شرح الموطأ -260- كتاب الصّيد: باب ما جاء فيمن يُضْطَرُّ إلى أكل المَيْتَة

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيد، باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ.
فجر السبت 18 صفر 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ
1443 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلِىَ الْمَيْتَةِ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ، وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا.
1444 - وَسُئِلَ مَالِكٌ، عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرَ الْقَوْمِ، أَوْ زَرْعاً، أَوْ غَنَماً بِمَكَانِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ، حَتَّى لاَ يُعَدَّ سَارِقاً فَتُقْطَعَ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلاَ يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئاً، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَنْ لاَ يُصَدِّقُوهُ، وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقاً بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ، مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ، مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ، يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ بِدُونِ اضْطِرَارٍ.
قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مكرمنا بشريعته والدين، وبيانها على لسان الحبيب الأمين خاتم النبيين صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وعلى آبائه، وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك عليه رضوان الله تعالى:- "مَا جَاءَ فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ"، ومسألة ما يُباح من المحرّمات عند الضرورة، ومقاييس ذلك وضوابطه، ونظر أهل الاجتهاد من فقهاء الشريعة فيه.
فيذكر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- عند الاضطرار لأكل الميتة، والآية الكريمة قد وردت بذلك كما أشار في قوله سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:173] وأورد في هذا أنه قال: "أَنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلِىَ الْمَيْتَةِ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ، وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا "
"وَسُئِلَ مَالِكٌ، عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرَ الْقَوْمِ، أَوْ زَرْعاً، أَوْ غَنَماً بِمَكَانِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ، حَتَّى لاَ يُعَدَّ سَارِقاً فَتُقْطَعَ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلاَ يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئاً، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَنْ لاَ يُصَدِّقُوهُ، وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقاً بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ، مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ، مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ، يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ بِدُونِ اضْطِرَارٍ". "قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ" .
فذكر مسألة الاضطرار، ومسألة الاضطرار غير مسألة الحاجة، ومسألة الاضطرار هي عند عامة الأئمة
-
أن يخاف على نفسه إن لم يتناول أن يموت فيهلك.
-
أو يصيبه مرض شديد وتعبٌ لا يطاق ولا يُقدر عليه.
في وقت هذه الضرورة وحلولها يأتي الجواز؛
-
أن يجوز أن يأكل من مثل الميتة أو من طعام الغير:
-
ما يسدّ رمقه ويبقي حياته.
-
وقيل بمقدار الحاجة؛ وهذا ما بين سدّ الرّمق، وما بين ما ذكر الإمام مالك من الشبع.
-
-
وما زاد على الشبع فذلك حرام بالاتفاق والإجماع
-
والوصول إلى حد الشبع فالجمهور: أنه لا يجوز، وأنه حرام وإنّما يأخذ بمقدار الضرورة؛ أو الحاجة
-
الضرورة: ما يسدّ الرّمق، ويبقي الحياة.
-
والحاجة: ما زاد على ذلك دون الشبع.
-
إذًا، فهذه المسائل التي نظر فيها أهل الاجتهاد، في قوله تعالى :(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)[الأنعام:119] فالضُرورة المبيحة التي يخاف التّلف بها إن ترك الأكل، إذا كان يخشى على نفسه، أو إن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرّفقة إذا كان مسافرًا.. بهذه الضرورة يحلّ أن يتناول ما يدفع عنه ذلك الضرر.
-
وإذًا؛ إنّما يكون مقدار الأكل بحسب ما يسدّ الرمق، ويأمن معه من الموت، وهذا جائز بالإجماع.
-
وبقي بعد ذلك في الشبع، فأكثر الأئمة أيضًا على أنه لا يجوز؛ لا يُباح أن يأكل إلى حد أن يشبع.
-
وهي أيضًا رواية عن الإمام مالك غير هذا الذي ذكر في الموطأ، وهو الذي أيضًا قال به بعض علماء المالكية.
-
وهكذا يقول عامة المجتهدين: يأكل قدر ما يُقيمه؛ لأنه الأمر الذي دلّت عليه الآية، وأُبيح لأجل تلك الضرورة.
وهذا القول عند الإمام مالك أو الرواية عن الإمام مالك: أنه يأكل بمقدار الشّبع؛ إلى أن يشبع. وكذلك شأن التزوّد، وشأن التزوّد الأمر فيه أيضًا واسع، إذا لم يتناول فلا يجوز له أن يتناول، وذلك إذا توقّع أنه يكون في الاضطرار فيما يقابله، وأنه يضطر إلى ذلك فيأخذ شيئًا من ذلك، وإن توقع أنه لن يجد غيره مما يبقي رمقه، أو يبقي حياته عليه؛ فإن التزوّد من دون أن يتناول منه شيئًا إلا للضرورة لا إشكال فيه، وهكذا يأتي الحكم عند الأئمة.
-
وعند المالكية أيضًا الرواية الثانية ذكرها في (مختصر خليل) عندهم يقول: المباح للضرورة ما يسدّ الرمق.
-
وهكذا يقول الدردير وغيره: أنه لا يجوز له الشبع.
-
ولكن المشهور والمعتمد في رواية الإمام مالك: أنّ له أن يشبع ويتزوّد من الميتة.
إذًا؛ فخالف في هذا بعض المالكية، ووافقوا الأئمة الثلاثة: أنه لا يجوز أن يأخذ إلا بمقدار ما يسدّ الرمق فقط ولا يجوز أن يصل إلى حدّ الشبع.
-
وهكذا رواية ابن الماجشون وابن حبيب من المالكية قولهم كقول الشافعية والحنابلة والحنفية: أنه لا يجوز أن يأكل إلا بمقدار ما يسدّ الرمق ولا يجوز أن يشبع.
جاء أيضًا في حديث أن بعض أرباب البادية أو المسافرين سأله ﷺ أنه نزل الحرّة، ونفقت عنده ناقة، أي: تلفت عليه وماتت، فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدّد شحمها ولحمها ونأكُلها، قال: حتى أسأل رسول الله ﷺ، ودخل المدينة فسأل النبي ﷺ قال: هل عندك غِنىً يغنيك؟ قال: لا، قال: فكلوها. هكذا في رواية أبي داود فأخذ من قوله: "فكلوها"؛ أن لهم أن يشبعوا. كما هي الرواية عن الإمام مالك فأجاز الشبع، وأجاز أن يُتزوّد منها.
ولكنّ الذي عليه الأئمة الثلاثة أنه لا يجوز إلا بمقدار ما يسدّ الرّمق فقط، لا يجوز ذلك، وإن تزوّد شيئا فعليه بعد ذلك أن لا يَقرَبه حتى يضّطر إليه، فإذا عاد الاضطرار كما كان أكل بمقدار الضرورة وهكذا.
إذًا، فالذي يُباح للمضطر تناوله أن يأكل ما يسدّ به رمقه، ويحفظ حياته فقط. عليه الأئمة الثلاثة في أظهر أقاويلهم ورواياتهم. وابن الماجشون وابن حبيب من المالكية قالوا بقول الأئمة الثلاثة وهي الرواية الثانية عن مالك.
والرواية الأخرى كما قرأنا في الموطأ: أن له أن يأكل بمقدار الشّبع؛ أنه يأكل منها حتى يشبع، ثم يتزوّد كذلك منها إن توقّع الضرورة والحاجة إليها.
وجاءت رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض الشافعية مثل قول الإمام مالك في جواز الشبع، والأظهر والأصح عند الأئمة الثلاثة أنه لا يجوز أن يتناول إلا بمقدار ما يسدّ الرّمق فقط.
فإذًا، عند الاضطرار هل تناوله لهذا المقدار واجب عليه أو يجوز أن يستسلم حتى يموت؟
هل يجب عليه أن يأكل بمقدار ما يسدّ الرّمق؟ هذا الذي عليه الجمهور. حتى جاء عن مسرور قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار، وأن هذا من جملة الإلقاء باليد إلى التهلكة والحق يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[النساء:29]، وقد قدر على أن يُبقي النفس إلى مدة وإلى حين فلم يفعل ذلك.
وجاء عن بعضهم استدلالًا بقصة عبدالله بن حذافة: أنه لا يلزمه الأكل؛ فإن عبدالله بن حذافة مع اضطراره حتى التوى رأسه من شدة الجوع فلم يأكل شيئًا. وقال الجمهور: إنما كان ذلك من عبدالله بن حذافة لإغاظة الكفار كما صرّح بذلك، وغيظ الكفار في الحرب والقتال والجهاد جائز أن يغيظهم بأي شيء ولو بأن يتعرّض للقتل إلى غير ذلك. فهذا حالة خاصة التي كان عليها سيدنا عبدالله بن حذافة، حتى جاء عنه أنه قال: قد كان الله أحلّه لي لأني مضطّر ولكني لم آكله لأُشمِتك بدين الإسلام، يقول لملك الروم وحتى لا أُفرحكم وأسرّكم أنني أكلت شيئًا يخالف ديني، فكان هذا من اجتهاد سيدنا عبدالله بن حذافة، وأراد به غيظ الكفار، (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)[الفتح:29] كما قال جَلَّ جلالهُ وتعالى في علاه.
إذًا، فهذا هو المقرر عند الأئمة.
-
وقال الخطيب الشربيني في (الإقناع) وغيره: وجوب الأكل إذ ذاك.
-
وقال البجيرمي: هو أصح الوجهين في المسألة؛ أنه لا يجوز أن يوقع نفسه في التّلف ويجب عليه أن يتناول بمقدار ما يسدّ الرّمق.
فهذا هو الأصح عند الشافعية وعند الجمهور وأنه يصير واجبًا عليه بمقدار ما يدفع الضرورة عنه. وكل من استطاع أن يدفع هذا الضرر بأيّ طعام حلال، فلا يجوز له أن يتناول شيء من الحرام سواءً كان ميتة أو ملكًا للغير أو أي شيء لا يجوز له أن يتصرف فيه أو يتناوله.
ثم كذلك اختلفوا في من كان مسافرًا سفر معصية ثم نازله الاضطرار في سفره، هل يحلّ له كما يحل للمسافر في المباح أن يأخذ من الميتة؟
-
وإذا كان عاصيًا بسفره يقول الإمام مالك والشافعية: أيضًا لا يحل له؛ لأن الرّخص لا تُناط بالمعاصي، فقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ)[البقرة:173]، قال الشافعي: معناهُ من كان مضطرًا ولا يكون موصوفًا بصفة البغي، ولا بصفة العدوان البتّة فأكل فلا إثم.
-
وهكذا يقول الإمام أبو حنيفة: معناهُ من اضطر فأكل غير باغٍ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه، فخصّص البغي والعدوان في الأكل وحده، فقال وإن كان مسافر سفر معصية فيجوز له أيضًا أن يأكل بمقدار ما يسدّ الرّمق.
وهكذا شأن التزوّد منها إذا توقع الحاجة، فيكون له التزوّد إن خاف، ويجب أن يقدّم غير ذلك مما يجد أو يتمكّن الوصول إليه من سؤال وغيره. فإذًا، مجرد التزوّد أمر واسع ولكن لا يجوز أن يتناول إلا بقدر الاضطرار. على أنه أيضًا في شأن شرب الخمر لأجل العطش، فالأصح عند جماهير من أهل العلم أن ذلك لا يجوز له، وإنما يجوز في حالة أن يسوغ اللقمة التي علقت في حلقهِ فخاف على نفسه الموت ولم يكن أمامه إلا خمر -وهذا نادر- حتى لا يغصّ فيموت فلا يشرق باللقمة فيصيغها بنحو الخمر؛ أما ما عدا ذلك فلا.
-
هكذا يقول مالك والإمام الشافعي: لا يجوز أن يشرب الخمر من أجل العطش لأنها لا تزيده إلا عطشًا، فهي لا تقطع العطش الخمرة ولكنها تزيد شاربها عطشًا.
-
وهكذا يقول الإمام مالك: إنما ذكرت الضرورة في الميتة لا في الخمر ما ذكر في الخمر شيء.
فهذا قول الإمام مالك: "أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا"؛ أي: من الميتة "حَتَّى يَشْبَعَ"، وهذا المشهور عن الإمام مالك، وإحدى الروايتين عن الشافعية وأحمد. والمرجّح عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة: أنه لا يأكل إلا ما يسدُّ الرَّمق.
قال: "وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا"، فهو عند مالك وعند الشافعي.
-
والأصح كذلك عن الإمام أحمد: أنه يجوز له التزوّد منها لكن لا يتناول إلا عند الضرورة.
-
وفي رواية أخرى عن أحمد: لا يتزوّد من الميتة شيء.
"فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى" عن الميتة؛ بأن وجد الحلال "طَرَحَهَا" ألقاها ورماها ولا يجوز أن يتناول شيئًا منها.
"وَسُئِلَ مَالِكٌ، عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرَ الْقَوْمِ"، فهل يأخذ من ثمر القوم من دون إذنهم؟ أو يترك ذلك ويأكل من الميتة إذا وُجدت معه الميتة وأمامه ثمر قوم؟
فكان مذهب الإمام مالك يلاحظ أمرين:
-
أن يلاحظ أن لا يصل إلى حدّ الاتهام بالسرقة، والوقوع في قطع يده.
-
والأمر الثاني أن لا يدّعي الناس الضرورة ويأكلون أموال الناس.
فيُقال لأحدهم: ما لك تأكل من زرعنا؟ فيدّعي أنه مضطر! فالكل سيأكل ويقول أنه كان مضطر.. فلا بد من وجود القرائن، فلأجل ذلك قال الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فليأكل من الميتة.
وجاء أيضًا عنه أنه إذا كان وجد من الثمر الذي يؤخذ من دون قطع، فيأكل منه بمقدار الحاجة، وأما ما احتاج إلى قطع وأخذ فلا بد من إذن صاحب ذلك المال.
"إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ، حَتَّى لاَ يُعَدَّ سَارِقاً فَتُقْطَعَ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلاَ يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئاً"، لا يجوز التزوّد من ذلك لأنه ملك الغير. فهذا الذي عليه المالكية: فرّق بين أكله من الميتة يشبع منها ويتزوّد لكن أكله من مال الغير، قال: لا، ما يردّ جوعه ولا يتزوّد؛ لأنه مال غيره، فصار ممنوع لحق الله ولحق مالكه؛ فاختلف عن الميتة الممنوعة لحق الله تبارك وتعالى.
وقال: "وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ"؛ يعني ما أكله من الثمر، أو الزرع مباح العين، إنما هو ممنوع لحق الغير، وبلغت الضرورة منه استباحة الميتة، فقد لزم صاحب هذا الزرع أن يعطيه ما يردّ به رمقه، إن لم يكن عنده ثمن، فإن كان عنده ثمن يجب عليه أن يبيعها عليه. "وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَنْ لاَ يُصَدِّقُوهُ" في اضطراره، "وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقاً بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي".
يقول الإمام مالك: لا يحلّ أن يتعرض لما يوجب قطع يده، وقال: "خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي" مشيرًا إلى أن هذا قول، واختاره من جملة أقوال العلماء، وأن في المسألة أقوال؛ ولكن هذا الذي اختاره الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
قال: مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ"، يفعل العدوان "مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ" حقيقة، ولكن "يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ بِدُونِ اضْطِرَارٍ."، بإظهاره الاضطرار، يُظهر أنه مضطر ويأكل وهو غير مضطر في واقع الأمر؛ فإذا أظهر هذه العلة الأخرى لمنعه من أن يأكل من الثمر؛ لأن ما يدّعيه من الضرورة أمر ما يُعلم إلا من جهته وبقوله في غالب الأحوال، فلو فُتح هذا الباب، لجاء الفاسقون والفاسدون يأكلون من أموال الناس، وإذا سُئل أحدهم يقول: أنا ما فعلت ذلك إلا مقدار الضرورة وأنا مضطر! ولكن جعل بقية الأئمة: أن الاحتراز من ذلك بقرائن الأحوال والعلامات، ومن كان وسط الديار وبين الناس ففرق بينه وبين المسافر، وبين المار في الطريق، ومن كان معروف بوجود المال في يده أو معرفته بالناس ووجود من يُقرضه، وما إلى ذلك، فيختلف، فاكتفوا بمثل ذلك.
لكن الإمام مالك قال أن هذا رأيه، وقال: "وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ"؛ أي: من أهل العلم فمال إلى ذلك.
فإذا اضطر مثلًا فأصاب عنده ميتة وخبز لا يعرف مالكه، فالإمام مالك قال: أنه يأكل الميتة إن كانوا لا يصدقونه أنه مضطر من أكل زرع وثمر أو شرب اللبن، وما إلى ذلك؛ وإن خاف أن تُقطع يده، أو لا يُقبل منه أكل من الميتة .
وهكذا جاء وجهان:
-
عند أصحاب الشافعي الأول أنه يأكل الطعام؛ لأنه ليس محرّم في ذاته، محرّم لحق الغير وجاءت الضرورة فيأكل بمقدار الضرورة، فهو إذًا قادر على طعام حلال فلا يجوز له أكل الميتة.
-
وقال المالكية: أن أكل الميتة منصوص عليه، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحق الآدمي تلزمه غرامة وعوض والعدول إلى المنصوص عليه خير من العمل بالمجتهد فيه.
قال أخذ مال الآدمي مجتهد فيه، وهو قول الأئمة باجتهادهم وأما قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)[البقرة:173] فالميتة نص، قال فَتقديم النص أولى من تقديم الاجتهاد، فبهذا قال بهذه القول عليه رضوان الله تعالى.
وهكذا إذًا، لو وجد مضطر طعام غائب أكل منه، ويغرم بدله هذا هو عند الشافعية، ومن وافقهم من الأئمة. كما إذا كان مُحرِمًا ويستطيع أن يصطاد، أو أن يأكل الميتة، فحينئذٍ يقدم أكل الميتة لماذا؟ لأنه لو اصطاد لصار أيضًا ميتة، كله ميتة ما يجوز لك تأكله، فهذا ميتة وذا ميتة.. فأحسن تأكل من الميتة من دون أن تتعدّى أنت بالصيد وأنت مُحرِم.
ينتقل بعد ذلك إلى كتاب العقيقة.
رزقنا الله الاستمساك بالعروة الوثيقة، وأدخلنا في دوائر أهل حُسن القيام بحق الشريعة والحقيقة، ووقانا الأسواء والأدواء، وتولّانا في السّر والنجوى بما هو أهله، وألهمنا رشدنا في كل حركة وسكون، وثبّتنا على متابعة الأمين المأمون، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
19 صفَر 1443