(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب تيَمُّم الجُنُب، وباب ما يَحِلُّ للرَّجُل من امرأته وهي حائِض.
فجر السبت 18 ذي الحجة 1441هـ.
باب تَيَمُّمِ الْجُنُبِ
145 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، عَنِ الرَّجُلِ الْجُنُبِ يَتَيَمَّمُ، ثُمَّ يُدْرِكُ الْمَاءَ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِذَا أَدْرَكَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ.
146 - قَالَ مَالِكٌ فِيمَنِ احْتَلَمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، وَلاَ يَقْدِرُ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ عَلَى قَدْرِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ لاَ يَعْطَشُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَاءَ، قَالَ : يَغْسِلُ بِذَلِكَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ الأَذَى، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ صَعِيداً طَيِّباً كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ.
145 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ جُنُبٍ، أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ، فَلَمْ يَجِدْ تُرَاباً إِلاَّ تُرَابَ سَبَخَةٍ، هَلْ يَتَيَمَّمُ بِالسِّبَاخِ، وَهَلْ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي السِّبَاخِ ؟ قَالَ مَالِكٌ : لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ فِي السِّبَاخِ، وَالتَّيَمُّمِ مِنْهَا، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة:6] فَكُلُّ مَا كَانَ صَعِيداً، فَهُوَ يُتَيَمَّمُ بِهِ, سِبَاخاً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
باب مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ
148 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلاَهَا".
149 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ مُضْطَجِعَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهَا قَدْ وَثَبَتْ وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لَكِ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟". يَعْنِي الْحَيْضَةَ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "شُدِّي عَلَى نَفْسِكِ إِزَارَكِ، ثُمَّ عُودِي إِلَى مَضْجَعِكِ".
150 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا، هَلْ يُبَاشِرُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَتْ لِتَشُدَّ إِزَارَهَا عَلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا إِنْ شَاءَ.
151 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ عَنِ الْحَائِضِ، هَلْ يُصِيبُهَا زَوْجُهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ؟ فَقَالاَ: لاَ حَتَّى تَغْتَسِلَ.
الحمدُ لله مُكرِمنا بشريعتهِ العظيمة وأحكامهِ القويمة، وبيان عبده المصطفى مُحمد ﷺ وبلاغه عنه فيما أتى فيه عباده من المناهج الكريمة، اللهم أدِم صلواتك وتسليمك على عبدك المجتبى سيدنا مُحمَّد في كل لمحةٍ ونفس، وعلى آله وأصحابه ومن بموالاتك وموالاته وحسن اتِّباعه تطهر وتنوّر وتقدّس، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين أكرم من دعا إلى الخيرِ ولدعائمه أسّس، وعلى أبائهِ وعلى آلهم وأصحابهم وعلى تابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
ويذكر الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- واجب التّيمّم من الجنابة كالتّيمّم أيضاً من الحدث الأصغر. ويقول: "باب تَيَمُّمِ الْجُنُبِ" ويذكر لنا: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، عَنِ الرَّجُلِ الْجُنُبِ يَتَيَمَّمُ، ثُمَّ يُدْرِكُ الْمَاءَ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِذَا أَدْرَكَ الْمَاءَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ." من الصَّلوات، فالمعنى أن ماقد مضى فقد ذهبت بهِ المطالبة.
قال الشّافعية: إذا كان قد تيمّم في مكان يغلب فيه خلال العام فقد الماء، فلا قضاء عليه حينئذٍ إذا صلّى بالتيمّم لفقد الماء، والمكان يغلب فقد الماء فيهِ في أكثر العام، وهذا المسمى عندهم بالمسافر، فالمسافر والمقيم عندهم في باب التيمّم العبرة فيه بالموضع الذي يتيمّم فيه:
يقول: "فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ" من الصّلوات. وقال ﷺ لما سُئل عن من أجنب، سأله أنَّه أجنب وليس معه ماء، فاعتزلهم في المصلى فسأله ﷺ، قال: إني كنت جنبًا ولا ماء، قال عليه الصّلاة والسّلام: "عليك بالصّعيد فإنّه يكفيك". ثُمّ لمّا وجد الماء قال أعطاه إناء من ماء قال اذهب فأفرغه عليك. لأنّه عند وجود الماء خلاص بطل تيمّمه؛ لأنّه تيمّم لفقد الماء.
"قَالَ مَالِكٌ فِيمَنِ احْتَلَمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، وَلاَ يَقْدِرُ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ عَلَى قَدْرِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ لاَ يَعْطَشُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَاءَ، قَالَ: يَغْسِلُ بِذَلِكَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ الأَذَى، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ صَعِيداً طَيِّباً كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ" عز وجل في قوله: (..فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..) [المائدة:6]، والمعنى: أنّه ليس معه ماء يكفيه لغسله، اكتفى بأن يستنجي ثم يتيمّم، وقد تقدم معنا أنّه إذا وُجد بعض الماء، أي ماءً يكفي بعض أعمال الوضوء، أو بعض أعمال الغسل:
وهكذا من وجب عليه الغُسل لاحتلامٍ "وَلاَ يَقْدِرُ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ عَلَى قَدْرِ الْوُضُوءِ"؛ فإنه غير واجدٍ للماء وفرضُه التيمم. وهكذا أكثر أهل الفقه قالوا هكذا. ويقول عطاء والحسن: يتوضأ بذلك الماء ويصلي، فإن لم يكن معه من الماء إلا بقدر ما يغسل به وجهه ويده فهو أولى من التيمّم، وإن لم يجد إلا ما يغسل به وجهه؛ غسله ومسح كفّيه بالتّراب، هذا قول عطاء والحسن. وسمعت قول الشّافعي: أن عليه أن يغسل ما يقدر عليه بهذا الماء ويتيمّم عن الباقي. وقال إنما خصّ السّفر لأن الغالب من عدم الماء أن يكون في الأسفار.
وقال في قول الإمام مالك: "يَغْسِلُ بِذَلِكَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ الأَذَى"؛ لأنّه عليه طهارتان، طهارة الجنابة وطهارة النّجاسة، فلما أمكنه فعل إحداهما.. فعلها، وهي طهارة النّجاسة وأبدل التيمّم من الآخر. إذًا:
فإذا تيمّم صَحَّ له من صلاة فرضٍ أو سنة أو طواف ما يصح بالوضوء وبالغسل، ومنه قراءة القرآن بالنسبة للحائض والجنب ومس المصحف وغير ذلك؛ من كل ما يجوز لمن توضأ ولمن اغتسل؛ لأن التيمّم قام مقام الوضوء وقام مقام الغسل. ولقولهِ تعالى: (أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء:43] فالذين فَسّروا الملامسة بالجماع ثبت بالآية عندهم أيضاً تيمّم الجنب، والذين فسروه بمجرد اللمس فثبوت تيمّم الجنب بالسُّنة الكريمة كما جاءنا في الأحاديث، ومنه الذي تقدمت الإشارة إليه في إرساله ﷺ للذي كان في سفر مع النبي ﷺ.
يقول سيدنا عمران بن حصين -رضي الله عنه وعنّا به و نسأل الله العفو والعافية- أنّه كان مع رسول الله ﷺ في سفر، قال: فصلّى بالنّاس، فإذا هو برجل معتزل، قال: ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. فقال: "عليك بالصّعيد؛ فإنه يكفيك". وهكذا وجاء أيضًا في حديث سيدنا جابر يقول: "خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟" فاستعجلوا على الإجابة ولم يرجعوا إلى عُلمائهم وإلى نبي الله ﷺ بينهم وأفتوا من رؤوسهم، "فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء" فاغتسل فَتسبّب ذلك في موتهِ، دخل الماء من الجرح الّذي في رأسهِ فمات -عليه الرضوان- فلما قدموا على رسول الله ﷺ أخبروه بذلك، قال: "قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ" ففيه استنكار أن يستعجل الإنسان برأيه وبعقله وهو عامّي لا يعرف حكم المسألة ولا استنباطها من كتاب وسُنّة ثم يفتي فيها! قالوا لا نجد لك عذرًا انت تقدر على استعمال الماء استعمِل الماء، استعمَل الماء فلما أصاب جرحه في رأسه دخل الماء عليه فكان سبباً لموته، فأنكر النّبي عليهم قال: "قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ" من عيَّ ولم يعرف المسألة فليرجع إلى سؤال أهلها عنها، (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43] قال ﷺ: "إنما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصر -أو قال: يعصب- على جرحه… ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" يعني: يغسل بقية الجسد، ويشدّ على محل الجرح ويمسح فقط عليه بالماء، ويغسل باقي الجسد.
"إنما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصر -أو قال: يعصب- على جرحه… ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" ، إذًا، فالمتيمّم في الجنب؛ مثل المحدث الحدث الأصغر، يقوم التيمّم فيه مقام الغسل كما يقوم مقام الوضوء. وجاء في حديث عمرو بن العاص لمّا كان في غزوة ذات السّلاسل قال: "احتلَمتُ في ليلةٍ باردةٍ شَديدةِ البردِ فأشفَقتُ إن اغتسَلتُ أن أَهْلِكَ فتيمَّمتُ ثمَّ صلَّيتُ بأصحابي صَلاةَ الصُّبحِ قال فلمَّا قدِمتُ علَى رسولِ اللهِ ﷺ ذَكرتُ ذلكَ لهُ فقال: يا عَمرو صلَّيتَ بأصحابِكَ وأنت جُنُبٌ؟ قالَ: قلتُ: يا رَسولَ اللهِ إنِّي احتَلمتُ في ليلةٍ بارِدةٍ شَديدةِ البَردِ فأشفَقتُ إن اغتَسلتُ أن أَهْلَك، فذَكرتُ قولَ اللهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29] فتيمَّمتُ ثمَّ صلَّيتُ فضَحِكَ رسولُ اللهِ ﷺ" تبسّم له "ولم يقُلْ شَيئًا" فَدلَّ على تقريرهِ له صحة الصّلاة، وإن كان إماماً؛ لأنّه كان في مكان لَعلّه يغلب فيه عدم الماء، فيصح أن يكون إماماً؛ فإن المتيمّم كغيره، إن كان يلزمه قضاء الصّلاة فلا يصح أن يكون إمامًا، وإن كان لا يلزمه القضاء فيصح أن يكون إماماً، يصلي بهم .
وهكذا قال: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ جُنُبٍ، أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ، فَلَمْ يَجِدْ تُرَاباً إِلاَّ تُرَابَ سَبَخَةٍ، هَلْ يَتَيَمَّمُ بِالسِّبَاخِ" ليس فيها غبار "وَهَلْ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي السِّبَاخِ؟ قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ فِي السِّبَاخِ، وَالتَّيَمُّمِ مِنْهَا، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة:6] فَكُلُّ مَا كَانَ صَعِيداً، فَهُوَ يُتَيَمَّمُ بِهِ, سِبَاخاً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ" وكل ما كان صعيداً؛ يعني يصعد على وجه الأرض، فهو يتيمّم به سباخًا كان أو غيره. وفي هذا تفسير الصّعيد بكل ما صعد على وجه الأرض.
وجاء في بعض الأحاديث التيمّم من جدار، ومثله ما كان يعمله كثير من الأخيار أن يأخذ جزءًا من التّراب المتماسك فيتيمّم منه، وهذا لا يثور منه الغبار. والمعتمد عند الشّافعية: أنه يجب أن يكون بترابٍ خالص لا يختلط بغيره، وله غبار، بحيث لو ضربت عليه لثار منه الغبار؛ فإذا اختلط بغيره لم يصح أو لم يكن له غبار. ولكن عند الإمام مالك كما سمعت يصح، وكذلك عند الإمام أبي حنيفة.
قال: لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ فِي السِّبَاخِ، وَالتَّيَمُّمِ مِنْهَا، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة:6] فَكُلُّ مَا كَانَ صَعِيداً، فَهُوَ يُتَيَمَّمُ بِهِ" فأدخلها في الصّعيد الطّيب. وجاء في الحديث "أُريت دار هجرتكم سبخةٌ ذاتُ نخل". وكذلك قال: (وَإِنَّا لَجَاعِلُون مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) [الكهف:8] فوجه الأرض يقال له صعيد عندهم؛ سواءً كان عليه تراب أو لا.
واستأنسوا بقوله ﷺ: "يُحشر النّاس على صعيدٍ واحد". وجاء عن ابن عباس: أطيب الصّعيد أرض الحرث. فأخذوا منه أن غير أرض الحرث داخلة في الصّعيد. وفي رواية عن الإمام أحمد مثل الشّافعي؛ لابد من التّراب الذي له غبار. والرواية ثانية كأبي حنيفة ومالك: يكفي كل ما صعد على ظهر الأرض من جنس الأرض، كالتراب والحجر، أما ما لم يكن من جنسها؛ فلا. إذاً، فالصّعيد الطّيب :هو التّراب خاصة عند الإمام الشافعي، ورواية عند الإمام أحمد بن حنبل، ورواية الإمام أحمد الثانية كالحنفية والمالكية؛ لا يشترط الغبار والتّراب بل كل ما صعد على ظهر الأرض من جنسها .
وقال ﷺ: "وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، لكن في رواية: "وترابها طهور"، فرواية: "وترابها" أخذ بها الإمام الشافعي، والرواية الأخرى عامة في الأرض؛ "وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" كل الأرض. إذًا فما كان من جنس الأرض ولم يتغير عن حكم الأصل؛ فأمّا إذا قد صلّحة نورة (طلاء)، أو قد تحوّل إلى شيء آخر؛ طبخه وصلّح منه آنية ثم جاء يتيمم منها .. هذا تغير عن حكمه فلا يصح عند أبي حنيفة؛ لابد يكون من جنس الأرض لم يتغير عن أصل خلقته.
يقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) فهل هو وجه الأرض أو التّراب المنبثّ على ظهر الأرض؟ فالمسح والتيمّم بالتّراب المنبثّ، هذا التّراب الطّاهر الخالص الّذي له غبار صحيحٌ باتفاق جميع أئمة الشّريعة الغراء. وعلمنا ما ذهب إليه الإمام مالك وأبو حنيفة أن المراد بالصّعيد: وجه الأرض، كل ما كان من جنس الأرض، لم يتغير عن أصل خلقته؛ فهو الصّعيد: ما اشتق من الصّعود عندهم؛ يعني: ما علا عن سطح الأرض (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا). والطّيب: هو الطّاهر الّذي لم يتلطخ بالنّجاسة.
وجاء أن عبد الله بن عمر كانوا في مكان يُقال له الجابية، مُطِروا، فلم يجدوا ماء يتوضؤون به، كيف مُطِروا وما وجدوا ماء؟ يعني المكان ليس فيه ما يمسك الماء، سال الماء وروّح عليهم.. فما بقي عندهم ماء، صار التراب الموجود كله مبلل بالماء ليس له غبار، وهم في الطريق، فلما كان كذلك قال ابن عمر: لينفض كل واحد منكم ثوبه، أو صفّة سرجه، ويتيمّم وليُصلّي؛ يعني الغبار الموجود في ثيابكم وسروج الدواب حقكم تيمّموا منه.
سُئل ابن عباس -رضي الله عنهما- أي الصّعيد أطيب؟ قال: الحرث؛ التراب الذي يصلح للنبات يعني دون السِّباخ، وكذلك الرّمل الذي له غبار. ألحقه الشّافعية بالتّراب. وجاءت روايتان عن الإمام أحمد؛
أمّا أن يتيمّم بكبريت أو نورة أو بفتات من خزف وغيره، فلا يصح التيمّم به لا عند الشّافعية، ولا عند الإمام أحمد بن حنبل في الرواية المعتمدة، وكذلك قال أبو يوسف من الحنفية. وأخذ الحنابلة من قوله ﷺ: " إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم" أنّهُ إذا وجد برَدًا أو ثلجًا لم يستطع ذوبانه، فيمسح به أعضاء الوضوء، فيصير محل الوضوء؛ أن هذا الّذي استطاعه من الغسل. وقال الشّافعية: لابد يُذَوُبهُ حتى يسيل على العضو.
ثُمّ تحدّث عمّا يحل للرجل من امرأته وهي حائض، لقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222] فَبيَن سبحانه وتعالى في الآية واجب المؤمنين في شؤون المعاشرة، ومنه: (..فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ..) فجاء حديث: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلاَهَا، ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلاَهَا" والإزار: يستر ما بين السّرة والرّكبة.
(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة:222] حتى يطهرن: حتى ينقطع دم حيضهنَّ، فإذا تطهرنَّ اغتسلنَّ، فلايكفي انقطاع الدّم بل لا بد من الاغتسال. فلا يجوز لزوجها أن يقربها حتى تغتسل.
وأورد الحديث الآخر: "أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ مُضْطَجِعَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهَا قَدْ وَثَبَتْ وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا لَكِ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟". يَعنِي الْحَيْضَةَ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "شُدِّي عَلَى نَفْسِكِ إِزَارَكِ، ثُمَّ عُودِي إِلَى مَضْجَعِكِ" فدلّ على أنّ ما دون الإزار وما فوق الإزار جائز لزوجها أن يستمتع بها؛ أما بين السّرة والرّكبة فلا. وجاء عن أم سلمة أيضاً قالت: كنت مضجعةً مع رسول الله ﷺ في خميلة، فذهلت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، قال: أنفست؟ قلت: نعم، قالت: فدعاني معه في الخميلة. ففيه جواز النوم مع الحائض، وإنّما يجب عليه فقط اعتزالها في المحيض، كما جاءت الآية. وكانت اليهود لا يأكلون مع حائض، ولا يشربون مع حائض، بل يمتنع بعضهم عن الدخول في غرفة فيها حائض؛ فقال رسول الله ﷺ: اصنعوا كل شيءٍ إلا النّكاح؛ فقط الذي يحرم.
وجاءت رواية عائشة لما سُئلت: "هَلْ يُبَاشِرُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَتْ لِتَشُدَّ إِزَارَهَا عَلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا إِنْ شَاءَ" وهكذا جاء: "عن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلاَ عَنِ الْحَائِضِ، هَلْ يُصِيبُهَا زَوْجُهَا إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ ؟ فَقَالاَ: لاَ حَتَّى تَغْتَسِلَ" وفيه ماعليه الإمام مالك والشّافعي وأحمد وجمهور الفقهاء: أنه إذا طهرت المرأة لا يجوز لزوجها أن يقربها حتى تغتسل، فلا بد من اغتسالها من الحيض أولاً ثم تكون حلالاً له، لقوله تعالى: (..فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) ما قال فإذا طهرنَّ، (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) أي: اغتسلنَ (...فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)؛ أنه "ملعونٌ من أتى امرأةً في دبرها" فأتوهنّ من حيث أمركم الله.
وهكذا بيان الآية الكريمة والسُنّة المشرّفة لشؤون المعاشرة، وأحكام الطهارة، وما يتعلّق بالمؤمن في شخصه وأهله وأسرته. فالحمدلله على البيان على أطهر وأفصح لسان، ونسأل الله أن يرزقنا الاستقامة في اتباعه ﷺ، والاهتداء بِهديِهِ، وتعظيم السنّة والقرآن والعمل بهما على الوجه الذي يرضي عنّا إلهنا الرحمن وإلى حضرة النبي مُحمَّد ﷺ.
22 ذو الحِجّة 1441