شرح الموطأ -290- كتاب الطلاق: باب ما جاء في الْخَلِيَّة وَالْبَرِيَّة وأشباه ذلك

شرح الموطأ -290- كتاب الطلاق: باب ما جاء في الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، من حديث الإمام مالك رضي الله تعالى عنه
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب مَا جَاءَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.

فجر الثلاثاء 25 ربيع الثاني 1443هـ.

باب مَا جَاءَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ

1590- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّهُ كُتِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الْعِرَاقَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عَامِلِهِ، أَنْ مُرْهُ يُوَافِينِي بِمَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، إِذْ لَقِيَهُ الرَّجُلُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتَ أَنْ أُجْلَبَ عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ، مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَوِ اسْتَحْلَفْتَنِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ مَا صَدَقْتُكَ، أَرَدْتُ بِذَلِكَ الْفِرَاقَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ مَا أَرَدْتَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة وأحكامها الرَّفيعة وبيانها على لسان عبده مُحمَّد ذي الوجاهات الوسيعة، اللَّهم أدم صلواتك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن والاه واتبعه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين وعبادك الصَّالحين أجمعين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ،

فيبيّن الإمام مالك -عليه رضوان الله- أن الأقوال في الطَّلاق تنقسم إلى:

  • صريح 

  • وإلى كناية. 

  • وأن ما جاء في لفظ الطَّلاق وما اُشتّق منه فهو صريح بالاتفاق. وكذلك ما جاء من لفظ التَّسريح والفِراق عند الشَّافعية وعند الحنابلة فإنهم قالوا: إن ذلك صريح. ومعنى أنه صريح؛ أنه يُستعمَل لأجل الإفصاح عن فِراق الزوج لزوجته، ولا يحتاج إلى نية، ولا يقبل منه أنه يقول لم أنو الطَّلاق وما قصدت الطَّلاق، فبمجرد أن ينطق بواحد من هذه الألفاظ:

    • الطَّلاق بالاتفاق 

    • والتَّسريح والفِراق عند الحنابلة والشَّافعية. 

    • وقال الشَّافعية أيضًا: أن لفظ الخُلع والمُفاداة إذا اقترن بالمال أيضًا؛ يفيد أنه صريح وهو صريح في الطَّلاق. 

  • وما عدا ذلك من الألفاظ التي تحتمل الفراق وغيره؛ فهو الكناية. ويرجع الأمر فيه إلى نية المُتلفظ؛ فإن نوى به الطَّلاق حصل. إن نوى طلقة واحدة كانت طلقة، وإن نوى اثنتين كانت اثنتين، وإن نوى ثلاثًا نوى ثلاثًا. 

قال: "باب مَا جَاءَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ" من البائنة وما إلى ذلك من الألفاظ، ويشير إلى الألفاظ غير الصَّريحة. إذًا؛ الطَّلاق صريح وكناية. 

الصَّريح؛ الطَّلاق والسَّراح والفراق، وهذا لا يفتقر إلى نية، فهو وما تصرّف منه من تطليق وطلَّق ووقع عليكِ الطَّلاق وما إلى ذلك يُعدّ صريحًا لا يحتاج إلى نية؛ بمجرد التلفظ به يؤاخذ؛ لأنه إنما يكون مرتبًا على اللفظ. كما أن العقد أيضًا يكون مرتبًا على اللفظ. 

فأما إذا حدَّث نفسه ولم يتلفظ؛ فلا يقع شيئًا هكذا جماهير العلماء. 

  • وإن قال الزهري: إذا أجمع في قلبه الطَّلاق.. وقع. 

  • قال جماهير أهل العلم: لا يقع حتى يتلفظ بلفظه. 

فإن كانت صريحة؛ لم تحتج إلى نية ولا يقبل منه قول: ما أردتُ الطَّلاق، وإن لم تكن صريحة، فهو بنيّته.

ويقول: "أَنَّ رَجُلاً" من العراق "قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ"؛ يعني: كما يُخلَّى البعير في الصحراء ويترك زمامه على غاربه يرعى كيف شاء؛ يعني: خلّيت سبيلك. وجعلت "حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ"؛ يعني: عِصمتك على كتفك؛ كأنه يقول لم يبقَ لك ارتباط بي أو لم يبقَ لي أمر عليك بحكم الزوجية. "حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ". فكان الأمير هناك لمَّا توقف أهل العلم في ذلك كتبوا إلى سيِّدنا "عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"، فقال سيِّدنا عمر: قل له يوافينا في الموسم؛ يجينا إلى مكَّة وذلك أنه اختار له أن يحجّ بيت الله، وليكون وقت الموسم أخف عليه وأيسر في تحصيل الركوب والسبيل والوصول إلى مكَّة ذهابًا وإيابًا. فقال: قل له يوافينا في الموسم بمكَّة؛ أي: موسم الحج، وكان سيدنا عمر يريد الحج ذلك العام، وأمره أن يأتي بالرجل، فليتأكد منه وليتحقق ماذا قال. وهكذا شأن تعظيم الدّين، وتعظيم الفُتيا والاحتياط فيها، والوصول إلى التحقيق. 

فجاء الرجل فلقيَ سيِّدنا عُمَر وهو يطوف بالبيت سلَّم عليه "فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتَ أَنْ أُجْلَبَ عَلَيْكَ" أنت قلت يرسلونا إلى عندك في أيام الموسم، "فَقَالَ لَهُ سيِّدنا عُمَرُ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ"؛ يعني: البيت الحرام والكعبة المُشرَّفة، وفيه: 

  • تعظيم الأمر 

  • ووجوب الإفصاح عما كان في الضمير

وبعثَ فيه الهيبة في المكان الجليل وسأله برب البيت، "مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَوِ اسْتَحْلَفْتَنِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ مَا صَدَقْتُكَ"؛ يعني: أخبر عن تعظيمه لهذا القسم لهذا الموضع، وإنما يلتزم من البِر في حلِفه عنده مالا يلتزم في غيره من الأماكن، "أَرَدْتُ بِذَلِكَ" الكلام الذي تكلمت به "الْفِرَاقَ. قال: هُوَ مَا أَرَدْتَ."

جاء في الرِّواية أن سيِّدنا عُمَر كان يطوف في الموسم، أتاه الرَّجل في المسجد الحرام، قصّ عليه القصة. قال: ترى ذلك الأصلع يطوف بالبيت، اذهب إليه فسله ثم ارجع، فأخبرني بما رجع إليك. قال: فذهب إليه، سيِّدنا عُمَر يقول له في رواية: اذهب إلى ذاك الأصلع. وهو سيِّدنا علي بن أبي طالب، واسأله، فوصل عند سيِّدنا علي قال: مَن بعثك إلي؟ قال: أمير المؤمنين. فقال: استقبل البيت، واحلف بالله ما أردت طلاقًا؟ قال الرجل: وأنا أحلف بالله ما أردت إلا الطَّلاق. قال: بانت منك امرأتك. فرجع إلى عند سيِّدنا عُمَر. ففيه:

  • اهتمام الصَّحابة بالأمر 

  • وتغليظ الأمر عليه

  • وموافقة سيِّدنا عُمَر لرأي سيِّدنا علي بن أبي طالب في هذا الاجتهاد في هذه المسألة، وتأكدوا منه واستحلفوه بالله، وحكموا عليه بوقوع الطَّلاق بهذه اللفظة.

وهكذا جاء عن عطاء أن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رُفِع إليه رجل قال لامرأته: حبلك على غاربك. فقال لعليّ: انظر بينهما، فذكر من مثل هذا المعنى إلا أنه جاء في تلك الرواية أنه سأله عن نيّته، فقال: ثلاثًا. قال: هي ثلاث، فحكموا عليه بالثلاث، فربما تكررت الواقعة كما جاء في الرِّواية، والأمر محمولٌ بعد ذلك على نيّته، والله أعلم. 

أكرمنا الله بالقُرب والدُّنوّ والمجد والسُّمو والرّفعة والعلو، وغفر لأحيانا وموتانا بمغفرته الواسعة، وأصلح شؤوننا الباطنة والظاهرة والقريبة والشاسعة بما أصلح به شؤون الصَّالحين في عافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

26 ربيع الثاني 1443

تاريخ النشر الميلادي

01 ديسمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام