شرح الموطأ - 274 - كتاب النكاح: باب ما جاء في الخِطبة

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الخِطبة.
فجر السبت 10 ربيع الأول 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْخِطْبَةِ.
1493 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ ،عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ".
1494 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ".
1495 - قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ". أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، فَتَرْكَنَ إِلَيْهِ وَيَتَّفِقَانِ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ تَرَاضَيَا، فَهِيَ تَشْتَرِطُ عَلَيْهِ لِنَفْسِهَا، فَتِلْكَ الَّتِي نَهَى أَنْ يَخْطُبَهَا الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، فَلَمْ يُوَافِقْهَا أَمْرُهُ، وَلَمْ تَرْكَنْ إِلَيْهِ، أَنْ لاَ يَخْطُبَهَا أَحَدٌ، فَهَذَا بَابُ فَسَادٍ يَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ.
1496 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) [البقرة:235] أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا: إِنَّكِ عَلَىَّ لَكَرِيمَةٌ، وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْراً وَرِزْقاً، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ.
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مكرمِنا بشريعتِه العظيمة، وبيانِها على لسان عبدِه محمدٍ الهادي إلى الطُّرُقِ القويمة، اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ وكرِّمْ على عبدِكَ المصطفى سيدِنا محمدٍ ذي الوَجاهات الواسعةِ الفخيمة، وعلى آله وصحبِه ومَن والاهُم فيكَ وسلكَ على طُرقِه المستقيمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياءِ والمرسلين الذين جعلتَهم القدوةَ لأرباب المسالكِ الحسنةِ والقلوبِ السليمة، وعلى آلهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرّبين وعبادِكَ الصالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وانظر إلينا بعينك الرحيمة.
وبعدُ،
فيتكلم الإمامُ مالكٌ -رضي الله تعالى عنه- عن الأحاديثِ التي وردتْ في النّكاح، وما يتعلّقُ به في الشّرع المطهَّرِ المَصون، وذلك من مُهمّات الحياة وما جاءت به الشرائعُ، ورتَّب اللهُ فيه الترتيبَ من لَدُن أولادِ سيدِنا آدمَ -عليه السلام- ذكورًا وإناثًا، ثم تتابعت الشرائعُ في أحكام النكاحِ في نبيٍّ بعد نبيٍّ، حتى جاء النبيُّ الخاتَمُ بالشريعةِ الغرّاء الناسخةِ لما قبلها من الشرائع، شريعة الحقِّ ورسوله محمد ﷺ، فكان المُنتهى إليها، فكان فيما يُذكر ويُروى: أنَّ سيدَنا آدمَ عليه السلام وَلدتْ له حواءُ عشرين مرةً، بل إحدى وعشرين، في كلِّ مرة تضعُ ذكرًا وأنثى، إلاّ شيثَ ابنَ آدمَ فإنها وضعتْهُ ذكرًا من دون أن يكون معه أحدٌ آخرُ، لا ذكرٌ ولا أنثى. وهو الذي انتقل إليه النورُ، فحينما حملتْ به آمنةُ من جبهة سيدِنا آدمَ عليه السلام إلى آمنة، فلما ولدتْهُ برزَ النورُ في جبهةِ شيثِ ابنِ آدمَ عليه السلام، وهو نور نبيِّنا ﷺ، ثمّ انتقل في ولدِ شيث إلى أن وصل إلى إدريسَ، ثم انتقل في ولدِ إدريسَ وأحفادِه إلى أن وصلَ إلى سيدِنا نوحٍ -عليه السلام-، ثم انتقل في ولد نوحٍ وولدِ ولدِه حتى وصل إلى هودٍ -عليه السلام-، ثم انتقل في أصلابٍ كثيرةٍ وفي قرونٍ كثيرةٍ عديدةٍ حتى وصل إلى إبراهيمَ -عليه السلام-، ولم يزل يلوحُ على جبهةِ سيدِنا إبراهيمَ حتى حملت هاجرُ بإسماعيلَ، فانتقل إلى إسماعيلَ ابنِ إبراهيمَ، ثم مِن أولاده قرونًا حتى وصل إلى عدنان، ومن عدنانَ انتقل إلى مُعَد وهكذا، وكان يلوح واضحًا على جبهة عبدِ المطَّلب، فلما حملتْ زوجتُه فاطمة بعبد الله انتقلَ النورُ إليها، فبرز على وجه عبد الله بنِ عبدِ المطلب، حتى تزوّجَ آمنةَ بنتَ وهبٍ، فلمّا حملت آمنةُ انتقل النورُ من جبهة عبد الله إلى آمنةَ، حتى ولدتْه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فكان في شريعةِ الله لنبيِّه آدمَ عليه السلام أنّ التوأمَ لا يجوز أن يتزوَّجا فهما محارمُ، ويتزوجُ الذكرُ الأولُ الأنثى التي بعدَه، والذكرُ الثاني الأنثى التي قبلَه، وهكذا، فكانت تلك الشريعةُ لِما رتَّبَ اللهُ تعالى من الضرورة لذلك. ثم شُرِّعت الشرائعُ بعد ذلك بعدَ أن تكاثرت الإنسانيةُ والبشر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
وهو في الشَّرعِ عقدٌ وميثاقٌ غليظٌ، يترتَّبُ عليه أماناتٌ وصِيانةٌ وعَفافٌ، وتكوينُ أُسَرٍ ووجودُ النَّسلِ في البشر، ويترتَّبُ عليه لِأُمّةِ محمدٍ ﷺ بكثرة النَّسلِ، أن يكثرَ الواردونَ على الحوضِ المورودِ عند مباهاةِ الأنبياءِ بعضِهم ببعضٍ أيُّهم أكثرُ عليه وُروداً، فقال ﷺ: "تَنَاكَحُوا تَكْثُروا فإني أُباهي بِكُمُ الأممَ يومَ القيامة".
والأصلُ فيه: إمّا الإباحة أو السُّنِيّةُ على اختلافٍ بين أهل العلم، ثم بعدَ ذلك:
-
قد يكون واجبًا لمن احتاجَ إليه وقَدرَ عليه.
-
وقد يكون سنَّةً لمحتاجٍ يطيقُه ولا يخشى على نفسه العنتَ.
-
وقد يكون مباحًا
-
وقد يكون مكروهًا
-
وقد يكون حرامًا لعدمَ قيامِه بالحقوق، أو كما حرّم المحارمَ وحرّمَ المحصناتِ من النساء وإلى غير ذلك.
فعلى هذا تأتي الأحكام الخمسةُ في النكاح. وهذا أيضًا يختلفُ باختلاف الأحوالِ واختلاف الحاجةِ والناسِ، والسالكُ في سبيل الله ينظرُ الأصلحَ لقلبه مِنَ المبادرةِ بالتزويجِ أو تركِه أو تأجيلِه، ويستعينُ بنظرِ شيخِه في ذلك حتى ييسّرَ الله له.
والنصوصُ تقتضي أنَّ الأصلَ فيه هو السُّنيّةُ والندبُ، ولكنْ قد يكون مباحًا، وقد يكون واجبًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون حرامًا. فأمَّا من لم يحتجْ إليه وليست له عنده نفقةٌ فهذا يأتي في حقِّه الكراهةُ، أو مَن خاف كذلك إضاعةَ الحقوق، وأمَّا من تيقّنَ عدمَ القيام بالحقوق ولا حاجةَ له فهذا يحرُمُ عليه. قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِيْنَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [النور:32].
وابتدأَ الشيخُ -عليه رحمةُ الله- في بيانِ حكمِ الخِطبة، وأنه لا يجوز للمسلم أن يخطِبَ على خِطبة أخيه، كما لا يجوزُ أن يبيعَ على بيع أخيه، ولا أن يشتريَ على شراء أخيه، ولا أن يسوم على سَوم أخيه، في نظام شريعةِ الله -جلّ جلاله- ترتيبُ المزاحمةِ على الأنكحةِ أو البيعِ أو الشراءِ أو السَّومِ، فمن سبقَ فلا يجوز لآخرَ أن يقتحمَ ويخطِبَ على خِطبة أخيه أو يبيعَ على بيعِ أخيه أو يشتريَ على شراء أخيه أو يسومَ على سوم أخيه. كما حَرِّمَ النَّجَشُ؛ وهو أن يُظهِرَ الرغبةَ في السلعة من دون رغبة لكنْ يزيدُ في الثمنِ ليغرَّ غيرَه، فكلُّ ذلك محرَّمٌ في شريعة الله تبارك وتعالى.
-
البيعُ على بيعِ أخيه: أن يتفقَ بائعٌ ومشترٍ على ثمنٍ في بضاعة، فيتكلمُ مع المشتري ويقول: عندي لك مثلُ هذه البضاعةِ بأرخصَ من هذا الثمن، أو عندي لك أحسنُ منها بمثلِ هذا الثمنِ، ليفسخَ العقدَ بينه وبين الأول ويأتيَ ويشتريَ منه؛ هذا البيعُ على بيعِ أخيه.
-
والشِّراءُ على شراءِ أخيه: أن يتفقَ البائعُ والمشتري أيضًا على الثمن ويتراضيان، فيأتي إلى البائع ويقول: أنا أشتري منك هذه السلعةَ بثمنٍ أكثرَ من ذلك، أعطيك فيها زيادةً، افسخْ منه وأعطِني إياها؛ فهذا الشراءُ على شراءِ أخيه ممنوعٌ.
-
والخِطبة على خِطبة أخيه: ما فسَّرَه به الإمامُ مالكٌ: أن يكونا قد تراضَيا، فتقدَّمَ بالخِطبة ووافقا وتراضيا على المهر، ثم يدخلُ فيخطِبُ، بخلافِ إذا تقدَّمَ ولم يرجع الخبرُ بعدُ، فيجوز أن يخطِبَ ثانٍ وثالثٌ إلى أن يتفقوا مع أحدٍ، فإذا اتفقوا مع واحدٍ وتراضَوا يحرُمُ على آخرَ يعلمُ أنهم اتفقوا أن يخطِبَ، لِما يترتبُ على ذلك من تشويشٍ وإفسادِ علائقَ وإثارةِ نفوسٍ، فجاءت الشريعةُ بهذا النظامِ البديع.
قال -عليه رضوان الله-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ". إذًا؛ فحالُ المخطوبةِ:
-
أن تكون قد أجابتْ وسكنتْ إلى الخاطب، أو تأذنُ لوليِّها في إجابتِه، فهذه يَحرُمُ خِطبتُها على غيره، أن يخطِبَها آخرُ، لأن فيه إفسادٌ على الخاطب الأول وإيقاعٌ للعداوة.
-
القسم الثاني: أن تردَّهُ أو لا تركنَ إليه، هذا معلوم، هذه يجوز خِطبتُها باتفاقٍ.
-
والقسم الثالث: يوجد من المرأةِ ما يدلُّ على الرضا والسكون تعريضًا لا تصريحًا، فهذه: على المعتمدِ أنه: إذا لم يتمَّ الرضا والركونُ والمَيلُ فمثل الثاني يجوز أن يخطِبَ حتى يحصل الرضا والاتفاق فيحرم الخِطبة.
هو كذلك في قول جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة، والمذكور عن الصحابة والتابعين رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وإنّما جاء هذا الشرطُ الذي ذكره الإمامُ مالكٌ لِما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ بعضَ النّساءِ استشارت النبيَّ ﷺ، وأنَّه خطبَها فلانٌ وفلانٌ، فكلَّمَها ﷺ لمَّا استشارتْهُ فيهم قال: فلان فيه كذا وفلان فيه كذا، ولكنْ اقبلي خِطبةَ فلان، فأمرَ أن يخطِبَها غيرُهما، فدلَّ على أنّه إذا لم يكن هناك اتفاقٌ ولا إجابةٌ ولا ركونٌ أنّه يجوز الخِطبة. أما المنهيُّ عنها فهذا هو الذي ذكره الإمامُ مالكٌ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
وذكر "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ". والحديثُ أيضًا جاءَ في صحيح البخاريِّ وغيرِه من كتبِ السُّنةِ الشريفةِ، وجاء في الرواية عنه ﷺ في صحيح مسلم: "المؤمنُ أخو المؤمنِ، فلا يحلُّ للمؤمنِ أن يبتاعَ على بيعِ أخيهِ ولا يخطِبَ على خِطبتِه حتى يذَرَ"؛ يعني: يتركَ، فإذا تفاسخوا هم ولَو قد حصلت الموافقةُ ثم إنَّهم تناكروا ورفضوا الخِطبةَ وفسخوها، فيجوزُ حينئذٍ أن تُخطبَ من غيره.
كذلك إذا باعَهُ على خِيارٍ فردَّ المشتري البضاعةَ في وقتِ الخِيارِ وتركَها، فيجوزُ لآخرَ أن يشتريَها لأنّه قد تركَها ذاكَ، أو أنَّ البائعَ أيضًا شرطَ لنفسه الخِيارِ ثم بنفسِه من دونِ أن يكلمَهُ آخرُ رأى أنْ لا يبيعَ فاستردَّها، فيجوزُ لآخرَ حينئذٍ أن يُساوِمَه عليها ليشتريَها.
هذا الذي قاله الإمامُ مالكٌ: "وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "لاَ يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ". أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، فَتَرْكَنَ إِلَيْهِ وَيَتَّفِقَانِ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ تَرَاضَيَا، فَهِيَ تَشْتَرِطُ عَلَيْهِ لِنَفْسِهَا، فَتِلْكَ الَّتِي نَهَى أَنْ يَخْطُبَهَا الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ"، قال: "وَلَمْ يَعْنِ"؛ أي: لم يقصد النبيُّ ﷺ "بِذَلِكَ إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، فَلَمْ يُوَافِقْهَا أَمْرُهُ"، ولم يزل التردّد بينهما والمشاورة وعدم الردّ بالقبول، فحينئذٍ يجوز أن يخطبَ الثّاني والثّالث، كما أشرنا لذلك في الحديث.
أما إذا قد تمّت الخِطبةُ فالأمرُ محرَّمٌ ومن كبائرِ الذنوبِ، حتى كان يقولُ الصحابي عُقبةُ بنُ عامرٍ -عليه رحمةُ اللهِ تعالى- وهو على المنبر: لَئِنْ يجمع الرجلُ حطبًا حتى يصيرَ مثلَ الجبلِ ثم يوقدَه بالنار، فإذا احترقَ اقتحمَ فيه حتى يصيرَ رميمًا، خيرٌ له مِن أنْ يفعلَ إحدى ثلاث: يخطِب على خِطبةِ أخيه، أو يسومَ على سَوم أخيه، أو يُصرَّ لَقْحَة) يُصرَّ لقحة من الغنم أو البقر، يصرُّ ثديَها فيمتلئ باللبن، فيعرضُها للبيع ليغرَّ أنها كثيرة الدَّرِّ وكثيرة اللبن، لما يُراه إلا أصرّها من قبل، فهذا قال سيدُنا عقبة: أحسنُ لكَ تجيب حطبًا كما الجبل، وتحرقه وتدخل فيه وتحترق أحسن ولا تفعل هذا، أن تخطِبَ على خِطبةِ أخيكَ، أو تبيعَ على بيعِ أخيكَ أو تشتريَ على شرائه، أو تُصرَّ اللقحةَ فتُوهم أنها ذاتُ لبنٍ كثيرٍ، يقول ﷺ: "من غشَّنا فليسَ مِنا".
ثم ذكرَ أيضًا خِطبةَ المعتدَّةِ؛ التي مات زوجُها فهي في العدَّة، أو طلّقها زوجُها طلاقًا بائنًا، من بابِ أولى التي طلّقها طلاقًا رجعيًا فإنها لا تزال كأنها في عِصمَتِه، ويجوزُ له إرجاعُها ما دامت في العدة، ولا يجوزُ لأحد أن يخطِبَها أصلاً، ولكنْ لو كانت العدةُ أيضًا من طلاق خلعيٍّ لا رجعةَ فيه أو مِن موتِ زوجٍ، مات زوجُها، لا يجوزُ التصريحُ بالخِطبة.
قال تعالى: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) [البقرة:235] فالتعريضُ هو الذي أشار إليه بقوله: "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)"؛ أي: لم تصرِّحوا به، فالخِطبةُ بالتصريحِ حرامٌ، (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) [البقرة:235]، حتى ينتَهِينَ من عِدتِهنَّ. وأمّا ما عرَّضتُم به من خِطبةِ النساءِ أو أكننْتُم في أنفسكُم من دون أن تتكلموا لا جُناحَ عليكم، لا إثمَ عليكم في ذلك إن أضمرتُم في أنفسِكم، -أكْنَنتم- في أنفسكم قصدَ نكاحِهنَّ إذا انتهينَ من العِدة، هذا ما يضرُّ القصدُ ولا يضرُّ التعريضُ من دون التصريحِ بالخِطبة.
"(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)"
-
فأباحَ لكم التعريضَ
-
وحرّمَ عليكم التصريحَ
بالخِطبة.
"(وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)" إمّا بالنكاحِ الصريحِ أو يعقدَ النكاحَ سِرًّا في العِدةِ إذا حَلَّت أظهرَ ذلك، أو أن تكونَ بمعاهدةٍ أن لا تتزوجَ غيرَه، يعاهدُها أن لا تتزوجَ غيرَه وهي في أيام العِدة، كلُّ ذاك حرام. "(وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً)"؛ يعني: التعريضَ الذي أبحْناهُ لكم أنْ تقولوا قولاً معروفًا، فسّرَ القولَ المعروفَ: "أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا: إِنَّكِ عَلَىَّ لَكَرِيمَةٌ"، وكم فيك من راغب، "وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ"، مثل هذا ما يصرّحُ بالخِطبة، "وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا" وهو أنّ اللهَ لسائقٌ إليك "رِزْقًا، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ" فهكذا يجوز، أما التصريح فلا.
وجاء: واللهُ سائقٌ إليكِ خيرًا أو رزقًا، عائدٌ من القولِ بلفظ التعريضِ، أن يقول: إني أريدُ التزويجَ، وإني أحبُّ امرأة ووصفَها كذا وكذا، ويذكرُ أوصافَها من دون أن يقول أنه يريد أن يتزوجها، أو ودِدْتُ لو أن الله رزقني امرأةً، أمثالُ ذلك من التعريض من دون التصريح هو الذي يجوز في أيام العِدة، ولا يجوز لأحد أن يصرِّحَ لأحد بالخِطبة في أيام العِدة.
وهكذا فيما ذكر الإمامُ مالكٌ -وقُلْنا عليه عامةُ الصحابةِ والأئمةُ الأربعةُ-: أن سيدَنا عمرَ أرسلَ جريرَ بنَ عبدِ الله البجليَّ لامرأةٍ يخطِبُها له، ثم صادفَ واحدًا من الصحابة فأرسله أيضًا إليها عندها، ثم صادفَ عبدَ الله بنَ عمرَ فأرسله، فجاء إليها وقال: خطبَكِ فلانٌ ثم فلانٌ ثم فلانٌ، ذكر لها الثلاثةَ، وأنا الرابعُ أخطِبُكِ معهم، قالت: تلعبُ أم جادٌّ؟ قال: بل جادٌّ، قالت: إن كنتَ جادّ فأنتَ أقبلُكَ.
فذِكْرُه لهم جميعًا دلَّ على أنه إذا لم يحصل اتفاقٌ سابقٌ كان جائزًا أن يخطبَ هذا وهذا، ولكن إذا قد حصل اتفاقٌ يحرُم على أحدٍ أن يخطبَها وأن يقتحمَ ما اتفقوا عليه.
ثم إذا خطب على خِطبةِ أخيه قال الإمامُ مالكٌ -عليه رحمة الله تعالى- وله ثلاثُ رواياتٍ:
-
في روايةٍ عنه: تُفسَخ الخِطبةُ وما يجوز أن يستمرَّ فيها ويخطِبَها؛ لأنّها سبب فسخِ خِطبة مَن قبلَه، فخِطبتُه مفسوخة ويجب أن تُفسخ. فإن كان قد دخلَ بها فعليه الإثمُ وعليه أن يستغفرَ ولا تُفسخُ الخِطبة.
-
والرواية الثانية: أنها تُفسخُ في كل حالٍ ولو كان قد تزوّجَ.
-
والرواية الثالثة: إنما يترتبُ الإثمُ. كما قال الأئمةُ الثلاثةُ: إنما يترتبُ عليه الإثمُ،
-
الذي يأثمُ الخاطبُ
-
أمّا أهلُ الزوجةِ ما يأثمون، ما عليهم شيءٌ، أن يريدوا أن يختاروا هذا أو يختاروا هذا لهم الحقُّ أن يختاروا
-
لكنَّ الإثمَ عليه هو الذي خطبَ يأثمُ وإن صحَّ النكاحُ.
رزقَنا اللهُ الاستقامةَ على منهاج الشريعة، ورقّانا في مراتبها الرفيعة، وأعاذَنا من القطيعةِ والوقيعة، ومن البلايا الشنيعة، ومن كلِّ ما لا يرضيه في ظاهر الأمرِ وخافيه، بسرِّ الفاتحةِ وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
17 ربيع الأول 1443