شرح الموطأ - 222 - كتاب الحج: باب الرُّخْصَة في رَمْي الجِمَار

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب الرُّخْصَةِ فِي رَمْي الْجِمَارِ.
فجر السبت 7 ذي الحجة 1442هـ.
باب الرُّخْصَةِ فِي رَمْي الْجِمَارِ
1222 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الْبَدَّاحِ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ.
1223 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أبِي رَبَاحٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَذْكُرُ: أَنَّهُ أُرْخِصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ، يَقُولُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ.
1224 - قَالَ مَالِكٌ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ، الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرِعَاءِ الإِبِلِ، فِي تَأْخِيرِ رَمْىِ الْجِمَارِ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الأَوَّلِ, فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ لاَ يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئاً حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى، كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ، رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الآخِرِ وَنَفَرُوا.
1225 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَةَ أَخٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أبِي عُبَيْدٍ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصَفِيَّةُ حَتَّى أَتَتَا مِنًى، بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ حِينَ أَتَتَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئاً.
1226 - قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ نَسِيَ جَمْرَةً مِنَ الْجِمَارِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ مِنًى حَتَّى يُمْسِيَ قَالَ: لِيَرْمِ أَيَّ سَاعَةٍ ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، كَمَا يُصَلِّي الصَّلاَةَ إِذَا نَسِيَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَدَرَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، أَوْ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا ببيان العبادة، وتوضيح أحكامها لنيل السعادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا مُحمد عبده ورسوله، وحبيبه وصفيّه وخليله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على مَنْ به هديتنا، وعلى آله وأصحابه ومن والاه فيك واتبعه فإليه دنا، وعلى آبائه وإخوانه مِنْ أنبيائك ورُسلك سادات الأتقياء الأمناء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وعبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله ورضوانه- باب ما يتعلق بالرُّخْصَةِ فِي رَمْي الْجِمَارِ الثلاث للحاج، بل تأخير الرَّمي مِنَ اليوم الأول إلى اليوم الثاني، أو إلى اليوم الثالث، فيتبع ذلك المبيت بِمِنَى الليالي الثلاث.
فيقول عن "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَبَا الْبَدَّاحِ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ"؛ الذين يقومون برعي الإبل للحُجاج، والإبل تحتاج أن تَرعى في نهارها "فِي الْبَيْتُوتَةِ" أي: المبيت، "خَارِجِينَ عَنْ مِنًى"، لِما يحتاجونه مِنْ رعي الإبل وحفظها، فلو أُخذوا بالمبيت بمِنَى لصَعُب عليهم وضاعت عليهم بعض أموالهم، فرَّخص لهم ﷺ في المبيت، كما رخَّص لأهل السقاية، وذلك أنَّ عمه العباس استأذنه أن يبيت أيام مِنَى، وقد حجّ معه أن يبيت بمكة مِنْ أجل متابعة شأن سَقي الحجيج؛ نزح الماء لهم مِنْ زمزم وتقديمه لهم بما يجعله في حوض كبير، وقد يطيبه بشيءٍ مِنَ الزبيب حتى تبدو عليه حلاوته، ويغترف النَّاس منه. والقصدُ أنَّ هذه أعمال مُهمة ويحتاج النَّاس إليها، فمن حجَّ مِنْ أربابها فقد رخّص له ﷺ. ومن يقوم بشأن الرعي ومنهم الحطابين كذلك الذين يجلبون للنَّاس حطبهم ليستمر لهم طبخ طعامهم
-
وقال الجمهور: إنَّ المبيت ليالي التشريق للحاج بمِنَى واجبٌ مِنَ الواجبات.
-
وعند الحَنَفِية: أنَّ ذلك مِنْ سُنَن الحجّ ولكنها مؤكدة، بحيث أنه إذا تركها يُخرج الدم، وهذا معنى الواجب عند غيرهم.
فإذًا المبيت بمِنَى للحاج:
-
على القول المشهور عند الشَّافعية والمَالِكْية والحَنَابِلَة: أنه واجب.
-
وفي قولٍ عند الشَّافعية كما هو رواية عند أحمدْ وهو مذهب الحَنَفِية: أنه سُنَّة.
وجاء الإذن بالسِقاية، فكل مَنْ قام بسِقاية الحجيج ونحوها فإنه يكون معذورًا عن المبيت، وهل يكون الاختصاص بالعباس وذريته الذين كانوا يسقون الناس؟ في قولٍ عند الحَنَابِلَة: أنَّ ذلك مخصوص بالعباس وأولاده.
إذًا؛ يجوز للرُعاة ترك المبيت بمِنَى ليالي مِنَى، يؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم النحر، يرمون جمرة العقبة ثم يذهبون ويبيتون خارج مِنَى ويأتون يوم النَفر الأول فيرمون عن اليوم الأول وعن اليوم الثاني، وذلك لوجود المشقة عليهم. فالشَّريعة قائمةٌ على رعاية المصالح للناس، فإذا جاؤوا في يوم النَفر الأول فرموا عن اليوم الأول وعن اليوم الثاني يخرجون، فإن جاءهم الليل وهم بمِنَى،
-
أهل السقاية فمعذورون.
-
وأما أهل الرعي فيبيتون، لأن الرعي يكون في النهار ولا يحتاجون غالبًا في الليل إلى مزاولة تفقد الإبل أو مراعاتها أو رعيها فيلزمهم أن يبيتون.
إذًا؛ هناك أعذارٌ تنفي وجوب المبيت بمِنَى، ويسقط بذلك الذنب عن صاحبها، فمن ترك مبيت مِنَى لعذر لا شيء عليه، والعذر منها:
-
سقاية سيدنا العباس، يجوز لهم تركه، قال الجمهور: سواءٌ تولى بنو العباس أو غيرهم.
-
وهكذا رِعاء الإبل، هذا العذر الثاني لهم ترك المبيت لأجل عذر الرعي إذا احتاجوا لذلك، فإن تيَسر أن يؤدوا حق الرعي في النهار ثُمَّ يذود الإبل إلى مكانٍ يحفظونه ويَجمعونه في الليل بلا ضرر عليهم، فيجب عليهم المبيت حينئذ.
-
وكذلك من كان يخاف ضياع مالٍ ونحوه، أو يخاف على نفسه، أو له مريض يحتاج إلى تعهده.. مع ما عند المَالِكْية من أنهم مع عذرهم لا يسقط عنهم الدم، أنَّ عليهم أن يُخرجوا دمًا عن ترك المبيت، إلا أنه لا إثم عليهم لوجود العذر، و وجود العذر:
-
عند مَالِك: ينفي عنهم الإثم، ويبقى وجوب الدم.
-
وعند الجمهور: أنهم إذا عُذروا انتفى عنهم الإثم وانتفى عنهم إخراج الدم أيضًا.
-
قال: "يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ"؛ يعني: جمرة العقبة، "ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ" عن اليوم الأول، ثُمَّ عن اليوم الثاني، رخّص ﷺ للرِعاء في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثُمَّ يجمعوا بين رمي يومين "ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ" يرمون ليومين، يرمون للأول ثُمَّ يرمون لليوم الثاني.
وقد فهمنا اتساع وقت الرمي عند الشَّافعية بأنه يجوز أن يؤخر جميع الرمي، حتى مَنْ يَبيت بمِنَى إلى آخر يوم من أيام التشريق، فما دام لم تغرب الشمس يمكن أن يتدارك رمي الأيام الثلاثة كلها، حتى رمي جمرة العقبة عند الشَّافعية يستمر.
-
وقال بعض أهل العلم: إنما يكون في يوم النحر وينتهي في المغرب.
-
وقال آخرون: بل يستمر إلى فجر اليوم الثاني.
-
وقال الشَّافعية ومن وافقهم: بل يستمر رمي جمرة العقبة ثُمَّ رمي الجمار الثلاث إلى آخر يوم من أيام التشريق، قال سيدنا الإمام الحدّاد:
نفضنا على الزلفى بمزدلفاتها *** ومَشعرها أكرم بها من مشاعر
وجئنا مِنى في خير كل صبيحة *** لرميٍ إلى وجه العدو المُجَاهر
وحلقٍ وإهداء الذبائح قربةً *** إلى الله والمرفوع تقوى الضمائر
وبِتنا بها تلك الليالي ويا لها ليالٍ *** لقد طابت بطِيب التزاور
وقد ذكر ﷺ عن مسجد الخَيف، أنه قد وقف به سبعون نبيًا، وكان يتذكر الأنبياء قبله وحجّهم في حَجة وداعهِ ﷺ ويصِفهم، ويقول كأني بالنبيِّ فلان يمشي من الوادي الفلاني ولباسه كذا، وكأني بفلان وفلان، وذكر سيدنا موسى وذكر سيدنا هود، وسيدنا صالح، وذكر جماعة من الأنبياء في كيفية حجهم، فكان ﷺ فيما تعبده الله به تتعلق روحه بأصفياء الله تعالى مِمَن تفرَّع نوره فيهم مِنَ الأنبياء والصالحين، وكان هو في العباد خير مَنْ يُحب في الله وأعظم من يُبغض في الله، فلا أحدٌ قام بحق الربوبية مِنَ الُمكلَفين مثله في الحب في الله والبُغض في الله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم ومن اهتدى بهداه.
وبذلك وجب على المؤمنين أن يعمروا أفكارهم، وأحاسيسهم، ومشاعرهم، وخواطرهم بِالأنبياء والأصفياء، والصالحين، وأن يُنَزِهوها عن التعلق بمِنْ خالف منهجهم، فإن ذلك من السموم المعنوية التي إذا تعلق بها الخاطر والبال أوجبت البَلبال والإغفال، والإهمال، والوقوع في الضلال، فلا تُعلِّق قلبك إلا بمن يُحبه ربك ويُحب منك أن تُعلِّق قلبك به من أجله محبةً فيه، فإنَّ المُتحابين في الله على منابر مِنْ نور يوم القيامة.
ثم ذكر لنا أيضًا: "أَنَّهُ أُرْخِصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ، يَقُولُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ" لأنهم يحتاجون الرعيَّ في النهار، فيتَداركون الرميَّ في الليل، وعليه جمهور أهل الفقه والعلم؛ أنهم يرمون أية ساعة شاؤوا مِنْ نهار، وكذلك يجوز الرميُّ بالليل، فإذا أخرَّه بالليل رماه كما يأتي معنا في الحديث عن ابْنِ عُمَر رضي الله تعالى عنهما.
"قَالَ مَالِكٌ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ، الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرِعَاءِ الإِبِلِ، فِي تَأْخِيرِ رَمْىِ الْجِمَارِ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ"؛ أي: جمرة العقبة، "فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الأَوَّلِ، فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ" على الترتيب الذي هو واجبٌ عند الجمهور، وقيل أن يجوز أن يرمي مِنْ عند الجمرة الصُغرى عن اليوم الأول ثُمَّ عن اليوم الثاني، والمُعتمد: أنه لا يصّح بل يرمي عن اليوم الأول، الأولى الصغرى، والوسطى والكبرى، ثُمَّ يرجع عن اليوم الثاني وهكذا… فلا يَشرع في رمي اليوم الثاني حتى يكمل رمي اليوم الذي قبله، وهذا ما لم تكن مشقة شديدة، وإلا فيَحملهم قول مَن قال مِنْ غير الجمهور مِنَ الفقهاء: أنه يمكن أن يُقدم رميَّ اليومين والثلاثة لكل حجرةٍ مِنَ الثلاثة الأحجار.
وكذلك ذكر الإمام مَالِكْ في المناسك: أنَّ مَنْ ترك شيئًا مِنَ الرميِّ للجمار في النهار يتداركه في الليل، أو في اليوم الثاني، أو في اليوم الثالث إلى آخر أيام التشريق، كما هو الأصل عن الشَّافعية، والأصح أيضًا عندهم أنه يَلزم الترتيب، فيرمي عن اليوم الأول ثُمَّ عن الثاني ثُمَّ عن الثالث، ومقابل الأصح: يجوز أن يرمي عن الأول والثاني والثالث في الجمرة الأولى ثُمَّ عن الأول والثاني والثالث في الجمرة الثانية وهكذا…
قال: "لأَنَّهُ لاَ يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئاً حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ" يعني: لا يمكن يُقدم الرمي مِنْ قَبل حتى يَلزم الرمي؛ وإنما يلزم الرمي ليوم من زوال شمس ذلك اليوم؛ أي: وقت الظهر في كل يومٍ من أيام التشريق، "فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى" ما رمى، "كَانَ" عليه الْقَضَاءُ".
وعند صاحبيّ الإمام أبي حَنِيفَة كمذهب الشَّافعي: أن الرمي يستمر أداءً إلى آخر يوم مِنْ أيام التشريق.
قال: "فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ، رَمَوْا" اليوم الثالث أيضًا "مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الآخِرِ" فقال تعالى: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ) [البقرة:203].
وذكر: "أَنَّ ابْنَةَ أَخٍ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أبِي عُبَيْدٍ نُفِسَتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ"؛ لأنهن كنَّ على وشك الولادة ومع ذلك لا يترُكن الحجّ ، وما كان عندهن شيء من الدلع الذي يُصاب به كثير من النَّاس، فمن كثرته قالوا: كنا نعهد النساء في وطننا كما هنَّ في مختلف أوطان المسلمين والعرب؛ تكون في مهنتها وفي عملها فَتأتيها الولادة، وكثير مِنهنُ يلدن في مزارعِهن حيث يحرثن ويقمن بالعمل، فإذا جاء وجع الولادة انتحت إلى شجرة وولدت، وأما الآن قالوا إنهم تقدموا وتروح كل شهر إلى المستشفى ويفحصوا هل زاد، هل نقص، إلى غير ذلك، شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم! كل ساعة يصلّحون عملية، شيء يحتاج إليها وشيء غير محتاج إليها من أجل المستشفى الفلاني يأخذ أجرة العمليات أكثر، وقالوا لبعضهم أنه ضروري يحتاج عملية، ولو تأخروا قليل ولدت ولادة طبيعية من نفسها وما احتاجت عملية ولا شيء… إلى غير ذلك من الوقائع الغريبة دخل حُب الدينار والدرهم إلى القلوب فأعماها، وصار النَّاس يُتاجرون بكل شيء، بالإنسان، وصحة الإنسان، وعقل الإنسان، وحتى بأديانهم والعياذ بالله تعالى! وفيهم الذي قال عنه ﷺ: "يَبيعُ دِينَه بعَرَضٍ من الدُّنْيا" يسير.. الله يُحوِّل أحوال المسلمين إلى أحسن حال.
وهذه نفست وهي في مزدلفة، أحرمت، وسافرت وطافت، وسعت، وراحت إلى عرفة، وخرجت من عرفة وهي في أيام الولادة، وصلت مِنْ عرفة إلى مزدلفة نَفَست، ولدت في يوم الذهاب مِنْ مزدلفة إلى مِنَى، "فَتَخَلَّفَتْ هِيَ وَصَفِيَّةُ حَتَّى أَتَتَا مِنًى" متى؟ بعد غروب الشمس نفس اليوم لا توجد سيارة ولا دراجة، بل دابة أو مشي على الأرجل، مشت بطفلها في نفس اليوم، وصلت إلى مِنَى بعد الغروب، يعني فات اليوم، "حَتَّى أَتَتَا مِنًى، بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ" يوم العيد نفسه، "فَأَمَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ" وإن كان ليل، وقامت ترمي وطفلها معها، وترمي الجمرة، جمرة العقبة مِنْ تلك الليلة، "وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِمَا شَيْئاً"؛ يعني: ما رأى أنهم أخّرا الرمي عن وقته وإن كانتا رمتا في الليل، خلافًا لمن قال أنه يخرج وقت الرمي عند غروب الشمس، إذا غربت الشمس كما هو عند الحَنَابِلَة وغيرهم، فإذا أخّر إلى الليل لم يرمي حتى تزول الشمس من يوم الغد فيقضي.
"وسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ نَسِيَ جَمْرَةً مِنَ الْجِمَارِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ مِنًى حَتَّى يُمْسِيَ قَالَ: لِيَرْمِ أَيَّ سَاعَةٍ ذَكَرَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ"، وعلى ذلك الجمهور، "كَمَا يُصَلِّي الصَّلاَةَ إِذَا نَسِيَهَا، ثُمَّ ذَكَرَهَا"، ليس شرطًا في وقتها كما يعتقد بعض العامة، نسي الظهر يقول خلاص ثاني يوم وقت الظهر سيقضي! بل عجِّل بسرعة اقضِ في وقت العصر، في وقت المغرب اقضِ ما فاتك، كل ما فاتك.
وقال سيدنا مَالِكْ: مثل الصَّلاة هكذا الرمي، تقضيه أي وقت مِنْ أيام مِنَى؛ أما إذا قد غربت الشمس آخر يوم من أيام التشريق، انتهى وقت العبادة بالرمي، ما يجيء بعد ذلك ويرمي بعد ما فاض الحُجاج وراحوا، أو يجيء الشهر الثاني ويرمي وحده، يقول: فاضي ما أحد هنا، وعلى راحته سيرمي.. في هذه الأيام عبادة وبعدها خلاص بعدها خلاص.. عبث، لعب ما تُعدّ عبادة، لا إله إلا الله.. بالتوقيت الذي وقّته الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله ﷺ.
قال: "فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا صَدَرَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، أَوْ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ".
-
"فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ"؛ يعني: ذِكرُ الجمرة التي نسيها
-
"بَعْدَ مَا صَدَرَ"؛ رجع من مِنَى وهو بمكة
-
"أَوْ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا" أي: من مِنَى ومن مكة
"فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ"، مقابل الرمي الذي تركه..
-
فإذا ترك حصاةً واحدة فعليه ُمد.
-
وإن ترك حصاتين فعليه مُدان.
-
وإن ترك ثلاث حصيات فأكثر فعليه دم.
الله يصلح أحوالنا والمسلمين، ويدفع السوء عنّا وعن المؤمنين، ويُرقّينا أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ويرزقنا المتابعة لحبيبه الأمين، ويجعل هوانا تبعًا لِمَا جاء به، ويُسعدنا بحسن الاقتداء به، والسير في سيره ودربه، والحشر في زمرته، والدخول في دائرته، وأن يصلح أحوال أمته في المشارق والمغارب.
اللهم به عندك، وَمنزلته لديك، تدارك أمته، وأصلح أمته، وفرّج كروب أمته، واجمع شمل أمته، واصلح شؤون أمته، واجعلنا في خيار أمته، وفي أنفع أمته لأمته، وأبرك أمته على أمته، وانفعنا بأمته عامة وبِخاصتهم خاصة، بِسر الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
09 ذو الحِجّة 1442