّ الأرباب، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم لا يَفترون عن ذكرِ ربهم، بل لا يصبِرون عنهُ إذا ذاقوا حلاوته، فلا يصبرونَ عن ذكرِ ربهم ليلًا ونهارًا قيامًا وقعودًا وعلى جُنوبهم.
ولما استحلى بعضُ أهل الخير ذكرُ: لا إله إلا الله، امتلأ بها صَدرهُ وضَميرهُ وقلبهُ وانطلقَ بها لسانهُ، فكانَ لا يفتَرُ عنها، فكان مُنصرفًا دائمًا إلى لا إله إلا الله، فإذا أرادَ دخول الخلاء أخرجْ لسانهُ فعضَّ عليها؛ لأنه وقت لا يليقُ فيه ذكرْ باللسان، ويبقى على ذِكرْ القلبِ حتى يخرج، فإن لم يعضَّ عليها انطلقت بِنفسها لقوة أستغراقها بالذكرِ، وتنطلق بقول لا إله إلا الله.
اللهمّ أعِنّا على ذكركَ وشكركَ وحسن عِبادتك.
فأوردَ لنا هذا الحديث ومدارُ القلمِ عندهم في الاستحاضة على ثلاثة أحاديث، بل وجاءت روايات متعددة، ولكلٍّ أَخذٌ منها مِنْ أَربابِ الإجتهادِ فتقسمتْ بعد ذلك الأقسام للمستحاضة. وقال صاحب الزُبد:
إن عبرَ الأكثر واستدامَ *** فمُستحاضةٌ حَوَتْ أقسامًا
وهذا الذي أخذ فيه الحنفية أن: أكثر الحيض عشر أَيام، فإذا أستمرَ عندها الدمُ على طول فعندهم: عشرة أيام من بداية ما جاءها الدّم تترك الصلاة، والعشرين اليوم تُعد طاهرة وهكذا.
هذه إذا كانت مُبتدَأة لم يسبقَ لها عادة صحيحة في الحيض، فمِن أول ما بَلغت استمر بها الدم، يُقَّدر حَيضُها عند الحنفية كما ذكرنا من أول الاستمرار عشرة أيام؛ لأن أكثر الحيض عندهم عشر أيام، ولا يزيد الحيض عندهم على عشر أيام. قال الشافعية: هو خمسةَ عشر يوم، مُمكن أَن يستمر إلى خمسةَ عشر يوم، فإذًا يكون طُهرها عشرين عندهم -عند الحنفية-، وحيضها عشر، وهكذا في كل شهر.
فإذا نَفَست وولدتْ فيصيرُ نِفَاسها: أربعين، ثُمَّ بعد النِفاس يُقّدر بعشرين يوم طُهرًا، ثم حيضٌ وهكذا، فيقولون الحنفية:
ثم أوردَ لنا حديث "أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدِّمَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ إِلَى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفر" يعني تشُّد نفسها "بِثَوْبٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّي" وهذا الذي ذكروهُ في مِنْ عِندَهُ حدث دائم، دائم الحدث؛ كسلس البول، وكالمُستحاضة، يجب عليه للصلاة:
وفي هذا الحديث أيضًا إرجاعه إلى العادة، واعتبار العادة هي أساس. ومَنْ المرأةُ التي تُهراق الدماء؟ قيل أنها نفسها فَاطِمة بنت حُبيش وأمرتْ السَّيدة أُم سَلمة أَن تَستفتي رسول الله ﷺ لكونها أمَّ المؤمنين تجد معهُ فرصة أكثر، وتستطيع أَن تستفصِل منه، بِخلاف أن تُكلمه المرأة الأجنبية مباشرةً في مثل هذا، فاستعانت بِأمَّ المؤمنين لتجلسَ مع رسول الله ﷺ ولتُبَينَ لهُ ولتأخذَ التفصيل منه أكثر. وهذا مِنْ الحِكَم في إِباحة الحق لنَبِيّه ﷺ بأَن يَتزوجَ العدد مِن النِّساء، وأكثر مِنْ الأَربع ليَتَيَسرَ أَخذُ أحكامُ الشَّريعة عمومًا، وما يَتعلّقُ بالنِّساء خصوصًا عنه من هؤلاءِ اللَبيبات الَواعيات اللاتي يُبَلغْنَ مَنْ وراءهن ومَنْ بعدهنَّ، فكَانَ ذَلك مِنْ جُملةِ الحِكَم. وقد تَرتب على ذلك خيرٌ كَبيرٌ للأُمة، وَحُسنَ البَيان من رَسولها ﷺ عَنِ اللهِ تبارك وتعالى.
إذًا، فذاتُ العادة التي قد عرفت مِنْ الشَّهرِ وقتَ حَيضها ووقتَ طُهرها الصحيح، إذا رَأت ما يُخالف عادتها مِنْ حيث الزمن والعدد، تُنقل الى العادة. وهكذا تعددت الأَقوال عند المالكية كما ذكر أبن رشد وغيره، وكذلك يقول الشافعية: المعتادة للحيض إِما تكون:
قالوا: وتَثبُتُ العادةُ بمرةٍ في الأصحِ؛ إذا قَد حَاضت وطَهُرت طُهرًا صَحيحًا في شهرٍ مِنْ الشُّهور ولو مرة واحدة كان هذا عادتها، فإذا استمر الدَّمُ بعد ذلك رجعنا إلى وقتِ وقَدر العادةِ الماضية من الشَّهر الماضي، فيكون أيام ما كانَ حيضًا في الشهر الماضي فهي الآن حيض في هذا الشَّهر، وما لم يكن حيض في الشَّهر الماضي فهو طُهرٌ الآن في هذا الشهر وهكذا.
وأَما إذا كانت مُمَيزِة، فالشَّافعية يُقدِّمون التميّيز على مُجرد العادة، إذا كانت عادتها مثلًا خمسة من أول كل شهر وباقي الأيام طُهر، استُحيضت رأت عشرة سَواد من أول الشهر، والباقي حُمرة مثلًا، فإذًا العشر السَواد كلها لا يمكن نُفرّق بَينها، فيُقَدم التميّيزُ على العادة فتكون في العشر الأيام محكوم بحيضها، وما زاد على ذلك فهو طُهرٌ. ومهما كانت مُمَيزِة،
فترجِع الى التميّيز؛ وهو: أنَّ القويّ حَيض، والضعيفُ إستحاضة.
كذلك جاء التفصيل عند الحنابلة، نفس الشيء ذكروا:
فالمُمَيزَة: التي تُفرق بين أحوال الدّم، التي دمها إقبال و إِدبار، فالأَقوى منهُ أيضًا يكون هو الحيض، ما دام لا يزيد على خمسة عشر يوم ولا ينقُص عن اليومِ والليلة.
والتي لها عادة ولا تَميّيز لها: يكون دمها غير مُنفصل على صفة، لا تختلف لا يَتميّز بعضُه عن بعض، لكن إذا كانَ الدّم الذي يَصلُح للحيض دون أقل الحيض أو فوق أكثره، فهذه لا تُعتبر مُمَيزِة عندهم.
فإذا كانت لها عادة قبل أن تُستحاض: جلست أيام عادتها واغتسلتْ عند إِنقضائها وتتوضأ لكل صلاة بعد ذلك.
ومن لها عادة وتَميّيز: استُحيضت ودمُها مُتميّز؛ فإذا كانَ الأسود في زمن العادة، اتفقت العادة والتمييز في الدلالة يُعمل بها، وإن كانَ أكثر من العادة أو أقل، ولكن يَصلُح أن يكون حيضًا فجاءت روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل:
وأَما التي لا عادة لها ولا تَمّييز، فهذهِ عِندهم فيها كلام طويل وتفصيل، وأرجعها الشافعية إلى الاحتياط، بالنسبة للصلاة مقدار أَقل الحيض، والاحتياط بالنسبة للمَعاشر وغيرها، مقدار أَكثر الحيض إلى غير ذلك مما يأتي في ضمن بعض الأحاديث تفصيل ذلك.
ثم أوردَ لنا أيضًا حديث "زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا رَأَتْ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي". تَغتسل وتُصلي؛ يعني: أنها تَتكرر عليها الاستحاضة على الاحتمال. وجاءَ في بعض الروايات عند المالكية أنَّه وقت الدّم ولو يَسير يُعدُ من الحيضة. فالاستحاضة تكون حدث أصغر، لا تسقط بها الصَّلاة، ولا تمنع صحة الصَّلاة لأجل الضرورة؛ وكذلكَ تصوم، فعِندهم حُكمها كَحكم الرّعاف. وهكذا يقول الشافعية والحنابلة: لا تمنع المُستحاضة عن شيء حُكمها حُكم الطَّاهرات في وجوب العبادات.
وهكذا جاءت روايتان عن الإِمام أحمد فيما يتعلق بمُعاشرة زوجها،
قال الشافعية والحنابلة: عليها الاحتياط في طهارتيَّ الحدث والنَّجس، تَغسل عنها الدّم، وتَحشي بقطن أو خُرقة؛ هذا الإِستثفار المذكور في الحديث، ويقولون له التَّعصيب الشافعية، وحينئذٍ تأخذ بالإِحتياط. وأوردَ لنا حديث: "ابْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ الْمُسْتَحَاضَةُ، فَقَالَ: تَغْتَسِلُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ، فَإِنْ غَلَبَهَا الدَّمُ أسْتَثْفَرَتْ".
ثم أوردَ لنا حديث: "هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ إِلاَّ أَنْ تَغْتَسِلَ غُسْلاً وَاحِداً، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلاَةٍ". "قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ." الوقت الذي يُحكم فيها بالطّهارة من الحيض، عليها أَن تَغتسل، وما عدا ذلك فتتوضأ لكل صلاة؛ فيجب أَن يكون وضوءها بعد دخول الوقت، وأَن توالي بين أفعال الوضوء، وبين الوضوء والصلاة.
وأوردَ لنا أيضًا حديث: "أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدِّمَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "لِتَنْظُرْ إِلَى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفر بِثَوْبٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّي"
وفيه ربطُ المُسلم والمُسلمة بشأن الشَّريعة في أحوالِهم المختلفة، وَصِلتُهم بالتطبيق لأمرِ الله ووحْيه في شؤونهم وأحوالهم. ثم ينتقل الى بابِ بولِ الصَّبي وما جاء في النجاسة المُخففة، والله اعلم.
الفاتحة أنَّ الله يُحيِّي فينَا وفي المُسلمين حقائق الإيمان واليقين، ويجعلنا في خواص الهُداة المُهتدين الُمترقين أَعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وأَن يرزقنا كمالَ الطُهر في السَّر والجَهر، ويُنَقينا عن الشوائب والأقذار، ويتولّانا بما تولّى به عباده الأخيار، ويسلك بنا مسالك الصالحين الأبرار، ويختم لنا بالحُسنى وهو راضٍ عنَّا والى حضرةَ النَّبي مُحمد ﷺ.
23 ذو الحِجّة 1441