(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب غُسْل المرأة إذا رأت في المنامِ مِثْل ما يرى الرَّجُلُ، وباب جامع غُسل الجنَابة.
فجر الإثنين 6 ذي الحجة 1441هـ.
باب غُسْلِ الْمَرْأَةِ إِذَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ
129- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: الْمَرْأَةُ تَرَى فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ، أَتَغْتَسِلُ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ فَلْتَغْتَسِلْ". فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: أُفٍّ لَكِ، وَهَلْ تَرَى ذَلِكَ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "تَرِبَتْ يَمِينُكِ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ".
130- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَاري إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ".
باب جَامِعِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ
131- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُغْتَسَلَ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ حَائِضاً أَوْ جُنُباً.
132- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَعْرَقُ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ يُصَلِّى فِيهِ.
133- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْسِلُ جَوَارِيهِ رِجْلَيْهِ، وَيُعْطِينَهُ الْخُمْرَةَ وَهُنَّ حُيَّضٌ.
134- وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ لَهُ نِسْوَةٌ وَجَوَارِى، هَلْ يَطَؤُهُنَّ جَمِيعاً قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِل، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ جَارِيَتَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَأَمَّا النِّسَاءُ الْحَرَائِرُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ فِي يَوْمِ الأُخْرَى، فَأَمَّا أَنَّ يُصِيبَ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ يُصِيبَ الأُخْرَى وَهُوَ جُنُبٌ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
الحمدُ لله مُكرِمِنا بالشَّريعة العظيمة الوَسيعة، وأحكامِها القويمة الرَّفيعة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم، على سيِّدنا المُجتبى المُختار مُحمَّد بن عبد الله، صَفوة الله، وخِيرته مِنْ براياه، وعلى آله وصحبه الهُداة، وعلى مَنْ والاهُم في الله واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم المُوافاة، وعلى آبائه وإخوانه مِنْ رُسُل الله وأنبياه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الرَّاحمين.
ويذكرُ الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في مواصلة الأحاديث المُتعلقة بالطهارة: "باب غُسْلِ الْمَرْأَةِ إِذَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ"، وذلك أنَّه مُشتهِرٌ بينهم رؤيا الرِّجال التي بها يحصلُ الإنزال وهم نيام، فيجب عليهم بذلك الاغتسال، ولم يكنْ ذلك مُشتهِرًا للنساء وخُصوصًا الناشئات مِنهُنَّ والمُقبلات وكأمثال السيِّدة عائشة؛ ولكنَّ الحديث جاء أيضًا برواية أُمِّ سَلَمَةَ -عليها رِضوان الله- مِنْ سؤال أُمُّ سُلَيْمٍ. أنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ -وهي ابنةُ مَلحان- هذه المرأة التي أسلمت، فكَرِه ذلك زوجُها، وسافر إلى الشَّام، وهَلَكَ كافِرًا مُشركًا -والعياذ بالله تعالى-، وقد ولدت له أنس بن مالك، فتزوجها أبو طلحة الأنصاري -عليه رِضوان الله تبارك وتعالى-. وكانت لها مَحرَمية مع النَّبي ﷺ، وكانت تقوم بالخدمة، وكانت تقوم كثيرًا بالخدمة له -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وتتفَقدُ كثيرًا مِنْ أحواله. وقد يَمِرُ في بعض الأيَّام، فيَقيلُ عندها؛ أي: ينام القَيلولة في وقت الضُحى، فكانت أيَّام الحرِّ بالمدينة لمَّا يعرق؛ تَسْلُت العَرق مِنْه وتجمَعه له في قارورة، ولمَّا انتبَه يوم تَسْلُت العَرق، قال: ما تَصْنَعين يا أُمُّ سُلَيْمٍ؟، قالت: عَرقُك يا رسول الله، نتَطيِّبُ به، و نرجو بركتَه لِصبْيانِنَا. ﷺ فكان قال لها: أَصَبْت.
سألته ﷺ: "الْمَرْأَةُ تَرَى فِي الْمَنَامِ مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ، أَتَغْتَسِلُ؟ فقال لها رسول الله ﷺ: نَعَمْ فَلْتَغْتَسِلْ" ، كما جاء في الرِواية الآتية معنا: "إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ"، فإنَّ الرُؤيا وحدها لا تُوجب غُسلًا. وجاء في رِواية أنَّه سألته: أنَّ المرأة ترى زوجها يقعُ عليها، أَتَغْتَسِلُ؟ قال: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ. وجاء في هذه الرِواية: "قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: أُفِّ لَكِ"؛ وهي أيضًا كلمة تُقال عند استثقال الكلام وعند التضجُر مِنَ الكلام. "أُفِّ لَكِ" وتُقال: أفَّ وأفُّ (أفُّ وأفِّ وأُفَّ)؛ بمعنى واحد معناه؛ أتضجَّرُ مِنْ كلامك. "أُفِّ لَكِ". قالت: "أُفِّ لَكِ، وَهَلْ تَرَى ذَلِكَ الْمَرْأَةُ" هل يحصُل هذا للمرأة؟ ولم تكُنْ تعلم السيِّدة عائشة بذلك، فقال رسول الله ﷺ: "تَرِبَتْ يَمِينُكِ" لِمَا تضجَّرت مِنْ كلام وسؤال أُمُّ سُلَيْمٍ؟. "تَرِبَتْ يَمِينُكِ" هذا مِمَا اعتاد العرب قوله أيضًا عنْد الكلام؛ للتنبيه، وعنْد الكلام المُستغرب. ويُقال: تَرِبَتْ يَمِينُكِ، وثَكِلتك أمُّك، وأمثال ذلك مِنَ الكلمات التي يعتادُها العرب، لا يقصُدون بها معناها، ولا الدُعاء على صاحبها؛ ولكنَّها تكون علامة الاستغراب مِنَ الكلام؛ وإلَّا فهو يقول لها: ما الذي حمَلك على أنْ تُؤففي لأُمُّ سُلَيْمٍ، وتحكُمي أنَّ النِّساء ليس لهُنَّ إنْ لمْ يَحصُل لك ذلك؟ فإنَّه حاصلٌ للنِساء. فلم يكن قد حصل لها شيءٌ مِنْ هذا، فلهذا أنكرت ذلك. فقال لها: لماذا تُنكرين ما لمْ تعلمي؟ فلهذا ابتدأ بهذه الكلمة، وهو قوله: "تَرِبَتْ يَمِينُكِ". وجاء في بعض الرِوايات: "تَرِبَ جَبينُك"، وفي بعض الرِوايات: "تَرِبَتْ يداك"، وهو المشهور استعمال تَرِبَتْ يداك أو تَرِبَتْ يمينُك. والأصل في المعنى أنَّها لَصِقَتْ بالتُراب، فهو الدُعاء بالمَذلة أو بالافْتِقار؛ بالفَقر أو بالمَذلة؛ لكنْ لا يُراد به الدُعاء، ولا يُراد به معنى؛ ولكنْ صار في استعمال العَرب علامة فقط على استغراب الأمر. فهذا هو فيُقال له: تَرِبَتْ يمينُك، أو تَرِبَتْ يداك، أو ثكلَتْك أمُّك.
قال: "وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ"؛ أي أنَّ الولد إمَّا يُشبه الأم، ومَنْ مِنْ أقاربها مِنْ جهتها، أو يُشبه الأب، أو أحد مِنْ أقاربه مِنْ جهته غالبًا. فيقول: إنَّما يأتي الشَّبهُ مِنْ خلال التأثير في التكوين الرَّباني لهذه النُطفة. كما جاء في الروايات: أنَّه إذا غلب أو علا أو سبق ماءُ الرَّجُل أشبهه الجنين، أو سبق ماء المرأة، أشبهه، وكذلك جاء في ما يجعل الله -تبارك وتعالى- مِنَ الذُكور والإناث. قال: جاءت أُمُّ سُلَيْمٍ في الرِواية الأخرى، "عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَاري" -رضي الله عنه- صاحب رسول الله ﷺ "فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ"، فالأمر مُقيَّد برؤية الماء. وتقدَّم معنا في الأحاديث: أنَّه إذا وجد المَنِيَّ في ثوبه أو في فراشٍ لا ينام عليه غيره أنَّه يجِب عليه الغُسل، وذلك أيضًا مُجمَع عليه. كذلك المرأة إذا رأت وأنزلت، فيجب عليها الغُسل، كذلك باتفاق ومُجمع عليه.
وفي الحديث هذا أنَّ الحاضر معها أُمُّ سَلَمَةَ وليست السيِّدة عائشة؛ ولكنْ لا مانع مِنْ أنْ يكونا معًا عند رسول الله ﷺ، تكون عنده أُمِّ سَلَمَةَ وعائشة في وقتٍ واحد، ودخلت أُمُّ سُلَيْمٍ وعنده السيِّدة أُمُّ سَلَمَةَ والسيِّدة عائشة، وكلاهُما استنكرتا. وفي هذا أيضًا أنَّه ليس الاستنكار بمُجرد أنَّ السيِّدة عائشة مُقبلة في السِنْ، ولازال سِنّها صغير؛ وما عرفت، وحتَّى أُمُّ سَلَمَةَ وهي كبيرة، أنكرت ذلك؛ ما عرفت ذلك؛ لنُدرة ذلك بين النِّساء. فجاء في رِواية قََتادة عن أنس أنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ سألت النبي ﷺ: عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرَّجل، قال رسول الله ﷺ: إذا رَأَت ذلك، فأنزلت فعليها الغُسُل، فقالت أُمُّ سَلَمَةَ: أيكون هذا يا رسول الله؟! قال: "نعم، إنَّ ماء الرَّجُل غَليِظ أبْيَض، وماء المرأة رقِيق أصْفَر، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا، أو سَبَقَ، يَكُونُ مِنْه الشَّبَهُ"، بقُدرة الله -تبارك وتعالى- وإرادته.
وهكذا قالت السيِّدة عائشة أيضًا في بعض كلامها: "رَحِمَ الله نساء الأنصار، لمْ يمنَعُهن الحياء أنْ يَسألنَّ عن أمر دِينِهن". فجاء في رواية أنَّ أُمِّ سَلَمَةَ لمَّا سألت النبي ﷺ، غطّت وجهها، وقالت: أيكون ذلك مِنَ المرأة؟ فقال: لها نعم. وفيه انتشار الحياء، وقيامه بين الرِّجال والنِّساء، وفي ذلك المحيط، فطرةً وتربيةً وإيمانًا وإسلامًا. فأكَّدَ الإيمان والإسلام والشَّريعة وصف الحياء وقوَّاه. وقد كان موجودًا بحُكم الفِطرة والآثار المُتلقاة عمَّن سبق مِنَ الأنبياء؛ ولكن أكدَّ ذلك وأيَّده شأن الشَّريعة الغرَّاء. وقد قال ﷺ: "الإيمانُ والحياء في قرن، فإذا ذهب أحدُهما تبِعه الآخَرُ". مقرونان الإيمان بالحياء. وفي الحديث الصحيح: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ". وهكذا وفيه استعمالُ التنبيه لِمَنْ أنكر شيئًا عن غير عِلم، ولِمَن استعجل في إنكار شيءٍ أو تقرير شيءٍ وليس مِنَ المُطَّلعين عليه، فيُخاطَب بما يُنبهه ويزجُره، بمثل: تَرِبَتْ يمينُك، وثكَلتْك أمُّك. كما قال النبي لمعاذ: "ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم"؛ أي لِمَ بقيت تجهل خطر القول واللسان إلى هذه الساعة؟ ولهذا قال: "ثَكلتكَ أمُّكَ"، وما أراد أنَّه يُقتل، فتبكي أُمَّه عليه، وتكون ثكلى بفقده. ما أراد هذا، ولا قصد هذا؛ ولكنْ هكذا عادة العَرَب، إذا أرادوا التنبيه واستغربوا الأمر، فيبدأون بمثل هذه الكلمات.
وفي رواية قالت: "أوَتفعَلُ ذلك؟" المرأة، فقال ﷺ: "تَرِبَتْ يَمينُكِ، أنَّى يَأتي شَبَهُ الخُؤولةِ إلَّا مِن ذلك؟". وفي الرِواية الثانية لمَّا غطت وجهها وقالت: "أوَتحتَلم المرأة؟"، فقال ﷺ: "تَرِبَتْ يَداك، فَبِمَ يُشْبِهُهَا ولَدُهَا". وتكلم بعضُهم في تأويل: تَرِبَتْ يَمينُك أو تَرِبَتْ يداك؛ وأنَّ المقصِود فيه مِنَ الإتراب؛ بمعنى: الثَّراء والغِنى وأنَّه تعالى؛ ولكنَّه ﷺ كان يتكلم بلسان العَرب على عادة العَرب فيما يعتادونه مِنَ الألفاظ، مِمَّا لا يُخالف حياءً ولا مروءةً ولا شريعةً، فكان يتكلم، فحملُه على ما هو عليه مِنْ دون تكلُّف وتأويل هو الأولى وهو الأفضل. فقد كان يُخاطب النَّاس بلسانهم ﷺ وبأعرافهم. ومِنَ العجيب اتساعه في اللُغة ونُطقُه بالعربية بلهجات العَرب والقوم، وحتَّى الأقوام الذين جاءوا مِنْ بعيد ولمْ يكُنْ ذهب إلى بُلدانهم، ولم يكُنْ أحدٌ مِنهم في مكة ولا في المدينة، فإذا جاؤوا إليه، كلَّمهُم بلهجاتِهم. حتَّى أنَّ مِنْ مجَالسِه لمَّا يتكلم مع بعضهم مَا لا يفهم سيِّدنا أبو بكر وسيِّدنا عُمر، ما يقول! لا يدرون ماذا قال، فيقولون: ماذا قُلت؟ قال: سألوني عن كذا، فقلت لهم كذا وكذا. وهو تكلم بلهجة القوم ﷺ كأنَّه ناشئ بينهم أو عندهم. وهكذا كان يقول ابن عباس وغيره: "لا يُحيط باللغة إلَّا نبيِّ". لمَّا يذكُر أوجه العربية في الكلمات ومعانيها، يقول: ولا يُحيط باللغة إلا نَبيِّ. وهي مِنْ أوسع اللُغات؛ تجد فيه احتمال المعاني، وفي التَرادُف، وفي أنواع الاستعارات. فلا توجد في بقية اللُغات مِثل هذه الخصائص الموجودة في العربية التي اختارها الرَّحمن للقُرآن المُنزَل على خاتم أنبيائه ﷺ.
وبعضُهم حَمَل على تَرِبَتْ يمينُك؛ على الافتقار، المعني أنَّكِ افتقرتِ إلى أنْ تَعلَمي هذه المسألة، وأنَّكِ أنتِ فقيرة في فَهم هذه القضية. فقال: "تَرِبَتْ يَمِينُكِ"؛ والقضية كذا كذا كذا… وأنتِ قلَّ عِلمُك فيها مُفتقِرة إلى أنْ تَعلَمي الحقيقة. وعلى كُلِّ الأحوال فحَمْلُه على ما هو شائعٌ بين العَرب واضح. وبعد ذلك يتضمن أيضًا المعنى في المُستعمَل بين العَرب شيء مِنَ الحضِّ أو الحثِّ على التَعلُّم، وشيء مِنَ التنبيه في استعمال أمثال هذه الألفاظ.
فإذًا، المسألة مُتفق عليها بين أئمة الدِّين: أنَّ خروج المَنِي سواءً كان في نوم أو في يقظة مُوجب للغُسل، كما أنَّ الجِماع بحدِ ذاته ولو لمْ يخرج المَنِي موجب للغُسل. أمَّا رؤية الجِماع وغيره مِن دون خروج مَني، فلا يوجب شيئًا، وإنَّما إذا رأت الماء. كما قال ﷺ. وجاء عندنا في الرِوايات الثانية تقول: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ"، قدّمت ذلك لأنَّها تُريد أنْ تسأل عن مسألة يُستحيا مِنها. وحتَّى جاء في الحديث أنَّ النِّساء بعد ذلك قُلنَ لسيِّدتنا أُمُّ سُلَيْمٍ: فضحتينا عند النَّبي! قالت: إنِّي أريد أنْ أكون على بيِّنة مِنْ أمرِ ديني، فالله ناظري، أنا في حِلْ أم في حرام؟ متى أغْتسل ومتى لا أغتسل؟ هذا حُكم شريعة ودين. فكانت هي المُصيبة في ذلك لتلقي الأحكام مِنْ مَعدِنها وأصلها.
ويقول: "عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ.." وهذا مِنْ أصحِ الأسانيد الموجودة في مسالك أهل السُّنة -عليهم الرِضوان-. مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنَ عُمَرَ كان يقول: "لاَ بَأْسَ أَنْ يُغْتَسَلَ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ حَائِضاً أَوْ جُنُباً"، وهذا أحد الأقوال الخمسة في غُسل الرَّجل بفَضل المرأة، والمرأة بفَضل الرَّجل، فيقول: "لاَ بَأْسَ أَنْ يُغْتَسَلَ" الرَّجل "بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ حَائِضاً أَوْ جُنُباً". إنْ كانت اغتسلت مِنْ حيضٍ أو جنابة، فلا يغتَسل مِنْ باقي غُسلها أو مِنَ الماء الذي أبقته الفاضِل؛ الذي فضَل عن غُسلها. فهذا قول ابن عمر وعليه الأوزاعي والشَّعبي ويقول:
وقد صحّ ذلك عنه ﷺ أنَّه يتوضأ؛ أو يغتسل مِنْ الماء مع بعض أُمهات المؤمنين، فيغرف وهي تغرف حتَّى أنَّه يقول: ابقِ لي، وهي تقول: ابقِ لي مِنَ الماء. صلى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله. والرُخصة أنْ يتوضئا جميعًا، هذا الذي هو قول سيِّدنا الإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. أنَّ الكراهة مخصوصة، إذا اختلتْ المرأة بالماء. خلتْ وحدها. وكانت وحدها وتوضأت مِنه أو اغتسلت، ثُمَّ جاء الرَّجل، أمَّا إذا اغترافا جميعًا ولا كراهة للمرأة أنْ تغتسل أو تتوضأ بفضل الرَّجل، هذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
لكنَّ الذي عليه جمهور أهل العلم: أنَّه لا بأس أنْ يتطهّر كُلُ واحد بفضل طُهر الآخر، سواءً شرعا جميعًا أو خلا أحدُهما بالماء، فلا كراهة في ذلك. وجاء فيه بعض الأحاديث، مِنها حديث ابن عباس: أنَّ امرأة مِنْ أُمهات المؤمنين اغتسلتْ مِنَ الجَنابة، فجاء النَّبي ﷺ وأخذ الماء يغتسل مِنْ باقي الذي أبقته، فأخبرته أنَّها اغتسلت مِنه، أنَّها قد اغتسلت قبله مِنْ هذا الماء، فقال ﷺ: أنَّ الماء لا يُنجسه شيء، الماء طاهر محلَّه طَهور، ما تأثر بشيء. فهذا دليل الجمهور بأنَّه لا كراهة أنْ يتوضأ الرَّجل بفَضل المرأة، ولا المرأة بفَضل الرَّجل. وهكذا جاء عن ابن عباسٍ وغيره، ولو كان الغُسل مِنْ حيضٍ أو مِنْ نِفاسٍ أو مِنْ الجَنابة. وفي الحديث اغتساله ﷺ والسيِّدة عائشة مِنْ إناء واحد. وكذلك غير السيِّدة عائشة -رضي الله تبارك وتعالى- عن أُمهات المؤمنين.
ثُمَّ جاء "عَنْ نَافِعٍ: عنَ عَبدِ الله بِن عُمَرَ كَانَ يَعْرَقُ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ يُصَلِّى فِيهِ". وفي هذا طهارة عرق الجُنب كمثل الحائض، فهذا أيضًا مما هو مُجمعٌ عليه بين الأئمة، لا أحد يقول بنجاسة العرق، لا مِنَ المُحدث، ولا مِنَ المُتطهر، ولا مِنَ الحائض، ولا مِنَ الجُنب، العرق طاهر، ومثلُه البُصاق فهو طاهر. وعلى ذلك تمَّ إجماع الأئمة في طهارة عرق الجُنب والحائض وغيرُهما. فالعرق طاهر حتَّى ولو مِنَ الحيوان. وقول مالك في "رَجُلٍ لَهُ نِسْوَةٌ وَجَوَارِي… فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ جَارِيَتَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَأَمَّا النِّسَاءُ الْحَرَائِرُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ فِي يَوْمِ الأُخْرَى" ؛ بسبب أنَّ الجواري ما يَدخلن في القسم. والسُّنة كما هو معلومٌ أنْ يتوضأ وضوءه للصَّلاة، أو أنْ يستنجي قبل ذلك. فهذه الأحاديث المُتعلقة ببعض شؤون الطَّهارة وينتقل إلى التَيمم -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- والبيَّان فيه.
عِندنا الخلاف بين الشَّافعية في التوضؤ بفضل ماء المرأة ما بين الكراهة والإباحة، وهو عند بعض الحنفية وبعض الشَّافعية ورِواية عن الإمام أحمد؛ ولكنَّ البعض الآخر مِنَ الحنفية، وكذلك رِواية أخرى للإمام أحمد، وعند المالكية في المذهب، وعند البغوي مِنَ الشَّافعية: أنَّ فضل ماء المرأة طاهر مُطهّر يرفع الحدث مُطلقًا، ولا كراهة في استعماله أصلًا. للحديث الذي ذكرنا لمَّا جاء في الرِواية، قال: الماء لا يَنجُس، لمَّا قالت له: إني قد اغتسلت مِنْ هذا الماء. وفي الرِواية الأخرى قال لها: أنَّ الماء لا يجنُب، أنتِ كنت جُنب، اغتسلتي به، ولكنَّ الماء ما فيه جنابة، الجنابة فيكِ أنتِ، صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم، وعلى هذا جاءت الرِوايات عند أكثر الأئمة. وبالله التوفيق والحمد لله ربِّ العالمين.
فَقَهنا اللهُ في الدِّين، ورزقنا المُتابعة لحبيبه الأمين، والقيام بسُنّته في شؤوننا وأحوالنا في الظاهر والباطن، وجعلنا مِمَنْ يستمعون القول فيتبعون أحسَنه، وأيقظَ قلوبنا مِنْ كُلِّ غفلةٍ وسِنة حتَّى نتصف بالصِّفات الطَّيبة المُستحسنة، ونتنقى عنْ كُلِّ ما لا يُحبه الحقُّ ورسوله ﷺ في شؤوننا الظاهرة والباطنة، وجعلنا مِمَنْ ترعاه عين العناية في جميع الأحوال مع صلاح الشؤون في الظهور والبطون، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
09 ذو الحِجّة 1441