شرح الموطأ - 296 - كتاب الطلاق: باب مَا جَاءَ فِي الْخِيَارِ

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب مَا جَاءَ فِي الْخِيَارِ.
فجر الأربعاء 4 جمادى الأولى 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْخِيَارِ
1630 - حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ، فَكَانَتْ إِحْدَى السُّنَنِ الثَّلاَثِ: أَنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ". فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ".
1631 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الأَمَةِ تَكُونُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَتَعْتِقُ: إِنَّ الأَمَةَ لَهَا الْخِيَارُ، مَا لَمْ يَمَسَّهَا.
1632 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ مَسَّهَا زَوْجُهَا، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَهِلَتْ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، فَإِنَّهَا تُتَّهَمُ وَلاَ تُصَدَّقُ بِمَا ادَّعَتْ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا بَعْدَ أَنْ يَمَسَّهَا.
1633 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ مَوْلاَةً لِبَنِي عَدِيٍّ يُقَالُ لَهَا زَبْرَاءُ، أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَهِيَ أَمَةٌ يَوْمَئِذٍ فَعَتَقَتْ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَعَتْنِى فَقَالَتْ: إنِّي مُخْبِرَتُكِ خَبَراً، وَلاَ أُحِبُّ أَنْ تَصْنَعِي شَيْئاً، إِنَّ أَمْرَكِ بِيَدِكِ، مَا لَمْ يَمْسَسْكِ زَوْجُكِ، فَإِنْ مَسَّكِ، فَلَيْسَ لَكِ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ. قَالَتْ: فَقُلْتُ هُوَ الطَّلاَقُ، ثُمَّ الطَّلاَقُ، ثُمَّ الطَّلاَقُ. فَفَارَقَتْهُ ثَلاَثاً.
1634 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهِ جُنُونٌ أَوْ ضَرَرٌ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ.
1635 - قَالَ مَالِكٌ فِي الأَمَةِ تَكُونُ تَحْتَ الْعَبْدِ، ثُمَّ تَعْتِقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ يَمَسَّهَا، إِنَّهَا إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلاَ صَدَاقَ لَهَا، وَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
1636 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَاخْتَارَتْهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاَقٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
1637 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُخَيَّرَةِ إِذَا خَيَّرَهَا زَوْجُهَا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَقَدْ طَلُقَتْ ثَلاَثاً، وَإِنْ قَالَ زَوْجُهَا: لَمْ أُخَيِّرْكِ إِلاَّ وَاحِدَةً، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
1638 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ خَيَّرَهَا فَقَالَتْ: قَدْ قَبِلْتُ وَاحِدَةً، وَقَالَ: لَمْ أُرِدْ هَذَا، وَإِنَّمَا خَيَّرْتُكِ فِي الثَّلاَثِ جَمِيعاً، أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَقْبَلْ إِلاَّ وَاحِدَةً، أَقَامَتْ عِنْدَهُ عَلَى نِكَاحِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِرَاقاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُبيّن الشريعة بلسان صاحب المراتب الرفيعة سيدنا مُحمد، مَنْ جمع الله له الحُسن جميعه. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على سيدنا مُحمد، وعلى آله وأصحابه ومن والاه فكان تبيعه، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمرسلين الحصون المنيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا ارحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله تعالى- في "باب الْخِيَارِ"، ما يتعلق بالأمة اذا زُوِّجت مملوكًا رقيقًا ثُمَّ عتقت، وأنَّ لها حق الخيار بأن تفسخ النِّكاح أو أن تستمر معه، وهذا نوعٌ من أنواع الخيار الذي جاءت به الشريعة الغرّاء المصونة، وذلك لما انطوت عليه حِكمة التشريع في إقامة العلائق بخير الوثائق، وعلى اليُسر والمرافق، وجعلت مِنَ العيوب في الرجل أو في المرأة ما يصير به أحدهما مُخيّرًا بين:
-
أن يبقى ويستمر مع الآخر
-
أو أن يختار الفراق والطلاق.
فهناك عدد من العيوب التي يثبت بها الخيار إنما ذكر الشيخ هنا نوعين:
-
هذا النوع الأول: وهو نوع أن تتحول الأمة المتزوجة من مملوكٍ إلى حُرةٍ فيكون لها حق الخيار؛ فإذا كان زوجها الذي زُوّجته مملوكًا لا يزال تحت الرِّق فلها الخيار بالاتفاق والإجماع.
-
وأما إن كان زوجها قد أعتق قبلها وهو حُر، أو هو حُرٌ تزوجها -الأمة- للضرورة فعتقت؛
-
فلا خيار لها عند الإمام مَالِكْ، والإمام الشَّافعي، والإمام أحمَدْ بن حَنبَل.
-
وقال الحَنَفِية: لها الخيار، لها أن تختار إذا انتقلت مِنَ الرِّق إلى الحرية فلها الخيار، سواء أن كان زوجها رقيقًا أو حُرًا، فإن لها الخيار لأنها استقبلت حياة جديدة، وتحوّل ملك الزوج لها إن كان حُرًا من تطليقتين إلى ثلاث، ويكون لها مقابل ذلك أن يكون لها الخيار في شأنها إما أن تبقى معه أو أن تختار الافتراق معه.
-
وذكر في الباب حديث بَرِيرَةَ -رضي الله عنها- وقول السيدة "عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ"؛ يعني: أحكام مشروعة سنَّها رسول الله ﷺ متعلقة أسبابها في بريرة، فتبيّنت أحكامًا ثابتة للأُمة، منها هذا الخيار. "فَكَانَتْ إِحْدَى السُّنَنِ الثَّلاَثِ: أَنَّهَا أُعْتِقَت"؛ أي: بَرِيرَةَ وكانت مملوكة، "فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا"؛ أي: خيَّرها ﷺ البقاء مع زوجها أو فراقه، كان زوجها اسمه: مُغيث، وكان مولى لآل المُغيرة، وهو كما جاء في البُخاري: كان عبدًا، أي مملوكًا يُقال له مُغيث، وكان يحاول أن يتَرضاها أن تبقيها معها، فأبَت ذلك، فأمضى رسول الله ﷺ اختيارها في الفراق.
"حتى قال بِنْ عباس: كَأَنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَها يَبْكِي ودُمُوعُهُ تَسِيلُ على لِحْيَتِهِ، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ لِعبّاسٍ: يا عَبّاسُ، ألا تَعْجَبُ مِن حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، ومِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا! فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: لو راجَعْتِهِ، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ؛ تَأمُرُنِي؟ قالَ: إنَّما أنا أشْفَعُ"، ما آمرك فالخيار لك ثابت إنما أشفع، الرجال متعلق بك ويحبك، إن أحببتِ ترجعي إليه، قالت: لا؛ ما دام أنه ليس أمر منك إنما تشفع، فإنه لا حاجَة لي فِيهِ. فلما خيَّرها اختارت الطلاق كما سمعت في الرواية، فأُعتقت فخيِّرت في زوجها. وهذه السُّنة الأولى.
"وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"؛ فإن الذين كانوا يملكونها كاتبوها على كتابة تُسلِّمها لهم فيُعتقونها. وجاءت إلى عند السيدة عائشة تستعين بجمع شيءٍ تُحَضِّر به نجوم الكتابة -مال الكتابة- حتى تتحول إلى حُرة، فقالت لها: بل أشتريك فأُعتِقك، أشتريك منهم وأُعتِقك، فقالت لهم أن عائشة تريد أن تشتريني وتُعتقني، قالوا لها نقبل بشرط أن الولاء لنا، أي ولاءك لنا نحن، نستلم منها الثمن وهي تعتقك؛ ولكن الولاء لنا، ولاءك بواسطة الرِّق لنا؛ أي: يترتب على هذا الولاء إرثهم لها إذا لم يكن لها عَصبة مِنَ النسب، وتكون مولى من مولاتهم؛ ولكن الولاء في الشرع موهوبٌ للمُعتِق؛ الذي أعتق ليس للذي أُشتري منه، ولكن لمن أعتق، فلمّا ذكرت ذلك للنبي ﷺ وإن أصحابها اشترطوا أن يكون ولاءها لهم، قال ﷺ: "إنما الولاءُ لمن أعتق"؛ بيعي واشترطي، إنما الولاءُ لمن أعتق؛ يعني: شرطهم باطل ولا يصح، ومهما اشترطوا فإن الولاء لمن أعتق لا لمن أشترط.
وقال في خطبته: "ما بالُ أقوامٍ يشترِطونَ شروطًا ليست في كتابِ اللهِ، … من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو ردٌّ عليه وإنما الولاء لمن أعتق. فهذه السُّنة الثانية أن الولاء لا يكون إلا لمن أعتق فيستقِر له، ويكون له وليس لغيره ولاء مهما اشترط، ومهما كان قوله، من باع.. فليس له أثر في ذلك.
وجاء أيضًا في الحديث أن رسول الله ﷺ فيمن قال أعتق فلان والولاء لي: "ما بالُ رِجالٍ مِنكُم يقولُ أحَدُهُمْ: أعْتِقْ يا فُلانُ ولِيَ الوَلاءُ، إنَّما الوَلاءُ لِمَن أعْتَقَ" وهكذا. ولما عرضت على رسول الله ﷺ اشتراطهم قال: "لا يَمْنَعُكِ ذلكَ، فإنَّما الوَلاءُ لِمَن أعْتَقَ" وهذه السُّنة الثالثة التي ذكرت.
"وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْبُرْمَةُ"؛ يعني: القدر، كان يُتخذ مِنَ الحجر في الغالب، يقال له: بُرمة يوقدون عليه، "تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ" شيء يؤكل مع الخبز "مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ" الذي يتوفر عندهم في البيت، من مثل سمنٍ وملحٍ وما إلى ذلك، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ". فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ"؛ أي: اللحم الذي في القدر "تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ"، مولاتنا "وَأَنْتَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ"، كان رسول ﷺ لا يأكل الصدقة، وقيل هذا جيء به صدقة لبريرة وأنت لمّا أنك لا تأكل الصدقة ما قدّمناه لك، قال: بريرة أُعطيته تصدَّقًا منهم؛ لكن بريرة الآن ملكته، فإذًا تتصدق علينا أو تهدي لنا؟ فسنَّ سُنة أنّ المُتصدَّق عليه يملك ما تُصدَّق به عليه، ثُمَّ له حق التصرف فيه بأن يَهبه أو يهديه أو يتصدق به أو يعمل به ما شاء، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ"؛ لأن نية الذين أعطوها كانت الصدقة؛ ولكن لمّا تُقدم لنا هذا اللحم ما قصدها تتصدق علينا؛ إنما أرادت أن تُكرِمنا بالهدية، "وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ" هو لها من المتصدقين صدقة، وهو لنا منها -من بريرة- هدية.
فالصدقة يصحّ للفقير التصدّق بها ببيعٍ، أو بإهداءٍ، أو بتصدقٍ، أو بما شاء، فدخلت في حكم مُلكه فله حق التصرف، فلها أن تُهدي ما تصَّدق به عليها، فهذه ثلاث سُنن، تبينت ثلاث أحكام في الشريعة، تبيت بسبب بريرةَ -رضي الله عنها- على لسان رسول الله ﷺ.
ثم ذكر لنا قول ابن عمر: "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الأَمَةِ تَكُونُ تَحْتَ الْعَبْدِ فَتَعْتِقُ: إِنَّ الأَمَةَ لَهَا الْخِيَارُ، مَا لَمْ يَمَسَّهَا" الزوج، فإذا أُعتقت ومسّها زوجها ثُمَّ قالت: أنا أريد أفسخ النِّكاح،الآن بعدما قد مَسَكِّ! لا؛ وإنما الخيار لك أول ما تعلمين أنكِ أُعتقت مِنْ قبل أن يمَسَكِّ زوجك فتختارين الفراق، فأما إذا قد مضى ذلك الوقت فلا. ومنها جاء اختلافهم في خيار من أعتقت هل هو على التراخي؟ أو على الفور؛ بأن يكون في المجلس الذي علمت أنها أُعتقت فيه، وأنه يبطل إذا مكنَّت الزوج من نفسها.
-
هكذا ذهب الإمام مَالِكْ، وأبي حَنِيفَة، وأحمَدْ: أنه على التراخي
-
وقال الشَّافعية: هو على الفور
-
ويُروى: إلى ثلاث أيام.
-
وقيل: من قيامها من مجلس الحاكم.
-
وقيل: من مجلسها.
وكذلك عند الحَنَفِية القول: بأنه إنما تكون مُخيرةً ما لم تُمَكِّن زوجها من نفسها، فإذا مكنَّته بطُل حق خيارها وبقي بيده أمر طلاقها، إن شاء طلّق، وإن شاء أمسك.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ مَسَّهَا زَوْجُهَا، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا جَهِلَتْ"؛ أي: لم تعلم "أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، فَإِنَّهَا تُتَّهَمُ وَلاَ تُصَدَّقُ" في قولها "بِمَا ادَّعَتْ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا" إنما قال الأوزاعي: إذا ادّعت أنها جهلت، لم تكن تعلم أن لها حق الخيار، وأنه يبطُل بمس زوجها لها، فإن لها الخيار ثابت عند الأوزاعي. وقال الأئمة: لا.
"وَلاَ خِيَارَ لَهَا"؛ يعني: في فراق الزوج بعد أن مسّها؛ لأنَّ الحُكم مشتهر بذلك، فإذا وطئها بَطَل خيارها، هو كذلك عند عامة الأئمة، علِمت بالخيار أو لم تعلم، كما نصّ عليه الإمام أحمَدْ في مذهبه.
وعند بعض الحَنَفِية، كما عند الأوزاعي: أنَّ الجهل بخيار العتق عذرٌ لها، ثمّ علمت فمهما بدت علامة على إعراضها بطل حقها، وإن باشرت حقّها بعد أن تعلم فلها الحقّ أن تطلب الفراق.
ثم ذكر لنا حديث: "عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ مَوْلاَةً لِبَنِي عَدِيٍّ يُقَالُ لَهَا زَبْرَاءُ، أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَهِيَ أَمَةٌ يَوْمَئِذٍ فَعَتَقَتْ" أعتقها أهلها "قَالَتْ: فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ حَفْصَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَعَتْنِى" لمَّا علمت بعِتقها، لتبين لها الحُكم ولا يُشتبه عليها وتختار لنفسها، "فَقَالَتْ: إنِّي مُخْبِرَتُكِ خَبَراً، وَلاَ أُحِبُّ أَنْ تَصْنَعِي شَيْئاً"؛ يعني: لا تستعجلي في الأمر، وتأَنيّ وتأملي "إِنَّ أَمْرَكِ بِيَدِك"؛ الآن لما صرتِ حُرّة، وزوجك مملوك فأمرك بيدك، يعني: لك حق الخيار، "مَا لَمْ يَمْسَسْكِ زَوْجُكِ، فَإِنْ مَسَّكِ، فَلَيْسَ لَكِ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" ما يبقى لك خيار، "قَالَتْ : فَقُلْتُ هُوَ الطَّلاَقُ، ثُمَّ الطَّلاَقُ، ثُمَّ الطَّلاَقُ. فَفَارَقَتْهُ ثَلاَثاً"؛ أي: لكراهتها البقاء معه فيَنفسخ بذلك عقد النِّكاح.
وذكر الإمام: "مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهِ جُنُونٌ أَوْ ضَرَرٌ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ"؛ وهذا من جملة الخيار في النِّكاح إذا تزوجت الرجل فوجدته مجنونًا -والعياذ بالله- أو به عيبٌ مِنَ العيوب التي تُثبت الخيار مثل: البرص، والجذام، وغير ذلك، "فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ، فَإِنْ شَاءَتْ قَرَّتْ"؛ بقيت عند الزوج، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ"؛ اختارت الفراق.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الأَمَةِ تَكُونُ تَحْتَ الْعَبْدِ، ثُمَّ تَعْتِقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ يَمَسَّهَا، إِنَّهَا إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلاَ صَدَاقَ لَهَا، وَهِيَ تَطْلِيقَةٌ"؛ إن اختارت نفسها فلا صَداق لها وهذه تُعدّ تطليقة؛ اختيارها لنفسها، "وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا"؛ أي: بالمدينة المنورة، يقول الإمام مَالِكْ، وكذلك قال الإمام أحمَدْ لا أعلم فيه خلافًا.
وذكر: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَاخْتَارَتْهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاَقٍ"، كما تقدّم معنا شيءٌ من هذه المسائل، "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ".
وقيل أن التخيِّيِّر لها يُعد طلقة، فيحتاج إلى أن تُراجع، والذي عليه جماهير أهل العلم: أنه إذا خيَّرها زوجها فلها الحق أن تختار فإذا اختارت زوجها فلا تُعد طلقة، "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ".
"قَالَ فِي الْمُخَيَّرَةِ إِذَا خَيَّرَهَا زَوْجُهَا، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، فَقَدْ طَلُقَتْ ثَلاَثاً، وَإِنْ قَالَ زَوْجُهَا: لَمْ أُخَيِّرْكِ إِلاَّ وَاحِدَةً، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ"؛ المُخيَّرة إذا خَيَّرها زوجها فاختارت نفسها صارت مُطلقة ثلاث طلقات، لأن التخيِّيِّر عند المَالِكْية ثلاث طلقات. إذًا؛ فإطلاق لفظ التخيِّيِّر عندهم يقتضي تملُّكها ثلاث تطليقات، "وَإِنْ قَالَ زَوْجُهَا: لَمْ أُخَيِّرْكِ إِلاَّ وَاحِدَةً، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ" إلا أن يشترط في البداية يقول ملَّكتُك طلقةً.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ خَيَّرَهَا فَقَالَتْ: قَدْ قَبِلْتُ وَاحِدَةً، وَقَالَ: لَمْ أُرِدْ هَذَا، وَإِنَّمَا خَيَّرْتُكِ فِي الثَّلاَثِ جَمِيعاً، أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَقْبَلْ إِلاَّ وَاحِدَةً، أَقَامَتْ عِنْدَهُ عَلَى نِكَاحِهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِرَاقاً"، للمُخالفة بين ما خيَّرها وبين ما اختارت.
رزقنا الله الإيمان واليقين والتقوى والاستقامة، وأعاذنا من موجبات الندامة في الدنيا والقيامة، وكفانا الشر والسوء والملامة، وثبّتنا على ما يحبه مِنَّا، ويرضى به عنّا حِسًّا ومعنى بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.
12 جمادى الأول 1443