شرح الموطأ - 298 - كتاب الطلاق، باب طلاق الْمُخْتَلِعَةِ

شرح الموطأ - 298 - كتاب الطلاق، باب طلاق الْمُخْتَلِعَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب طَلاَقِ الْمُخْتَلِعَةِ.

فجر  الأحد 8 جمادى الأولى 1443هـ.

 باب طَلاَقِ الْمُخْتَلِعَةِ

1643 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوَّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، جَاءَتْ هِيَ وَعَمُّهَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ.

1644 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، وَابْنَ شِهَابٍ كَانُوا يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ، مِثْلُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ.

1645 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُفْتَدِيَةِ: إِنَّهَا لاَ تَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا إِلاَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ هُوَ نَكَحَهَا، فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنَ الطَّلاَقِ الآخَرِ، وَتَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الأُولَى.

قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.

1646 - قَالَ مَالِكٌ: إِذَا افْتَدَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بِشَيْءٍ، عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَطَلَّقَهَا طَلاَقاً مُتَتَابِعاً نَسَقاً، فَذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ صُمَاتٌ، فَمَا أَتْبَعَهُ بَعْدَ الصُّمَاتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ لله مُكرمِنا بشريعتِه، وبيانِها على لسان خيرِ بريَّتِه، سيدِنا محمدٍ عبدِه وصفوتِه، صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابِه وعِترتِه، وأهلِ محبّتِه ومتابعتِه، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياء والمرسلين المُرتقِين في المجد الأسنى أعلى ذِروَتِه، وعلى آلهم وصحبهم وتابِعيهم، والملائكةِ المقرّبين وجميعِ عبادِ الله الصالحين الذين وفَّر اللهُ حظَّهم من مِنَّتِه، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين اللّطيفُ ببريَّتِه.

وبعدُ،

 فيواصلُ سيدُنا الإمامُ مالكٌ -عليه رضوانُ الله- في الموطأ ذكرَ الأحاديثِ المتعلقةِ بالخُلع، وتَقدمَ كلامُه عن الخُلع وأنه طلاق. 

ويقول: "باب طَلاَقِ الْمُخْتَلِعَةِ"، فيُبيِّنُ في هذا الفصل:

  •  أنَّ الُخلعَ طلاقٌ وليس بِفَسخٍ، وذلك مذهبُ الجماهيرِ من أهلِ العلم، ومذهبُ الأئمةِ الثلاثة، وروايةٌ أيضًا عن الإمام أحمدِ بنِ حنبل. 

  • الروايةُ الثانيةُ عنه المشهورُ في مذهبه: أنَّ هذا فسخٌ لعقدِ النكاحِ وليس بطلاقٍ، فلا يُحسب من الثلاث، ولو خلع مراتٍ لا يَضرُّ. 

  • وقال جماهير العلماء: بل هو طلاقٌ، فلو خلع ثلاثًا لم تحلَّ له حتى تَنكحَ زوجًا غيرَه.

"باب طَلاَقِ الْمُخْتَلِعَةِ"؛ فيقع الطلاقُ بالخلعِ عندَ جماهيرِ أهلِ العلم، وقال الحنابلة في المشهور عندهم: لا يقع.

 وذكر: "أَنَّ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوَّذِ بْنِ عَفْرَاءَ"؛ وهي صحابيةٌ جليلةٌ كان لها حضورٌ مع النبيّ ﷺ في عددٍ من الغزوات، وكان لها خدمةٌ وصِلة، ولما سُئلت عن النبي ﷺ وقالوا لها: حدِّثينا عنه فقالت: إذا رأيتَه قلتَ الشمسُ طالعة! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

تقول: أنها "جَاءَتْ هِيَ وَعَمُّهَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا"، في بعضِ الرِّوايات: أنّ ذلك تمَّ أمامَ سيدِنا عثمان، أن تَهبَه كلَّ مالِها ويُطلِّقها، وأنّها جاءت تشتكيه فقالت: ظلمَني، وقال: ظلمتْني، وقال: لم تزل تُعاني منه ويُعاني منها حتى اختَلَعَت.

جاء عنها أنّها قالت: كان بيني وبين ابنِ عمِّي كلامٌ -تعني زوجَها- فقلتُ له: لكَ كلُّ شيءٍ لي وفارِقْني، قال: قد فعلتُ، قالت: فأخذَ واللهِ كلَّ شيءٍ لي حتى فِراشي؛ لأنها هي قالت ذلك.

 وقد تقدَّم معنا أنَّ الجمهورَ أيضًا على أن العِوَض في المُخالعة لا يَتقيَّدُ بالمهر ولا بِما دونَه. 

  • خلافًا لمن قال: لا يجوز أن يأخذَ منها زائداً على المهر، وزائداً عن الصَّداق الذي أعطاهُ إياها. 

  • قال جماهيرُ أهلِ العلم: بل قَلَّ أو كَثُرُ ما شرطَتْه على نفسها فهو كذلك.

كما يشهدُ له هذا الحديث في قضاءِ سيدِنا عثمانَ بنِ عفانَ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. قالت: أنها جاءت إلى عثمانَ بنَ عفانَ فذكرتْ له ذلك، قد حُصر آخر أيامِ خِلافتِه -عليه رضوان الله،- فقال: الشرطُ أَملَكُ، خذْ كلَّ شيءٍ لها حتى عقاصَ رأسِها إن شئتَ. لأنها قالت: كلُّ شيءٍ لي فهو لكَ على أنْ تُفارقَني، فخلاص أعطيناك الطلاق مقابل هذا كله، فشرطَتْ له جميعَ مالها. قال: "فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ" بل قضى بوِفْقِ ذلك.

 وجاء في روايةِ سعدٍ قال: قلتُ لزوجي: أختلعُ منكَ بجميع ما أملكُ، قال: نعم، فدفعتُ إليه كلَّ شيءٍ غيرَ دِرعي، فخاصمَني إلى عثمانَ بنِ عفانَ، وقال: له شرطه، فدفعتُه إليه.

 وجاء في رواية عبدِ الرزاق والبيهقي: تقول الرُّبَيِّع: كان لي زوج يُقِلُّ عليَّ الخيرَ إذا حضرني، ويحرمُني إذا غاب عنّي، فكانت مني زَلَّةً يوماً فقلت: أختلعُ منكَ بكلِّ شيءٍ أملِكُه، قال: نعم، ففعلتُ، فخاصمَ عمّي معاذ بن عفراءَ إلى عثمانَ بنِ عفانَ، فأجازَ الخلعَ، وأمرَه أن يأخذَ عِقَاصَ رأسي فما دونَه.

 في رواية البيهقي قالت: تزوجتُ ابنَ عمٍّ لي، فشَقيَ بي وشَقيتُ به، وعنى بي وعنيت به، وإني اسْتَأْدَيْتُ عليه عثمانَ فظلّمَني وظلَّمتُه، يعني نسَبَني إلى الظلم ونسبتُه إلى الظلم، وكثُر عليّ وكثّرت عليه ، وقالت: وإنّما انفلتت مني كلمةٌ: أنا أفتدي بمالي كلِّه، قال: قد قبلتُ، وقال عثمان: خذْ منها، قالت: فانطلقتُ فدفعتُ إليه متاعي كلَّه إلا ثيابي وفِراشي، قال: لا أرضى، هاتِ كلَّ الذي لكِ! أنتِ قلتِ كلُّ مالي فهو لكَ، وأنه استأداني على عثمان رضي الله عنه، فلما دنونا منه قال: يا أمير المؤمنين الشرط أملك قال: أجل، فخذْ منها متاعَها كلَّه حتى عقاصَها إن شئتَ. إن كنت حِفِك خذه، وإن كنت بتسامح سامح، قالت: فانطلقتُ فدفعتُ له كلَّ شيءٍ، حتى أجفْتُ البابَ بيني وبينَه. 

فإذا قُلنا إنّه طلاقٌ كما قال الجمهور، إذًا؛ فعليها عِدةُ المطلَّقة، فتعتدُّ ثلاثَةَ قروءٍ، كما قال تعالى: (والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة:228] وهذه القروء الثلاثة:

  • لمن كانت تَحيضُ 

  • ولمن بلغتْها الدعوةُ 

فمن بلغتْها الدعوة وجاءها الحيضُ:

  • فعِدَّتُها ثلاثةُ أشهرٍ إذا أيِسَت وإلا فثلاثُ قروءٍ، فثلاثُ أشهرٍ إذا أيِسَت من المحيض.

  • أو كانت ذاتَ حملٍ فعِدّتُها إلى وضعِ حملِها، لقول الله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:4]. 

 وهذه العِدةُ سواءً كانت لوفاةٍ أو لطلاقٍ، فرضَها اللهُ تعالى على المرأة، فهي شرعٌ بينها وبينه، لا علاقةَ لها بالزوجِ ولا بإكرامِه ولا باحترامِه، فإنما هي فريضةٌ بينها وبين الله -جل جلاله-. يجهلُ كثيرٌ من النساءِ هذا الأمر، وبعضُهنّ تقول بِتَصوُّرِها الباطلِ وتخيُّلها الفاسدِ أنه فعل كذا وكذا وأتربّص له أو أعتد من أجله! وإيش عليه تربصتي أو ما تربصتي إنما هو فرض فرضه الله عليك (والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة:228]، فإن أقمتِ فرضَ الله أثابكِ الله تعالى ونلتِ منزلةً، وإن ضيَّعتِ الفرضَ عاقبكِ اللهُ وحصَّلتِ الإثمَ، وهو خرجتِ أو قعدتِ ما يضره من ذلك شيءٌ، ولم تُشرع العدةُ لأجلِ إكرامِه ولا لأجل احترامِه، وإنما شُرعت:

  • لأجلِ براءةِ الرَّحِم 

  • ولأجل حِكَم اقتضتْها شريعةُ الله -تبارك وتعالى- وعلمُه وإرادتُه بمنافع، فجعل ذلك الاعتدادَ والتّربُّصَ فرضًا في كتابه العزيز.

(والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة:228]، (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:4] (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) [ الطلاق:4] وفي المرأة يُتوفى عنها زوجُها قال -سبحانه وتعالى-: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [البقرة:234] فيمن يُتوفى عنها زوجُها ويتركُها من بعد، فهذه العدةُ التي فرضها اللهُ تبارك وتعالى.

 وهناك قولٌ في هذه المخالعةِ أنّها تعتدُّ بحيضة واحدة. وهذا الذي أشار إليه الإمامُ مالكٌ في هذا الموضع، وقال: "وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ"، كذلك، هو الذي عليه جماهير أهل العلم، قالوا: لا تختلف باختلاف المطلقات الأخريات.

 وجاء عند ابن أبي شيبةَ -رضي الله عنه-: أنَّ الربيعة اختلعتْ من زوجِها، فأتى عمُّها عثمانَ فقال: تعتدُّ حيضةً. وهكذا كان قولُ ابنِ عمرَ، وأنّها تعتدُّ ثلاثَ حِيَض، حتى قال هذا عثمان، فكان ابنُ عمرَ يُقدّم قولَ عثمانَ.

 ثمّ جاء عن عُبادةَ بنِ الوليد بنِ عُبادةَ بنِ الصامتِ قال: قلتُ للرُّبَيِّع: حدِّثيني حديثَكِ، قالت: اختلعتُ من زوجي، ثم جئتُ عثمانَ -رضي الله عنه- فسألتُه: ماذا عليّ من العدة؟ قال: لا عدة عليكِ إلا أن تكوني حديثة عهدٍ به، فتمكُثين حتى تحيضي حيضةً، قال: إنّما أتبع في ذلك قضاءَ رسولِ الله ﷺ  في مريمَ المغالية.

 كما جاء أيضًا في سُنن الترمذي عن الرُّبَيِّع بنتِ معوذٍ أنها اختلعت على عَهْدِ النبيِّ ﷺ فأمرها رسول الله ﷺ أن تعتدُّ بحيضة، قال: فكأنَّ الخُلعَ وقعَ للربيعِ في أيامهِ ﷺ، ثم في عهدِ سيدِنا عثمانَ بنِ عفانَ رضي الله تعالى عنه.

 إذًا: فالجمهورُ على أنّ ذلك طلاق، وأن العدةَ ثلاثةُ قروءٍ، إلا أن تكونَ آيِسَت فتكون ثلاثةَ أشهرٍ، أو تكونَ ذاتَ حملٍ فعدتُها حتى تضعَ حملَها.

 وجاء في رواية عبدِ الرزاقِ عن سيدِنا عليِّ بنِ أبي طالبٍ قال: عِدةُ المختلِعة مثلُ عدةِ المطلَّقة. وعند أبي شيبةَ عن ابن عمرَ وابنِ عباس: عدّةُ المختلعةِ حيضةٌ.

 وأخرج أبو داودَ والترمذيُّ وحسَّنه في قصة امرأةِ ثابتِ بنِ قيس أمرها رسول الله ﷺ أن تعتدَّ بحيضة.

إذًا: كلُّ فُرقةٍ بين الزوجين فعدتُها عدةُ طلاقٍ، سواءً كانت بخلعٍ أو رضا أو لِعان أو فسخٍ بعيبٍ أو إعسارٍ أو غيرِ ذلك، في قول أكثرِ أهلِ العلم العدةُ عدةُ الطلاق. ويُروى عن ابنِ عباسٍ أنّ عدةَ المُلاعِنة -وهي عدةُ الطلاقِ عند غيرِه- تسعةُ أشهر، ولم يقل بذلك أحدٌ من أهل العلم فيما بعد ابنِ عباس. فإذًا؛ فعدةُ المختلعةِ عدةُ المطلقة.

 "قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُفْتَدِيَةِ"؛ المختلِعةُ نفسَها؛ التي افتدتْ بشيءٍ من مالِها، حكمُها: "إِنَّهَا لاَ تَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا إِلاَّ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ"؛ لأنّه طلاقٌ بائنٌ؛ فلا يجوز له أن يسترجعَها ولو رضيَت من دون مهرٍ جديدٍ وعَقدٍ جديد، فتُحسب عليه طلقة إن لم يكن طلَّقها من قبل. 

يقول في المفتديةِ هنا: أنّها لا ترجع إلى زوجِها إلا بنكاحٍ جديد، لأنها صارت بائن، لأنّ الطلاقَ بعِوَضٍ، وهذا ما يُسمى بالبينونة الصغرى، أن تكون طلقة أو طلقتان بعِوَض، فتبقى له واحدةٌ، يجوز بعَقدٍ جديدٍ أن يراجعَها، وبالنسبة له لا اعتبارَ للعدّةِ لأن العِدّةَ لأجلِ البراءةِ، وهو نفسُه فلا يختلطُ فيها أمرُ النسَبِ بغيره، فيمكن في أثناءِ العدّة أن يَعقِدَ عليها، بخلافِ غيره فلا بدّ أن تنقضيَ عدتُها أولاً.

 أما البينونة الكبرى فهي أن يطلقَ ثلاثًا، الطلقة الثالثةُ تكون بينونةً كبرى، لا تَحِلُّ  له حتى تنقضيَ عدتُها منه، ثمّ يتزوجَها رجلٌ آخرُ، ثمّ ينفرَ عنها ويطلقَها الثاني، ثمّ تُكملَ عدتَها من الثاني، فيجوزُ أن ترجعَ إلى الأولِ بعقود ثلاثة، كما كانت، ترجع الثلاثة إليه.

 فأجمع العلماء على أنّه لا رجعةَ للزوجِ على المختلِعة في العدة، وكذلك قال الجمهور: له أن يتزوجَها برِضاها ولو في عدّتِها، لأنّه هو نفسه الزوجُ الذي قد كان معها، فلا اختلاطَ في الأنساب إذًا بعودته إليها.

وهكذا؛ لا يثبت في الخلعِ رجعة، لا عند الذين قالوا: هو طلاقٌ، ولا عند الذين قالوا: هو فسخٌ، كما هي الرواية المشهورةُ في مذهب الإمامِ أحمد، فلا تحلُّ له إلا بعقدٍ جديدٍ ونكاحٍ جديدٍ ومهرٍ جديد.

"فَإِنْ هُوَ نَكَحَهَا، فَفَارَقَهَا" طلَّقها "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ"، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جميلا) [الأحزاب:49].

 يقول: "فَإِنْ هُوَ نَكَحَهَا، فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنَ الطَّلاَقِ الآخَرِ، وَتَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا الأُولَى". قال: "وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ"؛ يعني: إذا افتدت المرأةُ كما قال مالك: "إِذَا افْتَدَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بِشَيْءٍ، عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَطَلَّقَهَا طَلاَقاً مُتَتَابِعًا نَسَقًا، فَذَلِكَ" الطلاق "ثَابِتٌ عَلَيْهِ"، إن كان طلقتين وإن كان ثلاثًا، "فَذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ صُمَاتٌ، فَمَا أَتْبَعَهُ بَعْدَ الصُّمَاتِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ."؛ أي: سكوت، "فَإِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ صُمَاتٌ، فَمَا أَتْبَعَهُ بَعْدَ الصُّمَاتِ"؛ أي: بعد السكوت "فَلَيْسَ بِشَيْءٍ"؛ يعني: لم يتصل كلامُه؛ تخلَّله صمتٌ أو كلامٌ آخرُ لم يتعلق بما قبلَه وهكذا، لا يلحقُها طلاقٌ في عدتِها لأنّها بائنٌ منه.

أصلح الله أحوالَنا والمسلمين، وديارَنا ومنازلَنا وأُسَرَنا وأهالينا وأبناءَنا وبناتِنا وأزواجَنا وذرياتِنا بأتمِّ الصلاح، وجنَّبنا وإياهم  موجباتِ الهلاكِ والآفاتِ والندامات، في الدنيا والآخرات، ونظَمَنا في سِلك أهلِ الفلاح من الذين تولاهم بما هو أهلُه في الظواهر والخفيات، ورفعَ عنّا الآفات، وأصلحَ لنا الظواهر والخفيَّات، وختمَ لنا بأكمل حُسن الخاتِمات، بسرِّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

 

تاريخ النشر الهجري

14 جمادى الأول 1443

تاريخ النشر الميلادي

18 ديسمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام