(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح بالرأس والأذنين.
فجر الإثنين 22 ذي القعدة 1441هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ وَالأُذُنَيْنِ
75-حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ الْمَاءَ بِأَصْبُعَيْهِ لأُذُنَيْهِ.
76-وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَاريَّ سُئِلَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَقَالَ: لاَ٬ حَتَّى يُمْسَحَ الشَّعْرُ بِالْمَاءِ.
77-وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ أَبَاهُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَنْزِعُ الْعِمَامَةَ وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِالْمَاءِ.
78-وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ رَأَى صَفِيَّةَ بِنْتَ أبِي عُبَيْدٍ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَنْزِعُ خِمَارَهَا وَتَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا بِالْمَاءِ، وَنَافِعٌ يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ.
79-وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ، فَقَالَ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ وَلاَ الْمَرْأَةُ عَلَى عِمَامَةٍ وَلاَ خِمَارٍ، وَلْيَمْسَحَا عَلَى رُؤوسِهِمَا.
80-وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ، فَنَسِيَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى جَفَّ وَضُوءُهُ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ يَمْسَحَ بِرَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ.
الحمدلله مُكرمنا بالطهارة، وتبيين أحكامها على لسان عبد الله مُحمَّد بن عبد الله، من نُشِرَ له في الفضائل أزكى أعلامِها، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وأصحابه، وكلُّ طائفة من أمّته أَحسَنت به كريم إتمامها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الماسكين في ذُرى الفضل بزِمامِها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبَعدُ،
فيذكر في هذا الباب بعض ما يتعلق بالمسح للرأس والأُذُنين، وقد تقدَّم بعض ذلك فيما مضى من الأبواب، وذكر حديث ابن عمر أنَّه "كَانَ يَأْخُذُ الْمَاءَ بِإصْبُعَيْهِ لأُذُنَيْهِ."، وسبق معنا أنَّ مسح الأُذُنين سُنَّة مُستقلّة،
وجاء عن الإمام أحمد بن حنبل وجوب غُسُل الأُذُنين أو وجوب مسح الأُذُنين في الوضوء بعد الرأس أو مع الرأس، ويذكر حديث ابن عمر كان يأخذ الماء بإصبعيه لأُذُنيه أي: يضع السبّابة والإبهام في الماء ثم يرفعهما فيجعل السبّابة في صِماخ الأُذُنين، ويجعل الإبهام في ظاهر الأُذُنين من الوراء مما يلي الرقبة.
يقول "يَأْخُذُ الْمَاءَ بِأَصْبُعَيْهِ لأُذُنَيْهِ."،
وقد جاء ذلك في كيفيات نُقِلَت عنه ﷺ في الوضوء، وذَكَر حديث جابر بن عبدالله الأنصاري -رضي الله تعالى عنهما-: "سُئِلَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، فَقَالَ: لاَ حَتَّى يُمْسَحَ الشَّعْرُ بِالْمَاءِ." فقوله: حتى يُمسح الشعر بالماء، يمكن موافقته لمذهب مالك؛ أنَّه لابد من مسح الشعر كله ولا يكفي المسح على العِمامة أصلًا، وممكن موافقته لمذهب الإمام الشافعي أنَّ يمسح شيئًا من الشعر بالماء ثم يُكمل المسح على العِمامة، لا حتى يمسح الشعر بالماء، وبذلك جمع الشافعيَّة في مسح الرأس بين الروايات التي وردت فقالوا: لا يكفي المسح على العِمامة ولا القلنسوة ولا أي شيء ساتر على الرأس من دون أنْ يُمِسَّ شيئًا من الشعر أو البشر في حَدِّ الرأس، ولكن لابُدَّ أن يمسح شيئًا من الرأس ثم لا بأس أن يُكمل المسح على العِمامة لِيَجِدَ ثواب مسح بقية الرأس، وأمَّا الاكتفاء بِمسح العِمامة فلا يَصِح.
وقدَّروا النَاصية بربع الرأس؛ أنَّه مَسح على ناصيته ﷺ و أكمَل المسح على العِمامة، و أنَّ هذا المسح يكون استوعب ربع الرأس، وفي رواية عن الإمام أحمد: يكفي أكثر الرأس.
وقال الشافعيّة: الباء في قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)[المائدة:6] للتبعيض، فبعضٌ من الرأس يكفي في المسح، فَلَوْ غَسَلَ الرأس ولم يمسحه فَقيل لا يُجزئ٬ والمعتَمد عند الشافعيَّة أنَّه يُجزئ؛ لأنَّ الغَسْلَ مسحٌ وزيادة.
وكذلك إذا وضع إصبِعه على الرأس ولم يَمُدَّهُ فهل هذا مسحٌ أم لا؟ فقِيل إنَّه ليس بِمسحٍ ولا يُجزئ٬ و المعتمد أنَّه داخلٌ في المسح و وصولُ البَلَلِ إلى الرأس بنَفسِه أو بِغيرِه يكفي، حتَّى لو عَرَّضَ رأسه لِمَطرٍ يَنزِل فقدَّمَه فَسالَ على شيءٍ من أجزاء رأسه كَفاهُ ذلك، ولكن الأفضل أن يَمسَح.
وجاء عند أبي داود عن سيدنا عثمان بن عفان يصِف وضوء النبي قال: "ثم مسح برأسه ثلاثا"٬٬ وبهذه الرواية أخَذَ الشافعي.
وبعموم ما جاء في البخاري وغيره: أنَّ رسول الله ﷺ توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا، ولم يُستَثْنَى منه مسح الرأس ولا غيرَهُ فأخذوا بعموم هذه الرواية، وبِنَصِّ رواية عثمان بن عفان عند أبي داوود أنَّه قال: ثم مسح ﷺ برأسه ثلاثًا، فأخذوا بهذا. وأكثر الروايات في الصحيح وغيرها نَصُّوا على أنَّه مسح رأسه مرةً واحدة -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فيكون ذلك لِبيان الجَواز وأنَّه يكفي المسحةُ الواحدة باتفاق، ولكِنَّ الأفضل عند الشافعيَّة التثليث، وتكرير هذا المَسح.
كذلك في مسح الأُذُنين، يُجَدّد لهما الماء، كما هو عند المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة، وعدَّهُما أبو حنيفة من الرأس، وقال: لا يحتاج. وكذلك مسح الأُذُنين أشرنا إلى أنَّ الحنابلة يقولون بوجوب مسح الأُذُنين ويأخذون بأنَّ الأُذُنان من الرأس، وذهب إلى ذلك إذًا بعض المالكيَّة، فَيُسَنُّ مسح الأُذُنين.
جاء في وصف وضوءه ﷺ: "فأخذ لأذنَيه ماءً خلافَ الماءِ الذي أخذ لرأسِه". ويقول الحنفيَّة: يكفي أن يمسح الرأس والأُذُنين بماءٍ واحد.
يقول عن عروة بن الزبير: "كَانَ يَنْزِعُ الْعِمَامَةَ وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِالْمَاءِ." ففيه نزع العِمامة وعدم الاكتفاء بالمسح عليها، ومِثله خِمار المرأة، وأي ساتر يستر الرأس.
يقول: "يَنْزِعُ الْعِمَامَةَ وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِالْمَاءِ." وهذا موافِقٌ لمذهب الإمام مالك؛ أنَّه لا يكفي مَسحُ شيءٍ من سَاتِر الرأس، بَلْ لا بُدَّ من مسح الرأس كلّه.
"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ، فَقَالَ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ وَلاَ الْمَرْأَةُ عَلَى عِمَامَةٍ وَلاَ خِمَارٍ، وَلْيَمْسَحَا عَلَى رُؤوسِهِمَا." وهكذا، بيان مذهب الإمام مالك؛ فإنَّه لا يَصِح استكمال المسح بعِمامة ولا خِمار و لا غَيرها من قَلنسوة ولا سواها، بل لا بُدَّ يَمسَحَ الشَّعر، ويستوعب الرأس كما هو في مذهبه، وحتى يمسح الشَّعر بالماء يقتضي مسح جميع الشعر هو كذلك في مذهب الإمام مالك.
و أورَدَ أثَرَ نَزْعِ العِمامة عن عروة بن الزبير، وكذلك عن امرأة ابن عمر نَزْعِ الخِمار، يقول نافع مولى ابن عمر "أَنَّهُ رَأَى صَفِيَّةَ بِنْتَ أبِي عُبَيْدٍ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَنْزِعُ خِمَارَهَا -أي عند الوضوء- وَتَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا بِالْمَاءِ، وَنَافِعٌ يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ." و الذي يقول كيف يقعد عند المرأة يَتَشوَّفَها وتكشف رأسها أمامه؟! لكن كان نافع هذا مولى ابن عمر صغير السن لم يبلغ بَعد بَلْ ما يَزال طفل في أول عُمْرِه ثمَّ أدَّى، وفيه قَبُول الرواية لِمَنْ حَفِظَ شيئًا في صِباه ثم أدَّاه بعد البُلوغ فَمقبولة روايته، إن كان حَفِظَ أو رأى أو شاهد قبل البُلوغ ما يَضُرْ (وهو صَبي) فإذا أدَّى بعد البُلوغ صارت رواية مقبولة. لذلك لمَّا كان في صِغَرِه، ولهذا نَصَّ عليه قال: "ونافع يومئذٍ صغير"، لا ينظُر الرِّجال إلى رؤوس النساء ولا إلى شَعرَهم غير المحارم فذلك لا يجوز، فيقول كيف رأى نافع؟ ونافع من أُسَراء الدَّيْلَمْ أَسلَمْ، أُسِرَ بعد وفاة سيّدنا عمر، وأمَّا هذه صَفيّة بنت أبي عُبيد تزوجها في عهد أبيه سيّدنا عمر بن الخطاب وأَصْدَقَها سيّدنا عمر -أبوه- أربعمئة درهم٬ صَفيّة بنت أبي عُبيد اِمرأة عبد الله بن عمر.
وفي رواية قَطِعْ سيّدنا عمر لِشجرة الرِّضوان، كُلّها جاءت عن نافع عن عُمر، وقال ونافعٌ لم يُدرك سيّدنا عُمر! فما أُسِرَ ولا جيءَ به إلى المدينة إلّا بعد وفاة أمير المؤمنين سيّدنا عمر بن الخطاب؛ فلا تَصِحُّ الراوية أن سيّدنا عُمر قَطَعَ شجرة الرِضوان، لأنَّ جميع الروايات من رواية نافع عن عمر، فَهو مُنقَطِع، مُعارضٌ لسَنَدٍ مُتَّصل عن نافع نفسه، وأسانيد أخرى متصلة من غير نافع أنَّ الصحابة بحثوا على الشَّجرة في السَّنة الثانية لمَّا جاؤوا فَلَمْ يتَّفِق اثنان على شَّجرة، فعُمِّيَتْ عليهم ولم يدركوها، وروى ذلك نفسَه نافع عن ابن عمر فكيف يتناقض نافع مع نفسه! يروي عن ابن عمر أنَّهم لم يعثروا عليها ثمَّ يروي أنَّ عمر قَطَعَها؟ فهو متناقض! إذًا، لا يَصِحُّ رواية أنَّ سيّدنا عمر قَطَعَ الشَّجرة، ولكنْ يَصِحُّ روايات أنَّهم بحثوا عنها فَلَمْ يعثروا عليها، معلوم أنَّهم بحثوا عنها ليَتَبرَّكوا بها، يبحثوا عنها لماذا؟ من أَجِلْ أن يحرقوها و إلا يقطعوها؟ بحثوا عنها لمَّا جاؤوا ولِمَا جاء في النَّص ذكرُها قال تعالى: (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح:18]، فكانت إحدى شَجر السَّمُرْ بايَعهُم تحتها، فلمَّا جاؤوا يبحثون يقولون: هذه .. لا هذه،،٬ فما اتَّفَقَ اثنان على أنَّها هذه، فعُمّيَتْ عليهم.
سيّدنا نافع يروي عن هذه صفيّة أنَّها نزعت خِمارها لتمسح على رأسها وهكذا كما هو مذهب مالك. "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخِمَارِ، فَقَالَ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ وَلاَ الْمَرْأَةُ عَلَى عِمَامَةٍ وَلاَ خِمَارٍ، وَلْيَمْسَحَا عَلَى رُؤوسِهِمَا."
"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ، فَنَسِيَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى جَفَّ وَضُوءُهُ؟ -أي الماء الذي على أعضائه- قَالَ: أَرَى أَنْ يَمْسَحَ بِرَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ." وفي هذا إشارة إلى أنَّ مالك يُوجِبُ الموالاة في الوضوء للذاكِر ويُعذَر النَّاسي، فإذا نَسي فما عاد أوجَب عليه الموالاة، يمسح رأسه فقط؛ لأنَّ تركه للمَسحِ كان نسيانًا. فالموالاة واجبة عند الإمام مالك في الوضوء، ولكن للذاكر أمَّا النَّاسي فيُعذَر في الموالاة إذا نَسي، أمَّا إذا تعمَّد فما يَصِحُّ الوضوء إلّا أن يوالي بين أفعال الوضوء بأن يغسل العضو الثاني قبل جفاف الأول. فالموالاة سُنَّة عند الشافعيَّة و أكثر الأئمة، و واجبة عند الإمام مالك وهو يَعذِر فيها النَّاسي والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان واليقين والإخلاص والصدق، وجعلنا في خِيار الخَلِقْ، ووفقنا لِما يحب، وجعلنا فيمَن يحب، وإِلى حَضرَة اَلنبِي ﷺ.
24 ذو القِعدة 1441