شرح الموطأ -294- كتاب الطلاق: باب الإيلاء

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب الإيلاء، باب إِيلاَءِ الْعَبْدِ.
فجر الإثنين 2 جمادى الأولى 1443هـ.
باب الإِيلاَءِ
1605 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلاَقٌ، وَإِنْ مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ حَتَّى يُوقَفَ، فَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
1606 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ، وُقِفَ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَفِيءَ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ حَتَّى يُوقَفَ.
1607 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَا يَقُولاَنِ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ: إِنَّهَا إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَلِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ.
1608 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ كَانَ يَقْضِي فِي الرَّجُلِ إِذَا آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ: أَنَّهَا إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ شِهَابٍ.
1609 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ فَيُوقَفُ، فَيُطَلِّقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، ثُمَّ يُرَاجِعُ امْرَأَتَهُ: إنَّهُ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ سِجْنٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُذْرِ، فَإِنَّ ارْتِجَاعَهُ إِيَّاهَا ثَابِتٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ مَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ وَقَفَ أَيْضاً، فَإِنْ لَمْ يَفِيْ دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ، بِالإِيلاَءِ الأَوَّلِ، إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، لأَنَّهُ نَكَحَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَلاَ عِدَّةَ لَهُ عَلَيْهَا وَلاَ رَجْعَةَ.
1610 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ، فَيُوقَفُ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ فَيُطَلِّقُ، ثُمَّ يَرْتَجِعُ وَلاَ يَمَسُّهَا، فَتَنْقَضِى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، إِنَّهُ لاَ يُوقَفُ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ، وَإِنَّهُ إِنْ أَصَابَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَإِنْ مَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا، فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.
1611 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَنْقَضِي الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ, قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الطَّلاَقِ، قَالَ: هُمَا تَطْلِيقَتَانِ، إِنْ هُوَ وُقِفَ وَلَمْ يَفِيْ، وَإِنْ مَضَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ قَبْلَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَلَيْسَ الإِيلاَءُ بِطَلاَقٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الأَرْبَعَةَ الأَشْهُرِ الَّتِى كَانَتْ تُوقَفُ بَعْدَهَا مَضَتْ، وَلَيْسَتْ لَهُ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ.
1612 - قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَطَأَ امْرَأَتَهُ يَوْماً أَوْ شَهْراً، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى يَنْقَضِيَ أَكْثَرُ مِنَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِيلاَءً، وَإِنَّمَا يُوقَفُ فِي الإِيلاَءِ مَنْ حَلَفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَأَمَّا مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ إِيلاَءً، لأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الأَجَلُ الَّذِي يُوقَفُ عِنْدَهُ، خَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَقْفٌ.
1613 - قَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْ لاَ يَطَأَهَا، حَتَّى تَفْطِمَ وَلَدَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِيلاَءً، وَقَدْ بَلَغَنِي: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَهُ إِيلاَءً.
باب إِيلاَءِ الْعَبْدِ
1614 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ إِيلاَءِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: هُوَ نَحْوُ إِيلاَءِ الْحُرِّ، وَهُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَإِيلاَءُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بدينه القويم، وبيانه على لسان عبده الكريم سيدنا محمد ﷺ الهادي إلى الصراط المستقيم. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرم أفضل الصلاة والتسليم على عبدك ذو الخلق العظيم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن ثبت على منهاجه القويم مواليًا له فيك، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك أهل التقدير والتشريف والتكريم والتفخيم، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الشيخ سيدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالزوجين، ويذكر في هذا الباب، ما يحصل من الإيلاء، وكان في الجاهلية يُعدّ طلاقًا كالظهار، كما قال الإمام الشافعي: كانوا يعدّون الطلاق والظهار والإيلاء كله طلاق. ولما جاء ﷺ أقرّ- سبحانه وتعالى- الطلاق وجعله طلاقًا، وجعل للظِّهار حكمًا وللإيلاء حكمًا.
والإيلاَء: هو الحلف ومن آلى -أي: حلف- على شيء أن يفعله أن يتركه.
-
وقصد به الفقهاء: حلِف الزوج، أن لا يقرب زوجته أن لا يطأها أكثر من أربعة أشهر.
-
وقال الحنفية: أربعة أشهر فأكثر.
-
وقال غيرهم: أكثر من أربعة أشهر.
وفيه جاءت الآية الكريمة قول الله تعالى: (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ)؛ أي: يحلفون أن لا يقربوا نساءهم (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا)؛ أي: رجعوا (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[البقرة:226] (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:227]. فإما:
-
أن يفيء
-
أو أن يطلق
فإن لم يفعل، طلق الحاكم طلق عنه زوجته، وذلك لأن الحِكم والمقاصد متوفرة في كل مشروع من مشروعات الملة الحنيفية، ومن جملة ذلك ما اختبر الله به عباده من الحاجة إلى الطعام أو الشراب أو النكاح أو المنام وما إلى ذلك، فجعل لكلٍّ من ذلك أحكاماً تخصّه، وجعل - سبحانه وتعالى- الطريقة المرضية والمقبولة لإبقاء ذرية بني آدم، ولتكثير الأمة المحمدية، ولقضاء شهوة النكاح الزوجية وملك اليمين، قال تعالى: (إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)[المؤمنون:6-7].
فالواجب على جميع المؤمنين والمسلمين عامة، ثم على كل ذي عقل ولب وفطرة من خلق -الله تعالى-أن يعملوا على سدّ ثغرات الذهاب إلى غير الزوجة وما ملكت اليمين. (فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)، وأن يسدّوا أبواب ذلك، وأن يتجنّبوا الإثارات المؤديات إلى ذلك. وعلى عكس هذا درج إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن، بل عملوا على تزيين الحرام، وعلى الإغراء بالشر، وعلى إثارة الشهوات بمختلف الوسائل، وهم بذلك عاملون على هدم القيم، وحقائق الإنسانية ومستغلون هذا الاختبار الذي اختبر-الله تعالى-به عباده من تركيب هذه الشهوة، ليصلوا إلى أغراضهم من القطع عن الله، ومن الوصول إلى نار الله الموقدة، ومن فساد الحياة، فكل ما يبثّونه وينشرونه مرئيًا أو مسموعًا ويتعاملون به على إثارة الشهوات في المحرمات، مضادّةٌ لقويم الفطرة ولصريح الديانة، وسببٌ من أسباب هلاك الناس دنيا وآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وجب على المؤمنين أن يسدوا الثغرات وأن يبعدوا عن كل المثيرات للسوء بأي أصنافها، وبذلك:
-
حرّم الله-تبارك و تعالى- الخلوة بالأجنبية.
-
وبذلك حرّم الله النظر إلى الأجنبيات.
-
ولذلك حرّم -سبحانه وتعالى- سفر المرأة وحدها من غير محرم.
-
ولذلك حرّم على المرأة أن تتطيب ليجد الرجالُ ريحها.
-
ولذلك شرع سبحانه: (إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب:53].
-
ولذلك فرض الحجابَ على النساء، وأنزل به الكتابَ العزيز والقرآن.
كل ذلك لتستقر مجتمعات المسلمين خاصة، ومن عقل عامة من الناس على الفضيلة والشرف والكرامة والعفاف، وبذلك تصلح حياتهم ويسلمون من عذاب الآخرة، فجاءت هذه التشريعات لهذه المعاني.
ثم أن كان من جملة ما جعل الحق -تبارك وتعالى- في الزواج العفاف، وكان من النية الصالحة عند الزوج أن يُعفّ نفسه وأن يُعفّ زوجته كذلك. ويكون ذلك بما أحل الله - تبارك وتعالى- لهم مما أشار إليه ﷺ: "وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له فيها أجرٌ".
فإذا دخل بينهم أحاديث النفس والشيطان، ليقول: لا أقربكِ أو أهجركِ ولا أطؤك، فإن ذلك ُيفسد بعض مقاصد الزوجية وانتظام الحياة. فإذا وصل إلى الحلف بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وكذلك عند جمهور العلماء، الحلف بطلاقٍ أو عتاقٍ أو ظهار وما إلى ذلك، كله؛ أي: كل يمين منعت الجماعَ، فجاء في ذلك حكم الإيلاء، كانوا يعدّونه في الجاهلية مجرد طلاق، فأنزل الله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)[البقرة:226]؛ يعني: يوقف أربعة أشهر كما أشار سيدنا علي بن أبي طالب إلى المدة، فإذا انتهت المدة فإما: أن يفيء، وإما أن يُطلّق، أو يطلقَ الحاكم إن تأبّى عن ذلك.
وإنما يستعمل الهجر للتأديب في قوله تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)، إذا كان في ذلك حلًّا لشيء من الإشكالات في داخل البيت، لاستقامة كل منهم على أداء الحقوق للآخر، (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) خروجهنّ عن الطاعة وتقصيرهنّ في مهماتهّن وواجباتهن، أو تعلقهنّ بشيء من الشر والسوء، (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا)[النساء:34]، وإنما يكون ذلك الهجر مؤقتًا.
ثم إن الحق تعالى حدّد الأربعة الأشهر، وهو الخالق الأعلم بخلقه جلّ جلاله. ويروى أن سيدنا عمر-رضوان الله عليه- لما كان في تفقده لأحوال أهل المدينة في لياليه، سمع صوتًا من بيتٍ تقول فيه المرأة:
لقد طال هذا الليل وازورّ جانبه *** وطال عليّ ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله تُخشى عواقبه *** لحُرِّك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربّي والحياءُ يكْفّني *** وأُكرِم بَعْلي أن تُنال مراتبه
فسأل عمّن في البيت، وقيل أنه امرأة خرج زوجها في الغزو، في الجهاد وأبطأ، فأخذ يسأل عاقلات كبريات النساء الواعيات كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن: شهرين، وفي الثالث يقِل الصبر، في الرابع ينفد. فكتب إلى أمراء الأجناد أن لا تحبسوا أحدا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر. وجاءت الآية الكريمة: (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)[البقرة:226]، والحق أعلم بطبائع عباده وخَلقهم وتركيبهم، وهو الذي خلقهم جلّ جلاله وتعالى في علاه.
فكان هذا الحكم ولا يكون في ذلك طلاق وعليه جماهير أهل العلم، كما قال سيدنا علي، وقد جاء موصولًا بطرق أخرى، وصح عن سيدنا علي وهذا هو مذهبه، ولا يصح عنه ما نسبه إليه بعضهم من أنه يعد ذلك تطليقة، فقد كان ذلك في أيام الجاهلية. فمذهب سيدنا علي كمذهب الجمهور: أنه ُيوقف.
يقول: "إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ" إما مطلقًا أو مدة أكثر من أربعة أشهر، "لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلاَقٌ، وَإِنْ مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ حَتَّى يُوقَفَ"؛ يعني: أمام الحاكم، "فَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ"؛ أي: يرجع عن اليمين وحينئذٍ عليه أن يكفّر عن يمينه، فيُكفّر عن اليمين ويرجع إلى زوجته، "قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا". وحينئذ إذا انتهت المدة، ولم يقرب من أهله، أمره الحاكم يجبره: إما أن يعود إلى أهله وإما أن يطلق، (فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:226-227]، وإذا امتنع:
-
فالحاكم يجبره على أن يفيء إلى أهله.
-
ويُعزّر إن امتنع على ذلك.
-
وقيل يجوز أن يطلق عنه، هو يطلق -الحاكم- خصوصًا إذا طلبت الزوجة ذلك.
فعند بعض المذاهب أن الحاكم يأمر بإيقاع الطلاق، وإن أوقعه كان على حسب ذلك، وإن أبى من إيقاعه مع امتناعه من الفيء جاء عن الإمام مالك في (المبسوط): أن الإمام يُلزمه ذلك طائعًا أو كارهًا، فإن طلقها وإلا طلق عليه الإمام. قال: "وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا"؛ أنه يوقف بعد أربعة أشهر.
وذلك تعليم لنا وإرشاد أن نضبط أيضًا ألفاظنا وتعاملاتنا، ونترك المماحكات والتنازل مع النفس في كثير من شرورها أو حدّتها أو ميلها إلى الإضرار أو الإيذاء، وما إلى ذلك، فإن ذلك من مِلاك الأمر، وذلك من التقوى؛ أن يضبط الإنسان ألفاظه ويزمّ مشاعره وعواطفه بزمام التقوى وزمام الفضائل والقيم، فيكون على ذلك في مختلف أحواله، "مَنْ كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فَلْيَقُل خيرًا أو لِيَصمت".
يقول: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ آلَى"؛ أي: حلف "مِنِ امْرَأَتِهِ" ألا يقربها، "فَإِنَّهُ إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ، وُقِفَ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَفِيءَ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ حَتَّى يُوقَفَ". كذلك جاء في البخاري وغيره.
وذكر عن سعيد ابن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن: "كَانَا يَقُولاَنِ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ: إِنَّهَا إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَلِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ."، يعدّونها طلقة، واحدة وهذا خلاف ما عليه الأئمة الأربعة رضوان الله تعالى عليهم. وكذلك ذكر عن مروان: "أَنَّهَا إِذَا مَضَتِ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ، وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا"، والذي عليه الجمهور أنها لا تُعدّ تطليقة إلا بإيقاع الطلاق، فإما أن يفيء وإما أن يُطلّق طوعًا أو كرهًا بأمر الإمام "وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ رَأْيُ ابْنِ شِهَابٍ".
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ فَيُوقَفُ، فَيُطَلِّقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، ثُمَّ يُرَاجِعُ امْرَأَتَهُ: إنَّهُ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ سِجْنٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُذْرِ، فَإِنَّ ارْتِجَاعَهُ إِيَّاهَا ثَابِتٌ عَلَيْهَا"، فعلمنا أن الجمهور يقولون أن هذا الطلاق الذي يقع بعد مضي الأربعة أشهر طلاق رجعي، ويكون رجعيًا. وقال لك إن سمعت قول الإمام مالك :لا تصح رجعته إلا إن جامع في العِدّة، فإن انقضت العدة، ولم يرجع إليها فحرُمت عليه، ولم يقل ذلك غير الإمام مالك، لكن الإمام مالك هو الذي رأى ذلك.
قال: "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، مِنْ مَرَضٍ، أَوْ سِجْنٍ, أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُذْرِ"، كما أنه إذا كان هو من الأصل عاجز من الأصل قده حلف أو ما حلف أو كان هي أيضًا ممتنعة بعذر وما إلى ذلك فاختلفوا هل يقع الإيلاء أم لا يقع؛ لأنه أصلًا حلف أو لم يحلف فالأمر واقعٌ كذلك.
وهكذا يأتي قواعد المعاشرة بالمعروف، والإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان، الذي يُذكَّر به عند العقد، ويقول الأولياء للأزواج نزوّجك على ما أمر الله به، من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ليتجنّبوا أنواع الإيذاء والإضرار والمماحكات (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة:229].
قال "فَإِنْ مَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ وَقَفَ أَيْضاً"، هذا عند الإمام مالك يبقى يمينه الأول وبذلك قالوا: إذا حلف من امرأة أجنبية أن لا يطأها، ثم تزوجها.. فإن ذلك عند الجمهور،لا يعد إيلاء، وطئها أم لم يطأه إلا إذا صرّح، وقال: إذا تزوّجت فلانة فأحلف بالله أن لا أقربها كذا.. فهذا قال كثير: أنه يُعدّ منه إيلاء إذا تزوج عليها، وأما من دون أن يحدّد الزواج، فلا اعتبار بذلك الحلف إلا أنه إذا تزوج فوطئها وجب عليه أن يُكفّر عن اليمين، كما يجب على المولي أن يكفّر عن يمينه، إذا مضت الأربعة الأشهر، ولم يكن له عليها رجعة، لأنه كان نكحها -يعني بعد الطلاق الأول- نكاحًا جديدًا، ثم طلقها قبل أن يمسّها؛ لم يصبها بعد النكاح حتى انقضت الأربعة الأشهر فهذا الطلاق الثاني وقع قبل الدخول (إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)[الأحزاب:49].
وهكذا جاء عن أبي حنيفة: أنه إذا كان الطلاق أقل من ثلاث، ثم نكحها عاد الإيلاء، إذا استوفى عدد الطلاق، خلاص لم يعد الإيلاء؛ يعني: إذا نكحت زوجًا غيره، ثمّ تزوّجها وإن كان قد آلى سابقًا ما يعود شيء، وذلك معلومٌ وهو عند الجمهور.
قال: "وَلاَ رَجْعَةَ"؛ لأن الطلاق قبل الدخول تحصل به البينونة الصغرى.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ، فَيُوقَفُ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ فَيُطَلِّقُ، ثُمَّ يَرْتَجِعُ وَلاَ يَمَسُّهَا، فَتَنْقَضِى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، إِنَّهُ لاَ يُوقَفُ، وَلاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ" آخر "وَإِنَّهُ إِنْ أَصَابَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَانَ أَحَقَّ بِهَا"؛ لصحة الرجوع، "وَإِنْ مَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا، فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهَا"، فعند الإمام مالك: أن قربها في أيام العدة شرط لصحة الرجوع، ولم يقل بذلك غيره.
قال: "وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ"
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُولِي مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَنْقَضِي الأَرْبَعَةُ الأَشْهُرِ, قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الطَّلاَقِ قَالَ: هُمَا تَطْلِيقَتَانِ، إِنْ هُوَ وُقِفَ وَلَمْ يَفِيْ، وَإِنْ مَضَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ قَبْلَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَلَيْسَ الإِيلاَءُ بِطَلاَقٍ"، ولذا قال: "وَذَلِكَ أَنَّ الأَرْبَعَةَ الأَشْهُرِ الَّتِى كَانَتْ تُوقَفُ بَعْدَهَا مَضَتْ، وَلَيْسَتْ لَهُ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ."؛ لأنها قد انقضت عدتها منه، خلاص قد حصل الطلاق.
"قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَطَأَ امْرَأَتَهُ يَوْماً أَوْ شَهْراً، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى يَنْقَضِيَ أَكْثَرُ مِنَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِيلاَءً"؛ لأنه ما ذكر أكثر من أربعة أشهر، وإنما ذكر أقل من ذلك، وَإِنَّمَا يُوقَفُ فِي الإِيلاَءِ مَنْ حَلَفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الأَرْبَعَةِ الأَشْهُرِ، فَأَمَّا مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ إِيلاَءً"؛ يعني: الحكم المخصوص بالإيلاء ما ينطبق عليه "لأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الأَجَلُ الَّذِي يُوقَفُ عِنْدَهُ، خَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَقْفٌ.."
"مَنْ حَلَفَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْ لاَ يَطَأَهَا، حَتَّى تَفْطِمَ وَلَدَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِيلاَءً" عند الإمام مالك، يعني الذي يثبت به حكم الإيلاء،لأنها تستطيع أن تفطم ولدها أيّ وقت "وَقَدْ بَلَغَنِي: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَهُ إِيلاَءً."، أتى رجل سيدنا علي - رضي الله عنه - إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين قال: إني أراك قد آليت قال: حلفت من أجل أنها ترضع ولدها، قال: فلا إذًا. وجاء في رواية: قيل: ماتت أم صبي بيني وبينه قرابة، فحلف أبي أن لا يطأ أمي حتى تفطمه، فمضى أربعة أشهر، فقالوا: قد بانت منك، فأتى عليًّا فقال: إن كنت حلفت على تضرّةٍ فقد بانت منك، وإلا لا. وهو ما أراد الإضرار. والجمهور بعد ذلك على أنه وإن كانت مرضعًا، فإذا حلف أكثر من أربعة أشهر كان موليًا.
باب إِيلاَءِ الْعَبْدِ
ثم ذكر عن إيلاء العبد قال: هو نحو إيلاء الحر، عندما سئل ابن شهاب، "حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ إِيلاَءِ الْعَبْدِ، فَقَالَ:هُوَ نَحْوُ إِيلاَءِ الْحُرِّ، وَهُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَإِيلاَءُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ"، هذاك يُنتظَر أربعة أشهر، وأما العبد فشهران فقط.
-
إلا أن الإمام أبو حنيفة قال: إن كانت المرأة أَمَة فشهران وإن كان العبد آلى من حرّة فأربعة أشهر.
-
ولم يفرق الشافعي بين أن تكون المرأة حرّة أو أَمَة، فلا بد من الأربعة الأشهر.
-
وهكذا عند الإمام أحمد بن حنبل: أن مدة الإيلاء سواءً في حق الأحرار أو العبيد وأهل الذمّة، سواء لا فرق بين الحرة أو الأمة المسلمة أو الذمّية، الصغيرة أو الكبيرة.
فمدة إيلاء الأمة شهران؛ لأن المدة ضربت أجلًا للبينونة وتنتصف بالرق؛ نصف ما على الحرة، والله أعلم.
الله يملأنا بالإيمان واليقين، ويصلح شؤونا وديارنا ومنازلنا وقلوبنا وقوالبنا، ويصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، ويجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، ويجعل الموت راحةً لنا من كل شر، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
09 جمادى الأول 1443