(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب طُهْرُ الحائِضِ، وباب جامع الْحَيْضَةِ.
فجر الأحد 19 ذي الحجة 1441هـ.
باب طُهْرِ الْحَائِضِ
152 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ مَوْلاَةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ، فِيهَا الْكُرْسُفُ، فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلاَةِ، فَتَقُولُ لَهُنَّ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ.
153 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، عَنِ ابْنَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ بَلَغَهَا، أَنَّ نِسَاءً كُنَّ يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْر، فَكَانَتْ تَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ وَتَقُول: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا.
154- وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْحَائِضِ تَطْهُرُ فَلاَ تَجِدُ مَاءً، هَلْ تَتَيَمَّمُ؟ قَالَ نَعَمْ: لِتَتَيَمَّمْ، فَإِنَّ مِثْلَهَا مِثْلُ الْجُنُبِ، إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ.
باب جَامِعِ الْحَيْضَةِ
155 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا تَدَعُ الصَّلاَةَ.
156 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ؟ قَالَ: تَكُفُّ عَنِ الصَّلاَةِ.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
157 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا حَائِضٌ.
158 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ فِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ".
الحمد لله مُبَيِّن أحكام الشريعة، على لسان عبده المصطفى محمد المرتقي أعلى المراتب الرفيعة، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المجتبى سيدنا محمد ذي الوجاهات الوسيعة، وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل العرفان، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا رحمَن.
أما بعد..
فيواصل الشيخ -عليه رحمة الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالحيض والطهر من الحيض، فيقول: "باب طُهْرِ الْحَائِضِ"؛ أي: كيف يُعلَم طهارتها من الحيض وانقضاء الحيض؟ وما العلامة على ذلك؟
يقول مالك: "عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ مَوْلاَةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ.." ويُروى فيه: "الدُّرْجَة" تأنيث دُرْج، والدِّرَجَة جمع دُرْج، بالدِّرَجَة يبعثن بها؛ وهو الشيء الذي يُدْرَجُ فيه الأمر ويُلَف، والمراد به: وعاء تضع فيه المرأة خُفَّ متاعها و طيبها، لكن قال: "فِيهَا الْكُرْسُفُ" والمراد بالكرسف: القطن الصوف، "فِيهَا الْكُرْسُفُ، فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلاَةِ،" هل يُصَلِّين أم لا؟ "فَتَقُولُ لَهُنَّ : لاَ تَعْجَلْنَ" فتَحْكُمنَ بالطُّهر "حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ. تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ." وهو ما يندفع إذا انقطع الحيض من الماء الأبيض فهذا دليل حصول الطُّهر تامًا، ففيه بيان حكم الصُّفرة والكُدرة أهي حيضٌ أم لا؟
فإن اتصلت بالحيض؛ فقد قال جماعة من أهل العلم أنَّها من جملة الحيض، وهكذا يقول الشافعية: والصُفرة والكُدرة حيضٌ في الأصح. وكذلك وعند الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وفي الحديث ما يدل على أنّه يُمكن أن تعتبر من الحيض إذا تمّ شرطه وهو: مرور اليوم والليلة ولو كان في الابتداء.
والقول الثاني عند الشافعية كما جاء عند الحنفية والحنابلة: أنّ الكُدرة والصُفرة ليسا بحيضٍ في غير أيام الحيض، ولكن لم يُفَرِّق الشافعية والمالكية بين أن تكون في أيام الحيض و في غير أيام الحيض؛ فإذا استمر الصُفرة أو الكُدرة يوم وليلة فهي حيض، وإن لم يصحبها دمٌ قبلها أو بعدها.
وروى مالك "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، عَنِ ابْنَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ بَلَغَهَا، أَنَّ نِسَاءً كُنَّ يَدْعُونَ" يدعونَ: هذا نون النسوة والواو من أصل الكلمة، كما قال الله تعالى : (إِلَّا أَن يَعْفُونَ) -يعني: النساء- (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [البقرة:237]. وكان النساء "يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ" أي: يطلُبن حضور المصابيح وهو السراج "مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْر، فَكَانَتْ" يعني: ابنة زيد "تَعِيبُ ذَلِكَ" التكلّف "عَلَيْهِنَّ وَتَقُولُ : مَا كَانَ النِّسَاءُ" يعني: نساء الصحابة في العهد الماضي "يَصْنَعْنَ هَذَا."، وإنما المرجعية والعبرة بذلك الرعيل الأول، فَهُنَّ أفقه في الدين وأوثق وأورع في العمل بمحبوبات الحق -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، فمرجع الأمة إلى رعيلها الأول -عليهم الرضوان- كما قال الرحمن: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ..) [التوبه:100].
فاستدلت بأنَهُنَّ ما كُنَّ يصنعن ذلك، إنَّ ليس هذا من باب الورع والاحتياط في الدين بل من باب التكلُّف؛ وذلك أنّه إنّما يلزم المرأة أن تتفقد طهرها في أوقات صلاتها، وأمّا أن تقوم في أثناء الليل وتتأكد فما ذلك بمحلِّ صلاة غالبًا إلا أن تكون تعتاد أن تطهُر في نصف الليل أو آخر الليل من أجل صلاة العشاء فلا بأس عندئذٍ بالنظر، وأما إن لم يكن كذلك فلا معنى لهذا التكلف و يكفي أن تعلم أنها وقت العشاء قبل نومها ليست بطاهرة، وليست تعتاد الطهر في أثناء الليل غالبًا، ثم إذا جاء وقت الصبح فتتأكد أيضًا من أجل صلاة الصبح إذا توقعت طهرها؛ من أجل أن تدرك صلاة الصبح. فعابت عليهنَّ التكلف في القيام بالليل والدعاء بالمصابيح لأجل نظر الطهر، هل طهُرت أم لا؟ فَقُلنَا هذا في غير المعتاد أن تطهُر أثناء الليل، نوعٌ من التكلف المذموم لذلك عابت عليهن ذلك، فكانت تعيب ذلك لَهُنَّ و تقول: "مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا.".
وجاء: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْحَائِضِ تَطْهُرُ فَلاَ تَجِدُ مَاءً، هَلْ تَتَيَمَّمُ ؟ قَالَ نَعَمْ : لِتَتَيَمَّمْ، فَإِنَّ مِثْلَهَا مِثْلُ الْجُنُبِ، إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ." وهذا أمرٌ أيضًا متفق عليه؛ أنّها إذا لم تجد الماء فحكمها حكم الجُنُبْ أنَّها تتيمم و تصلي، وتتيمم وتستبيح ما يُباح بالغسل إلى أن تجد الماء، "قَالَ نَعَمْ: لِتَتَيَمَّمْ،" فجعله قياسًا على تيمّم الجُنُبْ، وقد صَحَّتْ في ذلك الأحاديث، وكلاهما حدثٌ أكبر وكلاهما يُستباح به الصلاة.
ثم ذكر في باب جَامِعِ الْحَيْضَةِ: "أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا تَدَعُ الصَّلاَةَ". هل تحيض الحامل أم لا؟ "قَالَتْ: فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ" التي عندها الحمل "تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا تَدَعُ" أي: تترك "الصَّلاَةَ"،
والأصحُّ أن الحامل تحيض، وكذلك مذهب الإمام مالك أن الحامل تحيض. ولكن رأى الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل: أنَّها لو رأت دمًا لكان شيئًا غير الحيض -من الدم- وأنها عليها أن تصلي، وفي رواية بعضهم: أن تغتسل وتصلي، فإنه دم فساد لا دم حيض يكون عند الحامل.
و يروي الحديث: "فِي الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا تَدَعُ الصَّلاَةَ". ذلك بأنَّ دمها دم حيض، يُحكم له بإسقاط فرض الصلاة ومنع الصلاة. علمنا قول الإمام أبي حنيفة أنَّه دم فساد وليس بدم حيض فلا تدع الصلاة ولا الصوم.
وبذلك كان في مثل هذه الحالة الورع والاحتياط والجمع بين الأقوال بأن تغتسل وتصلي ولا يقربها زوجها، وتقضي الصوم الذي صامته بهذا للجمع بين كلام الفقهاء والأمر فيه سَعة. وعَلِمنا معتمد الشافعية والمالكية: أنَّه حيض.
إذًا، فقام الاختلاف في دم الحامل فيرى الحنفية والحنابلة: أنه دم عِلَّة وفساد ليس بدم حيض، ولهم استدلال بأنّه جعل الاستبراء ﷺ إمّا بالحيضة وإمّا بوضع الحمل؛ فمعناه: أنَّ الحامل لا تحيض، ورَدُّوا عليهم في الاستدلال بذلك، واستدلالهم كذلك بقوله ﷺ: لمَّا طلَّق ابن عمر زوجته فقال لأبيه: مُرْهُ فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا، جعل الحمل عَلَم على عدم الحيض كالطُهر.
"عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ؟ قَالَ : تَكُفُّ عَنِ الصَّلاَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا." عليه مذهب الإمام عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
"عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا حَائِضٌ"؛ أي: أُمشطه له، و فيه استعمال النبي ﷺ لتمشيط الرأس، وعلى ذلك يُعلم أن قوله في البذاذة أنها من الإيمان، أنها ترك المبالغة والصَّلَفْ والزيادة في طلب النظافة وتحسين الهيئة، أما ما كان معتدلًا من ذلك فهو من الهَديْ النبوي الشريف وهو من فعل الصالحين، وليس تَعَمُّدُ ترك تسريح الشعر أو نحو ذلك، ليس تَعَمُّدْ ذلك من الزُّهد، وليس ذلك بلازم لأرباب المقاصد العُلى و السالكين في المسالك.
"كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا حَائِضٌ" و جاء في الترجيل: أن تَبُلَّ الشعر ثم تُمَشِّط، وجاء في الروايات أنَّه كان يكون في المسجد، ثم أنّه من الباب الذي يخرج إلى مدخل حجرته ﷺ تأتي السيدة عائشة -عليها الرضوان- فَيَمُدُّ رأسه لها لتمشِّط شعره الشريف، وقالت له في أول مرة، قالت: إنّي حائض، قال: إنّ حيضتك ليست في يديك. فهي لم تدخل المسجد ولكن أدنى رأسه وفي ذلك أخذوا، و أنّ المعتكف إذا خرج من المسجد بعض أجزائه كرأسٍ أو يدٍ أو نحو ذلك لا يخرج عن الاعتكاف، ولا يخرج عن كونه في المسجد.
وفيه أيضًا معاشرة المسلمين للحائض خِلاف اليهود، فإنّما حرّم الله -تبارك وتعالى- جِمَاعَها فقط على زوجها وما عدا ذلك فلا. وسبق معنا الحُكم فيما بين السُرَّة والركبة، والاختلاف في حرمة الاستمتاع بذلك.
وأمّا اليهود فكانوا لا يؤاكلوهُنَّ ولا يشارِبوهُنَّ ولا يجلسون معَهُنَّ في غرفة، فذلك مما أحدثوه على غير بصيرة ولم يأمرهم به سيدنا موسى ولا غيره، فبذلك أيضًا جاء الشرع المصون وفيه أن تطبخ وأن تُعدَّ الطعام و أن يُؤكل معها وأن يُقَدَّم لها، وأن تُمَشِّط إلى غير ذلك كما هو واضح وبَيِّنْ في دائرة المسلمين.
فَتَرْجِلُ: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه، يقولون: سرَّحته مشَّطته، والتَرْجِيل يقولوا أخَصْ من التمشيط؛ لأنه يراعى فيه الزيادة في الإتقان أو الإحسان أو قد يستعمل ما يُبَلَّل به الشعر، ويُقال عن التسريح: أنّه إرسال الشعر وحَلَّه قبل المَشْط، على هذا يكون التسريح مغاير للتَرْجِيل و كذلك غير التمشيط، فأولًا: يُسَرَّحْ بأن يُنفَش ويُرْسَلْ ثم يُمشَّط وإذا أحسن التمشيط قيل له تَرْجِيل؛ تَرجِيل الشَعرْ. وكان يحب أن يبدأ في الترجيل بالجانب الأيمن ﷺ فيُرَجِّلُ شعر رأسه الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، كان يحب التَيمُّن في شأنه كله كما قالت السيدة عائشة: "في طُهورِه، وتنعُّلِه، وترجُّلِه"؛ يعني تسريح شعره ﷺ.
وفي الرواية التي ذكرناها أنَّه كان يكون في المسجد في أيام اعتكافه؛ بيان أنَّه لا يُكره للمعتكف إلا ما يُكره فعله في المسجد، يجوز له تَرْجِيل شعره "يُصغِي إلَيَّ رأسه وهو مجاورٌ في المسجد فأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ" تقول أم المؤمنين رضي الله عنها.
ورأى بعض المالكية أن التَرْجِيل ينبغي أن يكون خارج المسجد؛ حتى لا يتساقط منه الشعر في المسجد، وأخذوا من الحديث أنه يُدني رأسه فيُخرجه من حدود المسجد فتُرَجِّلَه الحائض، ولكن الرأس خارج عن حدود المسجد؛ خشية أن يتساقط شيء من الشعر في المسجد الشريف.
وجاء: "عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ فِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ لِتُصَلِّي فِيهِ". فجاء في هذا الحديث نجاسة الدم، وأنّه يجب تطهيره من أجل الصلاة، فيجب غسل النجاسات من الثياب التي يُصلَّى فيها، كما نصّ عليه عندنا في الحديث، وإن كان يُعفى عن اليسير من الدم،
وقالوا عن اليسير: أنّه ما لا يَفْحُشُ في نفس كلِّ أحد بِحَسَبِه، فما لا يَفْحُشُ عنده في نظره فهو يسير وما يَفْحُشْ ويستَثقله فهو كثير. وعَلِمْتَ تقدير غيرهم بمقدار درهم، حتى ولو كان مفرقًا؛ يُنْظَر إذا جُمِعَ هل يصير أكثر من مقدار حلقة الدرهم؟ فإن كان أكثر من ذلك صار غير معفوٌ عنه، وفي المسألة الثانية لا بد من استعمال الماء لإزالة النجاسة وهو مذهب الأئمة الثلاثة.
ثم قال: "ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِالْمَاءِ" فهكذا قال الأئمة الثلاثة: لا تُزال النجاسة إلا بالماء، مع قول الإمام أبو حنيفة أن النجاسة تُزال بكل مائع غير الأدهان، أمّا رفع الحدث فباتفاق الأئمة الأربعة لا يَصِحُّ إلا بالماء، ولا يمكن بأيِّ مائع أن يتوضأ ولا أن يغتسل ولكن بخصوص الماء، فالماء هو الأصل في التطهير كما وُصف بذلك في الكتاب العزيز وفي السُّنة المُطهرة، قال تعالى: (..وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ..)، (..وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48]، ويقول سبحانه وتعالى: (..وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ..) [الأنفال:11]. قال ﷺ: "الماء طهورٌ لا يُنَجِّسُه شيءٌ، إلَّا ما غَلَبَ على رِيحِه وطَعْمِه ولَونِه"، وقال في ماء البحر: "هو الطهورُ ماؤُه ، الحِلُّ ميتتُه"، في البحر "هو الطهورُ ماؤُه ، الحلُّ ميتتُه "، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وتَحكيمَ ما جاء في الشريعة وبَيَّنَهُ لنا حبيبه سيّد أهل الإمامة، ورزقنا النقاء والطهارة، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون المحبوبين من عباده وأهل وداده في عافية، بِسِرِّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
23 ذو الحِجّة 1441