شرح الموطأ - 208 - كتاب الحج: باب العمل في الهَدْي إذا عَطِبَ أو ضَلَّ

شرح الموطأ - 208 - كتاب الحج: باب العمل في الهَدْي إذا عَطِبَ أو ضَلَّ، من حديث: (كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنَ الْهَدْيِ فانحرها..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، باب العمل في الهَدْي إذا عَطِبَ أو ضَلَّ.

فجر الأحد 17 ذي القعدة 1442هـ.

 باب الْعَمَلِ فِي الْهَدْىِ إِذَا عَطِبَ أَوْ ضَلَّ

1122- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ صَاحِبَ هَدْي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنَ الْهَدْي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنَ الْهَدْي فَانْحَرْهَا، ثُمَّ أَلْقِ قِلاَدَتَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا".

1123- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَاقَ بَدَنَةً تَطَوُّعاً فَعَطِبَتْ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا أَوْ أَمَرَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا غَرِمَهَا.

1124- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ.

1125- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً، جَزَاءً أَوْ نَذْراً، أَوْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ، فَأُصِيبَتْ فِي الطَّرِيقِ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ.

1126- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً، ثُمَّ ضَلَّتْ أَوْ مَاتَتْ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَذْراً أَبْدَلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعاً، فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا.

1127- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لاَ يَأْكُلُ صَاحِبُ الْهَدْي مِنَ الْجَزَاءِ وَالنُّسُكِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبدينه وملّته، ومبيّن أحكامها على لسان خير بريّته عبده وصفوته، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كل لمحةٍ ونفسٍ وعلى آله وصحابته وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين صفوة الله في البرايا وخيرته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ،

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلقة بأحكام الهدي الذي يُهدى إلى بيت الله -جلّ جلاله- تعظيمًا لشعائر الله. ويذكر إذا كان الذي ساق الهدي إلى مكَّة عطب عليه الهدي في الطريق؛ بمعنى: لم يتسنى بعد ذلك إيصاله إلى الحرم الشَّريف لضرٍّ نزل به، فمرض بحيث لا يُتمكّن مع ذلك المرض أن يُساق إلى مكَّة المُكرَّمة؛ فهذا المراد بعَطِب. "باب الْعَمَلِ فِي الْهَدْىِ إِذَا عَطِبَ أَوْ ضَلَّ"؛ بمعنى: ضاع منه. 

فذكر لنا حديث "عُرْوَةَ، أَنَّ صَاحِبَ هَدْي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" وهو ناجية بن جُندُب الأسلمي الذي روى عنه عُروة، ويقول: أن روى عُرْوَةَ، أَنَّ صَاحِبَ هَدْي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وقال الحافظ  ابن حَجر: أن الذي روى عنه عُروة إنما هو ناجية بن جُندب الخُزاعي وليس الأسلمي لأن كُلا من ناجية بن جندب وقع له استصحاب هدي رسول الله ﷺ، فوقع لكل منهما استصحاب البُدن ولكن الذي في رواية عُروة هو الخُزاعي. وروى آخرون عن الأسلمي، وأن عُروة تفرّد بروايته عن الخُزاعي، والآخر الأسلمي روى عنه مجزأة بن زاهر وعبد الله بن عُمَر الأسلمي. على كلٍّ؛ الذي وكّله ﷺ بإيصال هديه إلى مكَّة المُكرَّمة، سأل النَّبي ﷺ عن حالة العطب هذه ووقوع الضّرر بالإبل، فخافوا عليه الموت، ولا يمكن إيصاله إلى مكَّة المُكرَّمة. "قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ"؛ من الإبل وعجز عن السير، ولا يتأتى أن أُوصله إلى مكَّة المُكرَّمة بأن انكسر أو مرض إلى غير ذلك؛ توقف عن السير ولم يتأتى أن يصحبه معه إلى مكَّة المُكرَّمة. 

"كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنَ الْهَدْي؟" يعني: بلغت مبلغًا لا يمكن توصيلها معه إلى مكَّة المُكرَّمة في الوقت وبعده أو في الوقت الآن، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنَ الْهَدْي فَانْحَرْهَا"؛ أي: تدارك إمكانية نحرها ما دامت مستقرة حياتها "فَانْحَرْهَا، ثُمَّ أَلْقِ قِلاَدَتَهَا" التي قُلّدت من النَّعل "فِي دَمِهَا"؛ يعني: إعلامًا بأن هذا هَدْيٌ عَطِب فمَن شاء فليأكله. أمره بإلقاء القلادة في الدّم للإشارة وإعلام النَّاس بأن هذا هَدْي عَطِب، فيأكله من يجوز له. وقال: "ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا"؛ أي: فهُم يأكلونها. 

جاء في رواية الإمام مُسلم: "ولا تأكل منها أنت ولا أهل رفقتك"، فمُنع من الأكل منها صاحبها وأهل رفقته الذين يُرافقونه؛ 

  • حتى لا يستعجل أحد في دعوى العطب لشيءٍ من الهدي فينحره. 

  • ولأنه قد يكون مشي أولئك الرّفقة سبب من أسباب عطبها، فهم إذًا لا يشاركون في الأخذ من لحمها. 

وهكذا يقول الإمام التِّرمذي -عليه رحمة الله- في هدي التَّطوع إذا عطِب: لا يأكل هو ولا أحد من أهل رفقته، ويُخلّى بينه وبين النَّاس يأكلونه وقد أجزى عنه. يقول: أنه قول الشَّافعي والإمام أحمد، وإن أكل منه غَرِم  مقدار ما أكل منه. وفي كتاب (الأم) للإمام الشَّافعي: أن هدي أصله التطوع، فهذا إذا ساقه فعطِب فأدرك ذكاته فنحره. يقول الشَّافعي: فأحببت له أن يغمس قلادته في دمه كما أشار الحديث إليه، ثم يُخلّي بينه وبين النَّاس يأكلونه، وإن عطِب فلم يُدرك ذكاته فهلك، فلم يُدرك ذكاته، وفاته وهو هدي ساقه تطوعًا. إن عطِب فلم يُدرك ذكاته:

  • علِمنا أنه إذا أدرك ذكاته، فإن ترك الذكاة وقد أدركها أو أكل منه بعد أن ذكّاه أو أطعمه أغنياء أو باعه، فعليه بدله؛ أن يأتي ببدله. 

  • والهدي الواجب الذي نذر إذا عطِب دون الحرم، يقول: تحول إلى ذمته مثله وصار هذا؛ عاد هذا إلى ملكه، يصنع به صاحبه ما يشاء وعليه بدله بكل حال. 

وهكذا جاء النّقل عن الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- في الهدي الذي يعطب قبل وصوله إلى مكَّة المُكرَّمة. فمنهم من قال: صاحبه ممنوع من الأكل منه كما سمعنا الإشارة. وهكذا يُنقل عن مالك وأبي حنيفة والشَّافعي. ورُويَ عن عائشة وابن عُمَر تجويزهما؛ أن يأكل من ذلك الهدي الذي عطِب. وذكر الإمام النَّووي في شرح مُسلم يقول: اختلف العلماء في الأكل من الهدي إذا عطِب. 

فقال الشَّافعي: إن كان هدي تطوّع أكله وأن يفعل فيه ما شاء من بيع وذبح وأكل وإطعام وغير ذلك، وله تركه ولا شيء عليه في كل ذلك لأنه ملكه.

○ وإن كان هديًا منذورًا؛ لزمه ذبحه. 

○ فإن تركه حتى هلك؛ لزمه ضمانه لأنه تفريط منه.

 فإذا ذبحه غمس نعله التي قلَّده إياه في دمه، ليعلم مَن مرّ به أنه هدي فيأكله. ولا يجوز للمُهدي صاحب الهدي ولا لسائق هذا الهدي الأكل منه؛ يعني: هو ورفقته. والقافلة الذي يمشون معه هم كلهم. وقيل: يختصّ بالذين يأكلون مع صاحب الهدي، والمعتمد: أن القافلة كلها.

إذًا، فالمقرر أيضًا عند الشَّافعية أنه فرق بين المتطوَع به والمنذور، 

○ فالمنذور يضمنه ولا يأكل منه. 

○ وأما المتطوَع به فهو ملكه وله الحق فيه. 

خلاف ما قال الحنفية، فقالوا: فإن الواجب المنذور يتحول إلى ذمته، وهذا صار ملكًا له يفعل فيه ما يشاء.

وروى الحديث الآخر: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَاقَ بَدَنَةً"؛ يعني: هديًا "تَطَوُّعاً فَعَطِبَتْ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ خَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ"؛ يعني: لا بدل عليه ولا ضمان "وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا"؛ هو المُهدي "أَوْ أَمَرَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا غَرِمَهَا"؛ يعني: يدفع بدلها هديًا كاملًا. وقال عن ابن عباس مثل ذلك المذكور؛ أي: عن سعيد بن المسيِّب -رضي الله تعالى عنهم- وقال: من أهدى بدنة جزاءً أو نذرًا أو هَدْيَ تمتع فأصيبت في الطريق فعليه البدل؛ لأن هذا من الواجبات -كما هو في مذهب الإمام مالك- عليه أن يُخرج أُخرى بدل هذه لأنها واجبة عليه.

وهذا رواية عن "ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً، جَزَاءً أَوْ نَذْراً، أَوْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ، فَأُصِيبَتْ فِي الطَّرِيقِ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ"؛ لأنه واجب فلا بُد أن يحل محله. وعلى ذلك قال مَن قال: إنه له يجوز له أن يأكل منه أو يتصرف فيه لأنه تحوّل الواجب عليه إلى ذمته.

قال: "عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً، ثُمَّ ضَلَّتْ"؛ ضاعت عليه، فلا وجدها إلى أن جاء يوم النّحر ولم يجدها "أَوْ مَاتَتْ" قبل بلوغها إلى المحِل "فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَذْراً" واجبة في الذّمة، "أَبْدَلَهَا"؛ يجب عليه بدلها، "وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعاً، فَإِنْ شَاءَ أَبْدَلَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا"؛ أي: لم يُبدلها.

وقال مالك: "أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ"؛ يعني: أراد بهم فقهاء المدينة؛ الفقهاء السبعة الذي ذكر أهل العلم وهو لعامة أهل المدينة، الإمام مالك فالمراد به الفقهاء السبعة. "يَقُولُونَ: لاَ يَأْكُلُ صَاحِبُ الْهَدْي مِنَ الْجَزَاءِ"؛ يعني: جزاء الصيد إذا ذبح شيئًا من الصيد أو أصاب شيئًا من الصيد عليه جزاؤه، "وَالنُّسُكِ"؛ يعني: ما كان بسبب نُسك من إلقاء تفث أو رفاهية يمنعها الإحرام فوجب عليه بذلك الهدي. فما بلغ من الهدي محلّه وكان تطوعًا جاز أن يأكل منه المُهدي وغيره، قال تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة:196]، قال تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج:36]. قال: فيجوز أن يأكل منها ما دامت غير واجبة عليه، وأن يطعم وهذا الذي فعله ﷺ. فإنه أكل من هديه الذي أهداه؛ لأنه لم يكن واجبًا عليه، وأطعم منه أهله ﷺ. بل جاء أنه أمرهم أن يأخذوا من كل واحدة قطعة، وطبخوها فأطعمها أهله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. والله أعلم.

الله يثبتنا في ديوان أهل الصِّدق من خيار الخلق، ويصلح شؤوننا والمسلمين، ويرفع البلاء عن الأُمة ويحول هذا الحال الذي أصابهم بالبلاء حتى نازل المنع من حج بيت الله تعالى، أن الله يرفع هذا البلاء عنا وعن المؤمنين والمؤمنات ويحوّل الأحوال إلى أحسنها، ويقيم لنا الشّعائر على ما هو أحب وأطيب وأوفق لتعظيمها وإكرامها، وأن الله يُخلِّص بيت المقدس من أيدي أهل الغصب والظُّلم والاعتداء، وأن الله يحوّل أحوال المسلمين إلى أحسن حال، ويصلح أحوال الأُمة في المشارق والمغارب، ويدفع عنا وعنهم المصائب والنوائب، ويعاملنا بفضله وما هو أهله، ويوفر حظنا من الموسم الكريم وليالي الفضل العظيم بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

17 ذو القِعدة 1442

تاريخ النشر الميلادي

27 يونيو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام