شرح الموطأ - 211 - كتاب الحج: باب مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي، وباب جامع الهدي

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي، وباب جامع الهدي.
فجر الأربعاء 20 ذي القعدة 1442هـ.
باب مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي
1142 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أنَّ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُول: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ.
1143 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُول: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ.
1144 - قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً) [المائدة:95] فَمِمَّا يُحْكَمُ بِهِ فِي الْهَدْي شَاةٌ، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ هَدْياً، وَذَلِكَ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَكَيْفَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ وَكُلُّ شَيْءٍ لاَ يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِبَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ شَاةٌ، وَمَا لاَ يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِشَاةٍ فَهُوَ كَفَّارَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ إِطْعَامِ مَسَاكِينَ.
1145 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ.
1146 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، أَنَّ مَوْلاَةً لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُقَالُ لَهَا رُقَيَّةُ، أَخْبَرَتْهُ : أَنَّهَا خَرَجَتْ مَعَ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى مَكَّةَ، قَالَتْ: فَدَخَلَتْ عَمْرَةُ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَأَنَا مَعَهَا، فَطَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ دَخَلَتْ صُفَّةَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ: أَمَعَكِ مِقَصَّانِ؟ فَقُلْتُ: لاَ. فَقَالَتْ فَالْتَمِسِيهِ لِي، فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى جِئْتُ بِهِ، فَأَخَذَتْ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ ذَبَحَتْ شَاةً.
باب جَامِعِ الْهَدْي
1147 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ الْمَكِّيِّ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ ضَفَرَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي قَدِمْتُ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكَ أَوْ سَأَلْتَنِي لأَمَرْتُكَ أَنْ تَقْرِنَ. فَقَالَ الْيَمَانِيُّ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ خُذْ مَا تَطَايَرَ مِنْ رَأْسِكَ وَأَهْدِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ : مَا هَدْيُهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: هَدْيُهُ. فَقَالَتْ لَهُ: مَا هَدْيُهُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلاَّ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ.
1148 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُول: الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ إِذَا حَلَّتْ لَمْ تَمْتَشِطْ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا هَدْيٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهَا شَيْئاً حَتَّى تَنْحَرَ هَدْيَهَا.
1149 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: لاَ يَشْتَرِكُ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي بَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ، لِيُهْدِ كُلُّ وَاحِدٍ بَدَنَةً بَدَنَةً.
1150 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ بُعِثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ وَهُوَ مُهِلٌّ بِعُمْرَةٍ, هَلْ يَنْحَرُهُ إِذَا حَلَّ، أَمْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ؟ فَقَالَ: بَلْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ.
1151 - قَالَ مَالِكٌ: وَالَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْهَدْي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَدْيَهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِمَكَّةَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [ المائدة:95] وَأَمَّا مَا عُدِلَ بِهِ الْهَدْيُ مِنَ الصِّيَامِ أَوِ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِغَيْرِ مَكَّةَ، حَيْثُ أَحَبَّ صَاحِبُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَعَلَهُ.
1152 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَخَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ مَرِيضٌ بِالسُّقْيَا، فَأَقَامَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى إِذَا خَافَ الْفَوَاتَ خَرَجَ، وَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ حُسَيْناً أَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِرَأْسِهِ فَحُلِّقَ، ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا، فَنَحَرَ عَنْهُ بَعِيراً.
قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَكَانَ حُسَيْنٌ خَرَجَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته ومِلّته، وبيان أحكام دينه على لسان خير بريّته، سيدنا مُحمد عبده وصفوته، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل محبّته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين، المُرتقين في الفضل إلى أعلى ذروته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام مَالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- ما يتعلق بالهَدْي في الأبواب المُتراسلة في ذلك، ويذكر في هذا الباب ما الذي يُراد بمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي. قال سبحانه وتعالى في ذكر الواجب على المُحصَر، قال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ) [البقرة:196] ما المُراد بما استَيْسَر مِنَ الهَدْي؟
وأشار إلى ما عليه جماهير أهل العلم وعامتهم أنَّ المراد به شاة، أو بَدَنة، أو بقرة، كله يدخل في ما استَيْسَر من الهَدْي، ولا يتعيّن عليه شيءٌ فوق الشاة، فأقل ما يكون من الأجناس وهي الإبل، والبقر، والغنم، أشياه، وكل جنسٍ فيه تفاضل بين أفراد جنسه، وقال تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ) [البقرة:196]، وذلك في شأن الإحصار: وهو المنع من الدخول إلى مكة لِمن كان قد أحرم بالحجّ، ومثله العمرة كذلك، كما عليه جماهير أهل العلم.
وجاء عن الإمام مَالِكْ أنه لا يكون الإحصار في العُمرة؛ لأن العُمرة لا يُخاف فوات وقتها، وقال الجمهور بلى، يكون الإحصار بالمَنع مِنَ الدخول للمُحرِم بالحجّ أو للمُحرِم بالعُمرة كذلك؛ لأنه ﷺ جاء مُحرِمًا بالعُمرة في عام الحُديبية فرُدَّ مِنْ تحت مكة ﷺ فتحلل، وبِالذبح والحَلق وعاد إلى المدينة المنورة بعد أن حرَّرَ بينه وبين قريش الصُلح في الحُديبية، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه مِنْ أحبابه.
فالممنوع بعد أن يُحرِم بالحجّ أو العُمرة إذا كان مُنع مِنْ طريقٍ يجب أن يذهب مِنْ طريقٍ آخر، فإذا لا طريق إلا ذلك ومُنع مِنْ ذلك، ومُنع مِنَ الدخول وهو مُحرِم بالحجّ أو بالعُمرة فهو المُحصَر حينئذٍ،
-
فإذا كان الذي منعه مِنَ المسلمين فالأفضل له أن يتحلّل ويعود.
-
وإذا كان الذي منعه وصدَّه مِنَ الكُفار فإن كان لدى المسلمين قوة لمغالبتهم قاتلوهم وجالدوهم حتى يدخلوا.
-
وإن لم يكن هناك أُهبة ولا استعداد فكذلك يتحللُ بالحَلق والنحر ويرجع إلى أماكنهم.
وإنما يحصل الحَصر بمنع العدو.
-
قال الأئمة الثلاثة: ولا يحصل الحَصر بالمرض ولا يُعد المريض مُحصَرًا.
-
قال الحَنَفِية: أنَّ المريض الذي يزيده انطلاقه في الحجّ مرضًا بإخبار ثقة الطبيب أو التجربة، صار بذلك المرض مُحصرًا، فحكمُه حُكم المُحصِر.
-
قال الشَّافعية وغيرهم: إلا أن يشترط عند الإحرام التحلّل بالمرض ونحوه، كما قال ﷺ: "قُولِي مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني"، فإن لم يشترط فلا يكون المرض وحده في الإحصار، فإن عجزَ بعد ذلك فله حكمُه وإلا أتم حجّهُ أو عُمرته.
قال: "باب مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي"،
-
جاء عن بْنِ عمر وبْنِ الزبير وعائشة أم المؤمنين أنَّ ما استيسر من الهدي الإبل خاصة البَدَنَة، أو البقر، ولم يجعلوا الشاة مما استيسر من الهَدْي، وكأنهم لمحو قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) [الحج:36].
-
ولكن قال الجمهور من الصَّحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة وغيرهم: أنه يكون الهَدْي شاةً، فإنَّ الحق تعالى لمّا أمر أن يُحَكّم عدلان في مَنْ قتل صيدًا وهو مُحرِم، وقد يكون المحكوم به شاة، قال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:95] فهو هَدْي وَ داخل في الهَدْي.
كما روى: "أن عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُول: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ". وجاء أيضًا هذا في رواية بِنْ أبي شَيبة، وعبد بنِ حمِيد، وابن جرير، وابنِ المنذر، وابنِ حاتم، والبيَهقي، وسعيد بْنِ منصور عن سيدنا علي بن أبي طالب: "مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ". وكل أنواع الهَدْي تُذبح في الحرم إلا هَدْي المُحصَر، دم المُحصَر، فحيث أُحصِر كما نحر ﷺ في الحُديبية خارج حدود الحَرم.
وذكر: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُول: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي شَاةٌ".
"قالَ الإمام مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ)" من قتل الصيد وهو مُحرِم (مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ) عليه جزاء (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) النَّعم إبل، وبقر، وغنم، شاة منها (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) الأنعام كلها هَدْي، (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً) [المائدة:95] يعني هذا الذي قتل صيدًا وهو مُحرِم يَحْكُمُ ذَوَا عَدْل، اثنان من أهل الخبرة والعلم، يقول أنَّ هذا الصيد المقتول يُساوي بَدَنَة، أو يساوي بقرة، أو يساوي شاة، أو أقل من ذلك. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) يذبحه في الحرم الشريف.
(أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ)؛ بأن يتَّصدق بقيمة ما وجب عليه من البَدَنة، أو البقرة، أو الشاة، يشتري بذلك طعامًا ويُقسمه على الفقراء. (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً) ينظر كم تأتي هذه القيمة به مِنَ الطعام فيصوم على عدد الأيام.
"فَمِمَّا يُحْكَمُ بِهِ فِي الْهَدْي شَاةٌ، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ هَدْياً، وَذَلِكَ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَكَيْفَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ وَكُلُّ شَيْءٍ لاَ يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِبَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ، فَالْحُكْمُ فِيهِ شَاةٌ، وَمَا لاَ يَبْلُغُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِشَاةٍ فَهُوَ كَفَّارَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ إِطْعَامِ مَسَاكِينَ." وجمهور العلماء والفقهاء على ذلك.
"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ." وهذا كما أشرنا مذهب ابن عمر، وابنِ الزبير وعائشة، وخصَّه "مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي" بالبَدَنة و البقرة.
ثم ذكر لنا عن "عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، كانت في حِجر عائشة رضي الله عنها، ومن أعلم النَّاس بحديث عائشة، وكانوا يسألون عنها في حديث عائشة، حتى كتب سيدنا عُمَر بِنْ عبد العزيز إلى ابِنْ حزمٍ أن يكتب له أحاديث عَمرَة هذه. "خَرَجَتْ" "إِلَى مَكَّةَ"؛ يعني: إلى الحجّ قال: "فَدَخَلَتْ عَمْرَةُ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ" يوم الثامن، "وَأَنَا مَعَهَا" في هذا السفر كانت متمتعة، "فَطَافَتْ بِالْبَيْتِ" وَسَعت "وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ دَخَلَتْ صُفَّةَ الْمَسْجِدِ" يعني: مؤخر المَسْجد، وقيل سقائف المسجد "فَقَالَتْ: أَمَعَكِ مِقَصَّانِ؟" المقص المِقراض، "فَقُلْتُ: لاَ. فَقَالَتْ فَالْتَمِسِيهِ لِي"، أطلبيه لي، "فَالْتَمَسْتُهُ حَتَّى جِئْتُ بِهِ، فَأَخَذَتْ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا".
(فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ) [البقرة:196) فلمّا كان يوم النحر ذبحت شاتها، هذا الذي استيسر من الهدي.
باب جَامِعِ الْهَدْي
ثُمَّ ذكر: "باب جَامِعِ الْهَدْي"؛ الأحاديث الذي ورد فيها ذكر الهَدْي، فذكر "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رضي الله عنه، وَقَدْ ضَفَرَ" هذا الرجل "رَأْسَهُ" يعني: جعله ضفائر، كل ضفيرة على حِدة، نوع مِنَ التلبيد يُلبَّد به الرأس، "فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ" كُنية عبد الله بْنِ عُمَر، "إنِّي قَدِمْتُ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ"؛ "إني ضَفَّرت رأسي وأحرمت بعُمرة" في رواية- فماذا ترى؟ "فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكَ أَوْ سَأَلْتَنِي لأَمَرْتُكَ أَنْ تَقْرِنَ." تجعلها حَجّة وعمرة مرة، قال: "قَدْ كَانَ ذَلِكَ"، يعني خلاص قد فات أمر القِران، خلاص قد جئنا وقد طُفنا وسَعينا، "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ خُذْ مَا تَطَايَرَ مِنْ رَأْسِكَ وَأَهْدِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا هَدْيُهُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: هَدْيُهُ. فَقَالَتْ لَهُ: مَا هَدْيُهُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلاَّ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ."، فذبح الشاة أفضل مِنَ الصيام، أو إطعام مساكين، وكذلك ذبح الشاة أفضل مِنْ سُبُع في بقرةٍ أو بَدَنة، والبَدَنة أفضل مِنَ البقرة، والبقرة أفضل مِنْ الشاة، وتُجزئ البقرة والبَدَنة عن سبعة؛ ولكن استقلالٌ بشاة خيرُ من اشتراك في بقرةٍ أو بَدَنة.
قال: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُول: الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ إِذَا حَلَّتْ لَمْ تَمْتَشِطْ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا هَدْيٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهَا شَيْئاً حَتَّى تَنْحَرَ هَدْيَهَا"؛ لا تسرّح شعرها، يعني: لأجل التحلل، تُقَصِّر أولًا ثُمَّ تستعمل التمشيط؛ لأن استعمالها التمشيط قبل أن تأخذ مِنْ قرون رأسها لأجل التحلل؛ لأنَّ التمشيط قبل أن تأخذ شيء تتعرض بأن تخرج شعرها ويسقط عليها شعر، فتجبْ عليها الفِدية ولكن تقُص أولا.
وإن كان قال الشَّافعية: إذا نَوت التحلل فكل سبب من أسباب إزالة ثلاث شعرات يُعَد تحلُلًا ولو بنتفٍ، أو بقصٍ، أو بحَلق الى غير ذلك. "وَإِنْ كَانَ لَهَا هَدْيٌ لَمْ تَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهَا شَيْئاً حَتَّى تَنْحَرَ هَدْيَهَا" (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ) [البقرة:196].
وذكر عن الإمام "مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: لاَ يَشْتَرِكُ الرَّجُلُ وَامْرَأَتُهُ فِي بَدَنَةٍ وَاحِدَةٍ، لِيُهْدِ كُلُّ وَاحِدٍ بَدَنَةً بَدَنَةً." فليس عنده الاشتراك في الهَدْي واجبًا كان أو تطوعًا.
"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ بُعِثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ يَنْحَرُهُ فِي حَجٍّ وَهُوَ مُهِلٌّ بِعُمْرَةٍ, هَلْ يَنْحَرُهُ إِذَا حَلَّ، أَمْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ؟ فَقَالَ: بَلْ يُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَجِّ وَيُحِلُّ هُوَ مِنْ عُمْرَتِهِ." المبعوث هذا يَحل مِنْ عُمرته ثُمَّ يُحرِم بالحجّ ثُمَّ إذا وصل إلى منى يذبح الهَدْي الذي أُرسل معه.
"وَالَّذِي يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْهَدْي فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَدْيَهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِمَكَّةَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة:95]" كما قال الله، أما مَنْ أراد أن يصوم أو أن يُطعم فيجوز في أي مكان، ولكنَّ الأفضل أن يكون في مكة المكرمة.
وذكر "عَنْ أبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ"، صحابي ابن الصَّحابي، والكريم ابن الكريم عبد الله بْنِ جعفر بِنْ أبي طالب، أنَّه لمّا هاجر سيدنا جعفر بْنِ أبي طالب إلى الحبشة أخذ معه امرأته أسماء بنت عميس، ولدت له هناك في الحبشة هذا سيدنا عبد الله، وعون ومُحمد، ثلاثة أولاد لسيدنا جعفر بْنِ أبي طالب ولدوا بالحبشة، ثُمَّ قَدِم جعفر بهم إلى المدينة المنورة، يقول سيدنا عبد الله بْنِ جعفر: أنا أحفظ حين دخل ﷺ على أمي فنَعلها أبي، وكان عبد الله بْنِ جعفر جوادًا، كريمًا، سخيًا، توفي سنة ثمانين وكان يُقال له قُطب السخاء.
"فَخَرَجَ مَعَهُ"؛ يعني: خرج أبو أسماء مع عبد الله بْنِ جعفر، في أيام أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان "مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ" بِن أبي طالب، سِبط رسول الله ﷺ وريحانته، أحد سيديَّ شباب أهل الجنة، وقد ولد في شعبان في السنة الرابعة مِنَ الهجرة، لمَّا دخلت سيدتنا فاطمة على النبي ﷺ في مرضه الذي توفي فيه، قال: "أما حسنٌ، فله هَيْبَتي وسُؤدُدي، وأما حسينٌ فإنَّ له جُرأتي وجُودي". وجاء عنه ﷺ :"حُسينٌ مني وأنا مِنْ حُسينٍ، أحب الله من أحب حسينَ" قال: "وَهُوَ مَرِيضٌ"؛ يعني: سيدنا الحُسين بْنِ علي، "بِالسُّقْيَا" موضع في طريقهم إلى مكة المكرمة، فكأنه خرج مع سيدنا عثمان فمرض بالعِرج، فتحامل حتى بلغ السُقيا، اشتدَ به المرض، مضى سيدنا عثمان فأقام عليه عبد الله بِنْ جعفر حتى يعاونه في المُعالجة ويمرّضه، حتى "إِذَا خَافَ الْفَوَاتَ خَرَجَ، وَبَعَثَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ"، وكانت أسماء بنت عُميس في ذلك الوقت زوجة لسيدنا علي، "فَقَدِمَا عَلَيْهِ" أي: على الحُسين بالسقيا، "ثُمَّ إِنَّ حُسَيْناً أَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِرَأْسِهِ فَحُلِّقَ، ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا"؛ أي: دعا بجزورٍ فنحرها وحَلقه، "فَنَحَرَ عَنْهُ بَعِيراً." مِنْ أجل أنه تعذَّر عليه الحجّ بهذا المرض. "قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَكَانَ حُسَيْنٌ خَرَجَ" مِنْ المدينة إلى الحجّ "مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ".
وهكذا ما ذكر الإمام مَالِكْ في جامعِ الهَدْي، وما جاء من الهَدْي الذي يُهدى إلى البيت العتيق، منه ما أطلق عليه الحنفية: أنه هَدْي الشُكر؛ أن بلغه الله هذه البقعة، ويسَّر له الحجّ والعُمرة، فيذبح القارِن الهَدْي الذي سموه هَدْي الشكر، والنَحر للهَدْي بالنسبة للحاج في مِنَى، وبالنسبة للمُعتمر عند المروة، وهذا أفضل مكان للذبح، قال رسول الله ﷺ: "نحرتُ ها هنا ومنَى كلها مَنحر".
جعلنا الله وإياكم من المبارَك لهم في أعمارهم وأعمالهم ووجهاتهم ونياتهم، ورزقنا الاستقامة على ما يحبه منا ويرضى به عنا، وأصلح شؤوننا والحرمين الشريفين وأهلها، وخلَّص بيت المقدس مِن أعداء الله، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين، وجعل الموسم من أبرك المواسم علينا وعلى أهل لا إله إلا الله أجمعين، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
26 ذو القِعدة 1442