شرح المُوطَّأ - 332 - كتاب البيوع: باب ما يُكره مِن بَيْعِ التمر

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ.
فجر الأحد 19 رجب 1443هـ.
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ
1830 - حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ". فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَامِلَكَ عَلَى خَيْبَرَ يَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ادْعُوهُ لِي". فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ؟". فَقَالَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ يَبِيعُونَنِي الْجَنِيبَ بِالْجَمْعِ صَاعاً بِصَاعٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً".
1831 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟". فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا، بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً".
1832 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ زَيْداً أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْبَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْبَيْضَاءُ. فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ سَعْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُسْأَلُ عَنِ اشْتِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟". فَقَالُوا: نَعَمْ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
نص الدرس مكتوب:
الحَمدُ لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته، عبده وحبيبه وصفوته سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم في كل لحظة ونفس عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته عليه، وعلى آله وصحابته وأهل مودته ومتابعته وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .
ويذكر سيدنا الإمام مَالِك -عليه رحمة الله- في هذا الباب ما يتعلّق ببيع التمر أو الثمر، وقد جاءت النسختان، "باب مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ"، "باب ما يُكره من بيع الثمر"، والحكم واحد في ذلك، وذلك أن بيع البر بالبر والذرة بالذرة والشعير بالشعير كلها الأجناس التي وردت عنه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، من "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح"، ستة أشياء منصوص عليها في الحديث، لا يجوز بيعها ببعضها البعض، إلا "مثلاً بمثل" إذا اتحد الجنس "سواءً بسواء يدًا بيد".
فصار هناك الأطعمة والنقود، جُعل التعامل بها يتطرّق إليه الربا بأنواعٍ ثلاثة:
-
ربا يسمى ربا الفضل وهو الزيادة.
-
والربا الثاني يسمى ربا اليد.
-
والربا الثالث يسمى ربا النسيئة.
فهذا يدخل في هذه الأشياء
-
بعلة النقدية والطعمية عند الشافعية.
-
بعلة الكيل والوزن عند الحنفية، فإن الحكم عندهم يشمل كل مَكيلً وموزون.
فما يُكال وما يُوزن إن كان من جنس واحد فلا يصح بيع بعضه ببعض إلا بالثلاثة الشروط:
-
وهي التساوي.
-
وأن يكون منَجّز غير مؤجل.
-
وأن يَتَقابضا في المجلس قبل أن يتفرقا "يدًا بيد".
ثلاثة شروط.
-
فإذا اختل الشرط الأول وباع بر ببر صاع بصاعين أو ثلاثة بصاعين، فاختلف المقدار فهذا ربا الفضل، أي ربا الزيادة وهو حرام لا يجوز بيع بر ببر ولا ذرة بذرة ولا ذهب بذهب ولا فضة بفضة إلا متساويين.
-
وإن نقص الشرط الثاني وهو التنجيز؛ أن لا يكون نسيئة؛ بأن يقول بعتك هذا الذهب بذهب تأتيني به في يوم كذا أو بعد يوم كذا هذا نسيئة، بعتك هذا الطعام بطعام تأتيني به في الشهر القادم هذا ربا النسيئة، لا يجوز؛ بيع إلى أجل لا نقد بنقد ولا طعام بطعام، لا يجوز أن يكون مؤجلاً، فهذا إذا نقص فهو ربا النسيئة.
-
وإن باع تمر بتمر أو بر ببر أو أي مطعوم بمطعوم أو نقد بنقد، ولم يذكر نسيئة ولكن تفرّقا من المجلس قبل أن يتقابضا؛ واحد قبض والثاني عاده ما قبض فهذا ربا اليد.
فهذه ثلاثة أنواع الربا: ربا الفضل، وربا النسيئة، وربا اليد.
ثم هناك نوع رابع لا دخل له في الطعمية ولا في الكيل والوزن يسمى: ربا القرض، وهو: أن يستقرض الإنسان من إنسان شيئًا على أن يؤدي إليه ويرجع إليه أكثر منه، فهذا ربا القرض يدخل تحت دائرة ما ورد: "كل قرض جرّ منفعة فهو ربا"، وفي الحديث: "الربا اثنان وستون بابًا أدناها" وأيسرها "مثل إتيان الرجل أمه" -والعياذ بالله- أي: إثمها، "وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه" المسلم.
وهذا الربا الذي اشتغل اليهود بنشره بين الناس، حتى جاء مصداق حديث نبينا "ليأتين على الناس زمان لا يبقى مِنْهُمْ أَحَدٌ إلا أكل الرِّبَا فإِن لم يَأْكُله أَصَابَه مِن غُبَارِهِ". وجاؤوا بنظامهم الاقتصادي -كما يسمونه- يحاربون به مناهج الله، وقد لُعنوا سابقا بأخذهم الربا وقد نُهوا عنه، ونشروه بين المسلمين نشرًا عظيمًا، حتى أقاموا مراكز معاملات ربوية بجوانب المساجد، بل بجانب الحرم، البنك السعودي الأمريكي، والبنك السعودي الفرنسي،… يُشهرونها ويكتبون اللوائح عليها، معاملات ربا خالص بجوانب بيت الله!.. مصائب أصابت الأمة ونازلتهم ودواهي دهتهم، فرّج الله عليهم وكشف الضرّ عنهم .
فشأن الربا شنيع، وهو كما اعتنى أيضا هذا الصنف من اليهود، لا كل اليهود، ولكن صنف من اليهود، صنف من النصارى، صنف من اللادينيين يسمون نفسهم علمانيين أو ملحدين، صنف منهم ابتلى الله قلوبهم ببغض الحق وأهل الحق وإرادة إفساد الخلق، فهو غاية مطلبهم يفكرون ليل ونهار فيه، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء:27]، ما حد كلمهم ما حد أخذ شيء عليهم، لكن مرادهم يفسدون الخلق، لهم غرض في الإفساد، وفي قطع الخلق عن ربهم، وفي معاداة دين الحق -جل جلاله وتعالى في علاه-، فدفع الله شرهم عنا وعن المسلمين.
اعتنوا أيضًا بنشر محاربة الأولياء ومعاداتهم بأي صورة، وأنزلوها إلى فئات من المسلمين، توصّلوا إلى تفكيرهم ونظرهم، فتكلموا باسم الدين بما يُعادون به أولياء الله وأصفياء الله، -والعياذ بالله- أحياءً وأمواتًا، وربما خطبوا على المنابر في سبّهم! وذلك أن الخَصلتين هاتين هما اللتان توعد الله عليهما بالحرب:
-
آكل الربا
-
ومعاداة الأولياء
-
فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة:278-279].
-
وقال في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن النبي عن الحق تعالى: "مَن عادَى لي وليًّا فقد آذنْتُه بالحَربِ".
فأوقعوا الخلق مساكين في محاربة جبار السموات والأرض بالربا وسبّ الأولياء. وانتشر في زماننا انتشار ذريع الربا ومعاداة الأولياء، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فحلّ على الخلق حرب من الجبار، فانظر كيف أحوالهم، وانظر ما يجري لهم، وانظر ماذا ينزل عليهم، ويا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال.
فتقصّدوا مع رأسهم إبليس الصفات التي تُوعِّد عليها حرب رب العرش جبار السموات والأرض، فنشروها بين الناس ليقعوا في حرب الجبار الأعلى، -والعياذ بالله تعالى- ومن حاربه الجبار فمن له في دنياه أو عند موته أو في برزخه؟ من له؟ والعياذ بالله تبارك وتعالى!.. ولذا لا يموت مُستحل الربا، وآخذه بغير مبالاة، ولا السابّ للأولياء المبغض لهم إلا على غير الملة، ما حد يموت على حُسن الخاتمة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، لأن الله يحاربهم فسيأتي بحُسن خاتمة من عند من؟ الله يحاربهم فبجيبها من عند من؟ من عند أمه؟ من عند أبوه؟ من عند حزبه؟ من أين بيجيب حسن الخاتمة والجبار يحاربه! -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فالله يفرج على المسلمين ويوقظ قلوبهم وعقولهم.
نشروا هذا الربا، وهو كما سمعت شعب كثيرة في الحديث الشريف، ورؤوسه هذه الأربعة الأنواع: ربا النسيئة، ربا الفضل، ربا اليد، ربا القرض. وبذاك خافوا على من أقرض إنسان متاع أو أواني أو دراهم، ثم قال: له خذ حاجتي هذه وصّلها إلى البيت، أن يكون مرابي؛ لأنه أخذ مقابل هذا الدين أيضًا يوصّل له حاجته فزاده منفعة، و "كل قرض جر منفعة فهو ربا"، ما لك إلا ما سلمته له لا تستخدمه ولا تشترط عليه شيء ولا لك إلا مقدار ما أخذ منك يرده عليك، (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)[البقرة:279]، بيّن ﷺ هذه الأحكام.
وذكر لنا الإمام مَالِك -عليه رضوان الله- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ"، لا تقول التمر أنواع، مهما كان أنواع، إذا أصل اسمها واحد ما يجوز بيع بعضها ببعض إلا متساوية، إن كنت تحب هذا النوع فبِعه بمثله من النوع الثاني، وإلا فبِع هذا بثمن من الدراهم، وهذا بثمن آخر، واشتر هذا بثمن، أما بيع تمر بتمر مع التفاضل فهو ربا الفضل؛ حرام؛ ما يجوز. "التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَامِلَكَ عَلَى خَيْبَرَ" يُقال له: سواد بن غزية من حليف بني عدي بن النجار، "إِنَّ عَامِلَكَ عَلَى خَيْبَرَ" الذي وليته على النظر في تمر خيبر هناك وثمرها، "يَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ادْعُوهُ لِي" هاتوه، "فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتَأْخُذُ الصَّاعَ" يعني: التمر "بِالصَّاعَيْنِ؟". فَقَالَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ يَبِيعُونَنِي الْجَنِيبَ"؛ نوع ممتاز من التمر موجود في خيبر، "لاَ يَبِيعُونَنِي الْجَنِيبَ بِالْجَمْعِ"؛ يعني: تمر مختلط من أنواع أخرى غير الجنيب أو رديء، "لاَ يَبِيعُونَنِي الْجَنِيبَ بِالْجَمْعِ صَاعاً بِصَاعٍ" ما يرضون، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بِعِ الْجَمْعَ" الذي عندك هذا من التمر المختلط والتمر الرديء "بِالدَّرَاهِمِ" أول بعه بكذا كذا درهم، " ثُمَّ ابْتَعْ" اشتري "بِالدَّرَاهِمِ" التي معك "جَنِيباً"، اشتري من التمر الذي تحبه هذا النوع الجنيب بالدراهم، تبلغ ما بلغت تجيب لك قليل كثير...فعلّمه ﷺ كيف يتخلص من الربا ويبيع بالنقد.
قال أهل العلم فإذا تمّ ذلك من دون مواطأة، مثلا يقول له: اسمع أنا سأشتري منك هذا بكذا، لكني سأبيع عليك هذا بكذا؛ يتواطئون قبل، فهذا إذا لم يكن بمواطئة حلال باتفاق، جائز باتفاق. فإن كان بمواطئة منهم يقول أنا سأبيع عليك وأنت بع عليّ بكذا وأنا سأشتري..
-
فقال الإمام مالك والإمام أحمد: ما يجوز؛ لأن في هذا تحيّل.
-
ووجه فيه بعض أقوال مالك: قال إنه مرة يجوز، وأكثر من مرة: ما يجوز لأنه فيه حيلة الربا.
القصد إذا كان بالتواطؤ، أما من غير التواطؤ فحلال باتفاق، لأنه بإرشاده ﷺ وبتعليمه؛ قال له: "بِعِ الْجَمْعَ"؛ يعني: التمر المختلط عندك، "بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً"؛ فلا إشكال أن تبيع الصاع عندك من التمر بدرهم، ثم تشتري الصاع من الجنيب بدرهمين؛ ما عليك، إنما هذا بثمن وهذا بثمن .
فهكذا صار الفرق بين الحلال والحرام أمر يسير، ولذا قال سيدنا عمر: "من لم يتفقه في ديننا فلا يبِع في سوقنا". وقال بعض السلف: من اشتغل بالتجارة دون أن يتفقّه في الدين فقد ارتطم في الربا ثم ارتطم!.. يقع في المعاملات الفاسدة، ويقع في الربا من حيث لا يشعر! فلهذا يجب تقديم فقه الدين وإرشاد خاتم النبيين ﷺ في كيفية البيع والشراء.
ثم إنه لم يرد في نفس هذا الحديث أمره برد السابق، ولكن جاء في روايات أخرى عند سيدنا بلال وغيره، أنه لما ابتاع صاع بصاعين قال ﷺ: "ردّ علينا تمرنا" وردّ عليهم تمرهم.
إذا اختلف النوع بأن يبيع تمر ببُر، اختلف نوع المطعوم، ذهب بفضة اختلف النوع، يبيع شعير بأرُز اختلف النوع،
-
إذا اختلف النوع يجوز التفاضل؛ بأن يكون مقدار هذا أكثر من هذا، ولكن:
-
من دون النسيئة
-
ومع التقابض في المجلس؛ يتقابضون في المجلس.
-
ولهذا ما يعمله كثير من الناس لما يريد يشتري الذهب في زواج بنته أو غيره، يروح إلى عند الصائغ ويقول: هات وأجيب لك بعدين الفلوس، هذا نقد بنقد ما يجوز بيعه إلا يد بيد، لا بأس أن تأخذه ترَيه أهلك يختارون منه، ولكن ترجعه لصاحبه وتستلمه منه عند البيع مع القيمة كاملة من دون نسيئة فيه، ما يصح بيع النسيئة في نقد بنقد، بل لا بد أن يكون يد بيد.
بيع النقد بالنقد والمطعوم بالمطعوم، فإن اختلف الجنس جاز التفاضل، ولكن لا بد من الحلول والتقابض؛ يعني: يبيعه حالًّا منَجّزا، وأن يتقابضا في المجلس.
فإذا اختلفت الأنواع فلا بأس بالتفاضل.
-
لكن قال الإمام مالك: إن البر والشعير يتساويان في المنفعة فهما جنس واحد؛ فعنده لا يُباع البر بالشعير إلا مثلًا بمثل.
-
ولكن بقية الأئمة قالوا: لا، هذا نوع وهذا نوع آخر فإن اسمه من الأصل غير اسم هذا.
-
وتوسع سعيد ابن المسيب -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فقال: كل شيء يتقارب الانتفاع بهما فلا يجوز فيهما التفاضل، حتى الحنطة بالشعير والتمر بالزبيب، فإن تقارب نفعهما فجريا مجرى الجنس الواحد.
-
لكن قال الأئمة الثلاثة: كل ما سُمّي من الأصل باسم مستقل غير اسم الثاني، فهو نوع ثاني فلا يجوز التفاضل فيه، وإنما يلزم الحلول والتقابض.
إذًا؛
-
فالتساوي فيما إذا اتحد الجنس.
-
والحلول والتقابض لازم في بيع كل مطعوم بمطعوم وكل نقد بنقد؛ لا بد من حلول، يعني غير مؤجل وأن يتقابضا في نفس المجلس.
يقول: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً"؛ هذا الذي يقال له سواد بن غزية من بني عدي، "عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ" من النوع الممتاز الطيب، فقلبه ﷺ بيده ورأى حسن التمر، قال: "أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا، بِالصَّاعَيْنِ"؛ يعني: من الجمع؛ النوع الثاني المختلط، "وَالصَّاعَيْنِ" من مثل هذا، "بِالثَّلاَثَةِ" من الأدنى، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَفْعَلْ"؛ أي: لا يجوز هذا فهو تفاضل محرم في بيع جنس واحد من المطعومات، "بِعِ الْجَمْعَ"؛ يعني: التمر الرديء الذي عندك أو المختلط، "بِالدَّرَاهِمِ" أولًا، "ثُمَّ ابْتَعْ" اشتري، "بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً" لئلا يدخل الربا عليك. وهذا الحديث أيضًا في الصحيحين وغيرهما.
يقول: "أَنَّ زَيْداً أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْبَيْضَاءِ"؛ يعني: بيع البيضاء؛ الشعير، "بِالسُّلْتِ"؛ السُلت: حب من الحنطة، بين الحنطة والشعير نوع اسمه السُلت، ما له قشر أشبه بالحنطة في ملاسته، وأشبه بالشعير في طبعه، لكن الشعير عليه قشر وهذا نوع من الطعام سُلت ما عليه قشر، "فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْبَيْضَاءُ" أفضل من الشعير، "فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ"؛ عن بيعها متفاضلًا.
-
وهذا مذهب الإمام مالك: أنه الشعير مثل البُّر متساويين في النفع فهما جنس واحد.
-
وعلمت ما قول الأئمة الثلاثة: أنهما جنسان مختلفان.
"وَقَالَ سَعْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُسْأَلُ عَنِ اشْتِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ."؛ قال: لا؛ فما يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لأنه ما تتأتى فيه المساواة، لكن يبيع الرطب بدراهم، نعم، ويشتري التمر بدراهم نعم، أما يبيع الرطب بالتمر فإنه لا يتأتى التساوي فيه فيكون باطل ولا يجوز؛ وفيه الربا.
يذكرون قول أبي حنيفة في جواز بيع التمر بالرطب، ولكن صاحباه قالوا: لا يجوز، وعليه الفتوى عندهم؛ أنه ما يجوز؛ ما يجوز بيع الرطب بالتمر، ولا التمر بالرطب.
رزقنا الله اتباع نبيّه المصطفى، والعمل بما جاء به في الظاهر والخفاء، و أصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصالحين، ورقّانا إلى أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين، وكفانا ما أهمّنا من أمر الدارين، وحلّانا بكل زين وخلّانا عن كل شين، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
22 رَجب 1443