شرح الموطأ -288- كتاب النكاح: باب جامع النكاح

شرح الموطأ -288- كتاب النكاح، باب جامع النكاح، من حديث: « إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، أَوِ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ، فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا، وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ..»
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، باب جامع النكاح.

فجر الأحد 23 ربيع الثاني 1443هـ.

باب جَامِعِ النِّكَاحِ

1580 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، أَوِ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ، فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا، وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، وَإِذَا اشْتَرَى الْبَعِيرَ، فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ".

1581 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ: أَنَّ رَجُلاً خَطَبَ إِلَى رَجُلٍ أُخْتَهُ، فَذَكَرَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ، أَوْ كَادَ يَضْرِبُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِلْخَبَرِ.

1582 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَا يَقُولاَنِ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَيُطَلِّقُ إِحْدَاهُنَّ الْبَتَّةَ: إنَّهُ يَتَزَوَّجُ إِنْ شَاءَ، وَلاَ يَنْتَظِرُ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.

1583 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَفْتَيَا الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَامَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: طَلَّقَهَا فِي مَجَالِسَ شَتَّى.

1584 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: ثَلاَثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالْعِتْقُ.

1585 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الأَنْصَاري، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى كَبِرَتْ، فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَتَاةً شَابَّةً، فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاَقَ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَحِلُّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشَّابَّةَ، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاَقَ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، ثُمَّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشَّابَّةَ، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاَقَ، فَقَالَ: مَا شِئْتِ، إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنَ الأُثْرَةِ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتُكِ. قَالَتْ: بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الأُثْرَةِ. فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ رَافِعٌ عَلَيْهِ إِثْماً، حِينَ قَرَّتْ عِنْدَهُ عَلَى الأُثْرَةِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرِمنا برسالة حبيبه المُصطفى، وبلاغها على التمام والوفاء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرَّم على عبدك سيدنا مُحمدٍ وعلى آله الأطهار وأصحابه الشرفاء، وعلى من والاهم فيك ولهَديهم اقتفى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعت لهم عزًا وقدرًا وشرفًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، يا عالم السر وأخفى.

 وبعدُ، 

فيذكر لنا الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تعالى-: "باب جَامِعِ النِّكَاحِ" مجموعةً من الأحاديث المتعلقة بباب النِّكاح، وصدَّرها بحديث استحباب الدعاء أول ما يدخل الزوج على زوجته، واستحباب الدعاء عندما يشتري بعيرًا، وهو مُطَّردٌ في كل ما يستقبله الإنسان وكل ما يشتريه، وكل ما يدخل عليه، بأن يستحضر حقيقة الأمر، وأنه لا يأتي بالخير إلا الله، ولا يكشف الضر إلا الله، وأن جميع ما كان من زوجةٍ، أو ولدٍ، أو صاحبٍ، أو دابةٍ، أو أداةٍ من الأدوات، أو متاعٍ من الأمتعة، إن وهبك الله خيرها ودفع عنك شرها ظفِرت بما فيها من منفعة وذهبت عنك آفاتها؛ وإلا فكل شيءٍ يمكن أن يضرّك وإن استحسنته، وإن مالت نفسك إليه، قال تعالى: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّه) [النساء:11]، ولهذا يدعو الله حتى إذا أخذ ثوبًا أو لبس ثوبًا ويسأل الله خيره ويستدفع الله شره، وكذلك إذا ملك بيتًا أو دابةً مِنَ الدواب بعيرًا أو غيره، أو سيارةً، أو دراجةً وما إلى ذلك، وفي شؤوننا وأحوالنا كان يُعلمنا ﷺ الاستخارة كما يُعلِّم السورة من القرآن، إذا عزم أحدكم على أمرٍ فليصلِّ ركعتين وليدع الله، يقل: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ"، ويسميه "الذي عزمت عليه، خَيْرٌ لي في دِينِي ودنياي وأخراي ومعاشِي ومعادي وعاقِبَةِ أمْرِي - أوْ قالَ: عاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - فاقْدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بارِكْ لي فِيهِ، وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ، ويسميه، شَرٌّ لي في دِينِي ودنياي وأخراي ومعاشِي ومعادي وعاقِبَةِ أمْرِي - أوْ قالَ:  في عاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ - فاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كانَ، ثُمَّ أرْضِنِي به برحمتك يا أرحم الراحمين.

إذًا؛ فيعيش المؤمن معتمدًا على ربه، ملتجئًا إليه، سائلًا منه الخير، فإنه لا يأتي بالخير إلا هو، مُستدفعًا به الشر فإنه لا يدفع السوء إلا هو.

بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، بسم الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله، بسم الله ما شاء الله وما بكم من نعمة فمن الله، بسم الله ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

يقول ﷺ: "إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، أَوِ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ، فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا" مُقدَم رأسها، "وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ"؛ فهذا من جملة ما جاءنا من الآداب والسنن. وجاء عن ابنِ مسعودٍ كان إذا اشترى مملوكًا قال: اللهم بارك لي فيه، واجعله طويل العمر كثير الرزق.

وجاء عند أبي داود عن النَّبي ﷺ يقول: "إذا تزوَّج أحدُكم امرأةً أو اشترى خادمًا فلْيقُلْ: اللهمَّ إني أسألُك خيرَها وخيرَ ما جبلْتَها عليه، وأعوذُ بك من شرِّها وشرِّ ما جبلْتَها عليه، وإذا اشترى بعيرًا فلْيأخُذ بذِروةِ سَنامِه ولْيقُلْ مثلَ ذلك". وفي رواية : "فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة في المرأة والخادم".

 وجاء في رواية البيهقي: "إذا أفاد أحدُكم امرأةً أو خادمًا أو دابَّةً فلْيَأْخُذْ بناصيتِها وليسم الله عز وجل ولْيَقُلْ اللهم أني أسألُكَ من خيرِها وخيرِ ما جُبلت عليه"، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

قال: "وَإِذَا اشْتَرَى الْبَعِيرَ، فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ"، أعلى السنام؛ ما ارتفع من ظهر الجمل يقال له سنام، "وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ"، أي: مع الدعاء المذكور، ويستعيذ بالله تبارك وتعالى من شرها ومن الشيطان الرجيم، فإنه قد يتَسلَّط بواسطة مالٍ وغيره على الإنسان، فيُضله أو يهلكه، أو يقطعه عن ربه، أو يوقعه في حرام. ويُقال في الإبل أنها من مراكب الشيطان، أو أنها خُلقت من الجِن، فناسب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند أخذها.

في حديث للإمام البُخاري: "الفَخْرُ والخُيَلاءُ في أهْلِ الخَيْلِ والإِبِلِ والفَدّادِينَ"، يعني يكثر ذلك فيهم وفي طوائفَ منهم.

ومن هنا علمنا السُّنة للرجل والمرأة كذلك عند الزفاف، فيُستحب أن يسأل الله خيرها ويستعيذ بالله من شرها، فيأخذ بناصية الزوجة أول ما يلقاها ويقول: بارك الله لكل واحدٍ منا في صاحبه. "اللهمَّ إني أسألُك خيرَها وخيرَ ما جبلْتَها عليه، وأعوذُ بك من شرِّها وشرِّ ما جبلْتَها عليه". وهكذا جاء عنه ﷺ: "إذا أُدخل عليك أهلك فصلِّ ركعتين ومُرْها فلتصلِّي خلفك وخذ بناصيتها وسلِ الله خيرها، وتعوّذ بالله من شرها". 

وعلِمنا هذا أيضًا في اللباس، وعلِمناه أيضًا في مختلف أحوال الإنسان أن يسأل الله الخير حتى في الزمان، كما قرأتم في هذا الورد اللطيف، الدعاء الوارد عن نبينا ﷺ: اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه، ونصره، ونوره، وبركته، وهداه، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه. فيكون مستعيذًا بالله، مستعينًا بالله، متوكلًا على الله، لائذًا بإلهه تعالى في عُلاه، وهذا حال المؤمن، فيكفيه الله أنواع الشرور ما علِم منها وما لم يعلم، هو ومن حواليه من صغار وكبار، قريبين وبعيدين، إنما يعلمون بعض الخير، وإنما يعلمون بعض الشر، وإذا وهب الحق وهب مِنَ الخير ما يعلمون وما لا يعلمون، وإذا حفظ من الشر حفظ من شر ما يعلمونه ومن شر لا يعلمونه، جلَّ جلاله وتعالى في علاه (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].

فهكذا فليكن المؤمن على صلة بهذا الإله، وقد فُتحت لنا الصلة على يد مُصطفاه، فلا نعدل شيء بالأدعية التي وردت عنه عند الدخول، و وعند الخروج، وعند النوم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، فاغفر لي ذنبي. فينبغي أن نلح بها، وأن نحافظ عليها، وأن نحرص عليها، فإنها صلةٌ بيننا وبين رب العرش انفتحت على يد حبيبه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم، فينبغي أن نغنم ذلك، ونفوز بخيرها العظيم.

ويقول أيضًا: "أَنَّ رَجُلاً خَطَبَ إِلَى رَجُلٍ أُخْتَهُ" فقام هذا الأخ يذكر للخاطب أنه قد جرت حادثة من هذه الأخت، من هذه المخطوبة، أنها وقعت في زلة سابقًا، "فَذَكَرَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ" ضرب أخاها هذا، قال له تعال، "أَوْ كَادَ يَضْرِبُهُ" شكٌّ من الراوي، يعني: أنه اشتد عليه وعاتبه، "ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِلْخَبَرِ" من واحدة تَابت وأنَابت إلى ربها، أفي مثل هذا تُذكر الأسواء، وتُنشر بين الناس؟ أأحب الله هذا أم أحب رسوله؟ وما يدريك أنها قد صارت خيرًا منك، وارتفعت فوقك درجات، وأن الله قد بدّل سيئتها إلى حسنة.. "مَا لَكَ وَلِلْخَبَرِ" فأقامه على السُّنة أنّ هذه الأسواء لا ينبغي أن تُنشر ولا أن تُذكر، ولا يكون بها خبر وخصوصًا ممن ظهر عليه أثر التوبة والرجوع والندم، فلا يجوز أن يُعيَّر بشيءٍ من ذنبه، فإن عيّرته بذنبه لم تمت حتى تُبتلى به والعياذ بالله تبارك وتعالى. "مَن عَيَّرَ أخاه بذَنْبٍ لم يَمُتْ حتى يَعْمَلَهُ"؛ يُبتلى به فإنما شأن المؤمن الستر. وهكذا، ويجب على الإنسان سترها على نفسه وعلى غيره.

 وجاء في رواية أبي داؤد أن النَّبي ﷺ قال: "تَعافُوا الحدودَ بيْنكم، فما بَلَغَني مِن حدٍّ فقدْ وَجَب"، إذا قد وصل عند الحاكم فسيقيم الحد ولكن ما دام الأمر بينكم لا ينبغي أن تُشيعوه، ولا أن تقولوه، ولا توصِلوه للحاكم توبوا وأصلحوا ما بينكم وبين ربكم وهو العفو الغفور، الستار جلَّ جلاله وتعالى في علاه. وكانت المرأة قد أقلعت وتابت.

وهكذا؛ جاء أيضًا أن رجلا أراد أن يزوّج موليته، أخته أو ابنته، فقالت له: إني لا أريد أن أفضحك؛ إني قد بغيت، فذهب إلى عند سيدنا عُمَر وأخبره بما قالت، وهل يُزَّوجها؟ قال: زوّجها زواج العفيفات المسلمات، ولا تذكر شيء من ذلك، يعني: أليست قد تابت؟ قال: نعم، قال: فأذهب فزوّجها زواج العفيفات المسلمات. فعلموا من سُنَّة مُحمَّدٍ وهديه هذا السمو في التعامل مع هذه الحوادث والأشياء، والارتفاع عن تلطخ الألسن بهوى عن إشاعتها، (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19] والعياذ بالله تبارك وتعالى.

يذكر بعد ذلك عن "الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَا يَقُولاَنِ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَيُطَلِّقُ إِحْدَاهُنَّ الْبَتَّةَ" يعني: طلقة ثالثة أو طلاق بمُقابل، خُلع، لا يستطيع أن يراجعها، "إنَّهُ يَتَزَوَّجُ إِنْ شَاءَ، وَلاَ يَنْتَظِرُ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا" كما عليه جمهور العلماء. 

  • بلى هو متفقٌ عليه ما دام أنه لا يستطيع مراجعتها. 

  • بخلاف إذا كانت رجعية، فلا يجوز أن يُحدث زوجةً غيرها حتى تنقضي عدتها، لأنه يستطيع أن يراجعها في أي وقتٍ، 

وأما إذا كان قد طلقها الثالثة أو كانت طُلّقت بمقابل يعود إلى الزوج -خُلع- فحينئذٍ تحرم عليه مثل ما إذا طلّق المرأة فأراد أن يتزوج أختها، فإن كان الطلاق رجعي فلا يجوز أن يتزوّج أختها حتى تنقضي عدتها، وإن كان الطلاق خلعي أو ثلاث فيجوز أن يتزوج أختها وإن لم تنقضي عدتها، لأنه لا طريق له إلى أختها. وعليه جمهور أهل العِلم.

ثم ذكر أنهما أي "الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَفْتَيَا الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَامَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ : طَلَّقَهَا فِي مَجَالِسَ شَتَّى"، أي: ثلاث طلقات متفرقات لا طريق له إلى العودة إليها بحال.

وذكر لنا قول سيدنا "سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: ثَلاَثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ"؛ ما يكون فيها صفاط ولا ضحك ولا مزح، ما فيها مزح، "لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ : النِّكَاحُ"، فإذا قال: زوّجتك ابنتي ، قال: قبلت، قال: إنما أضحك عليك، مافيها أضحك عليك خلاص انتهى الأمر وصحّ، لا يوجد فيها لعب، "ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وهَزلُهُنَّ جِدٌّ". "وَالطَّلاَقُ"، قال: طلقت، ثم قال: ما قصدي لا، كيف ما قصدك! كلمة خرجت من لسانك خلاص أنت محاسب عليها، بانت منك، خرجت منك بالطلقة، ما دخلت إلى عقدك إلا بكلمة وتخرج بكلمة، أما تتكلم وتقول لا ما قصدت إنما أضحك، لا يوجد ضحك، ولا لعب ولا أمزح، إذا تلفظ بالطلاق وقع الطلاق. "وَالْعِتْقُ" كذلك قال: أعتق رقبة، قال: ما قصدت ذلك، وأنت لستَ معتوقٌ ولا شيء، خلاص إذا قد بدأ لفظ العتق منك فإن الشارف يتشوّف إلى العتق.

وهكذا؛ جاء في رواية عبد الرزاق أنه: "من طلّقَ وهو لاعبٌ فطلاقهُ جائزٌ، -أي نافذ-  ومن أعتَقَ وهو لاعبٌ فعتاقهُ جائزٌ، ومن نكحَ وهو لاعبٌ فنكاحهُ جائزٌ". وفي رواية: "لا يجوزُ اللَّعِبُ في ثَلاثٍ: الطَّلاقِ، والنِّكاحِ، والعتاقِ، فمن قالَهُنَّ فقدْ وجَبنَ" وجبن خلاص... وهذا الحُكم أيضًا مُتفق عليه.

كان الرجل على عهد النبي ﷺ يقول للرجل: زوجتك ابنتي. ثم يقول: كنت لاعبا. ويقول: قد أعتقت. ويقول: كنت لاعبا. فأنزَلَ اللهُ:(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوً) [البقرة:231]، فقال رَسولُ اللهِ ﷺ: "ثَلاثٌ مَن قالَهُنَّ لاعِبًا أو غَيرَ لاعِبٍ، فهُنَّ جائِزاتٌ عليه: الطَّلاقُ، والعِتاقُ، والنِّكاحُ". " "ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكاح، وَالطَّلاق، والرّجعَة"، وفي لفظٍ: النِّكاح والطلاق واليمين. نعم.

يقول بعد ذلك "عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الأَنْصَاري" -رضي الله تعالى عنه- قال: أن رافع بِنْ خديج بن رافع الأوسي الحارثي، عُرض يوم بدر على النَّبي ﷺ فاستصغره، وأجازه يوم أُحد أن يخرج معه، فشهد أُحد وما بعدها، سيدنا رافع بِنْ خديج، "تَزَوَّجَ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الأَنْصَاري" ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج "فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى كَبِرَتْ -ودخلت في السِّن- فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَتَاةً شَابَّةً، فَآثَرَ"؛ أي: مالَ واختار "الشَّابَّةَ عَلَيْهَا"، على القديمة، يعني: الميل بنفسه والنشاط لها، أنه آثرها في مطعم، ولا ملبس، ولا مبيت؛ ولكن يبدو من إقباله عليها، وانبساطه لها ما يُعرف الفرق فيه ما بينها وبين هذه، "فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاَقَ" الأولى، قالت: أنت تميل إلى هذه، وقلبك مع هذه، خلاص طلقني، "فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً" يعني رجعية، اتباع للسٌّنة، بعد ذلك، "ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَحِلُّ رَاجَعَهَا ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشَّابَّةَ، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاَقَ" ثاني مرة "فَطَلَّقَهَا" ثاني "ثُمَّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشَّابَّةَ" عاد آثر الشابة "فَنَاشَدَتْهُ الطَّلاَقَ، فَقَالَ: أسمعي "مَا شِئْتِ، إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ" ما بقيت إلا واحدة "فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنَ الأُثْرَةِ" وتصبرين على هذا لأنه لا أملك قلبي في ميله، "وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتُكِ"، وخلاص ما هناك رجعة، "قَالَتْ: بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الأُثْرَةِ" رجع إليها إيثار أن تبقى، فاستحكمت بعقلها أنه لا داعي لهذا فأحسن تبقى في عصمة الزوج وإن كان له ميلٌ إلى الأخرى، "بَلْ أَسْتَقِرُّ عَلَى الأُثْرَةِ. فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ رَافِعٌ عَلَيْهِ إِثْماً، حِينَ قَرَّتْ عِنْدَهُ عَلَى الأُثْرَةِ"، رضاها بذلك مِنَ ناحية، ولأن الأثرة إنما كانت فيما لا يملك على ما يقول الجمهور في ذلك، والله أعلم.

رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وآله الطاهرين، وعن جميع الصَّالحين، وعنّا معهم وفيهم بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

23 ربيع الثاني 1443

تاريخ النشر الميلادي

28 نوفمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام