شرح الموطأ - 183 - كتاب الحج: إهلال أهل مكة ومَن بها مِن غيرهم

شرح الموطأ - 183 - كتاب الحج، إهلال أهل مكة ومَن بها مِن غيرهم، من قول عمر رضي الله عنه: (يا أهل مكة: ما شأن الناس يأتون شُعثاً وأنتم مُدَّهِنون؟..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الحج، إهلال أهل مكة ومَن بها مِن غيرهم.

فجر الأحد 11 شوال 1442هـ.

 باب إِهْلاَلِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ

961 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، مَا شَأْنُ النَّاسِ يَأْتُونَ شُعْثاً، وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُونَ، أَهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ.

962 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَقَامَ بِمَكَّةَ تِسْعَ سِنِينَ، يُهِلُّ بِالْحَجِّ لِهِلاَلِ ذِى الْحِجَّةِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

963 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يُهِلُّ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ بِالْحَجِّ إِذَا كَانُوا بِهَا، وَمَنْ كَانَ مُقِيماً بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، لاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ.

964 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ، فَلْيُؤَخِّرِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى، وَكَذَلِكَ صَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.

965 - قَالَ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ مَكَّةَ، لِهِلاَلِ ذِي الْحِجَّةِ، كَيْفَ يَصْنَعُ بِالطَّوَافِ؟ قَالَ: أَمَّا الطَّوَافُ الْوَاجِبُ فَلْيُؤَخِّرْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيَطُفْ مَا بَدَا لَهُ، وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ كُلَّمَا طَافَ سُبْعاً، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، فَأَخَّرُوا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَكَانَ يُهِلُّ لِهِلاَلِ ذِى الْحِجَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَيُؤَخِّرُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى.

966 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَلْ يُهِلُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ؟ قَالَ: بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمُ مِنْهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بشريعته العظيمة، وأحكام دينه القويمة، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده المجتبى سيدنا محمد، سيد أهل الصدق والهمة والعزيمة، وعلى آله وأصحابه، ومن والاه في الله، وثبت على مسالكه المستقيمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ذوي المواهب الكبرى والمِنن الفخيمة، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الاكرمين، وأرحم الراحمين.

والإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- يذكر لنا في الموطأ الأبواب المتعلقة بالحج، ويقول -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-: "باب إِهْلاَلِ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ"؛ أي: إحرامهم بالحج أو بالعمرة، من أين يحرم أهل مكة؟ فهو يتكلم عن أحكام المكيين، والنازلين بمكة، في الإحرام وما تعلق به، فيقول -عليه رضوان الله- :"أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ"-رضي الله تعالى عنه-"قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، مَا شَأْنُ النَّاسِ"؛ يعني: الآفاقين الذين يأتون من خارج مكة "يَأْتُونَ" يعني: يدخلون مكة "شُعْثاً" جمع أشعث، وهو مُغبَرُّ الرأس، متفرِّق الشعر، أشعث لبُعْدِ عهده بالدَّهن والتمشيط، يقول: "وَأَنْتُمْ مُدَّهِنُونَ" أي: مستعملون للدهن في شعركم "أَهِلُّوا"  أي: في اختيار سيدنا عمر، ندبهم إلى الإهلال "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ".أي هلال ذي الحجة، أي من أول شهر ذي الحجة، حتى لا تأتي أيام منى وعرفة إلا وأنتم شُعثٌ غُبْرٌ، مثل الحجاج الذين يأتون من بعيد. 

وكان هذا اختيار سيدنا عمر وبالإجماع، أنه لا يلزم، لا يلزم الإحرام من أول ذي الحجة، ولا في أيام العشر، ولا في وسطها، وبالاتفاق أنه لو أحرم في اليوم التاسع، وذهب إلى عرفة، أجزأه ذلك، هذا أمر مُجمَع عليه. ولكن الكلام في الأفضل، فالأفضل للمقيمين بمكة المكرمة، سواء المستوطنين فيها أو الذين نزلوا بها، فمن أين يُحْرِمون؟ ومتى يُحْرِمون؟ فذكر متى في هذا الحديث.

  • وقال الإمام مالك والإمام الشافعي: الأفضل للمكي أن يُحْرِم يوم التروية -اليوم الثامن- فإذا جاء اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، أحرم من مكة -كما سيأتي- وذهب إلى منى، هذا من حيث الأفضل. 

  • قال الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد: الأفضل للمكي أن يُحْرِم من أول الشهر، فإذا هلّ هلال ذي الحجة فليُحرِمْ وليبقَ محرِمًا. 

  • وقال بعضهم: إن كان الإهلال بالحج لمن كان مقيمًا بمكة، الأفضل أن يكون كما هو عند الإمام الشافعي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- أن يحرم بالحج في يوم التروية -وهو اليوم الثامن- ذلك عندهم هو الأفضل. 

  • وكذلك يرى الحنفية أن التقدّم أفضل ويقولون: أنه يحرم من أول شهر ذي الحجة -كما دل عليه حديث الباب- وهذا اختيار سيدنا عمر رضي الله عنه.

وسيأتي معنا عمل سيدنا عبدالله بن الزبير، وقد كان بمكة مقيمًا تسع سنين، وكان واليًا في مكة، وكان لا يُحْرِم في يوم التروية، كان يُهِلُّ بالحج لهلال ذي الحجة ، وعليه عمل كثيرٌ من الصحابة. 

وفيه أيضًا أن سيدنا عبدالله بن عمر -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- سُئل عن أنه يعمل أشياء ما رؤيَ أصحابه يعملونها، منها الإحرام في يوم التروية، إذا كان بمكة لا يحرم إلا يوم التروية سيدنا عبدالله بن عمر -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- قال: إنه لا يحرم الحاج بالحج إلا لما يبدأ أفعال الحج، و ما تبدأ أفعال الحج إلا في يوم التروية، وإذا سيخرج من بلاده من عند الميقات، يحرم هناك، يبدأ في المشي إلى الحج، وأما المقيم في مكة، فلا .

قال:  وأنتم "أَهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ."ما لكم؟ يقدم الناس عليكم شعثاً غبرًا، وأنتم تنفحون طيباً مُدَّهِنين؟! إذا رأيتم الهلال فأهِلُّوا بالحج" وهو قول ابن الزبير. 

إذاً، فهذا على الاستحباب، وقد علمنا الاتفاق والإجماع على أنه لا يلزم تقديم الإحرام، ولا يضر تأخيره، ما دام وقت الوقوف باقيًا، ويستطيع أن يقف بعرفة ولو في يوم التاسع نفسه، فيُحرِم، ويذهبُ. 

"أَهِلُّوا إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ." إذاً:

  •  علمنا أن الأفضل عند الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل أن يحرِم المقيم بمكة والمستوطن بها في يوم الثامن، الذي هو يوم التروية.

  • وأنه عند الإمام أبي حنيفة والإمام مالك أن يحرم متى؟ استحبوا أن يتقدم، وأن يحرم عند هلال ذي الحجة كما أشار إليه الحديث. 

يقول: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ" بن العوام -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- أول من ولد من المهاجرين في المدينة المنورة، عبدالله بن الزبير بن العوام، ولدته أسماء بنت أبي بكر الصديق، وتولى الخلافة هذه السنوات التي أشار إليها -تسع سنوات بمكة- تسع سنين، بُويِع له بعد موت يزيد بن معاوية سنة أربعة وستين، ثم قُتِلَ، واستُشهِد عام ثلاثةٍ وسبعين، هذا من؟ عبدالله بن الزبير. "أَقَامَ بِمَكَّةَ تِسْعَ سِنِينَ، يُهِلُّ بِالْحَجِّ لِهِلاَلِ ذِى الْحِجَّةِ" وشقيقه كذلك "وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ". فكان يفعل هذا وهو أمير، يظهر خبره عند الناس، وينتشر، ويُعلم، فإذًا، عليه الأكثر من الصحابة والتابعين أنه يقدمون الإحرام إذا كانوا بمكة من أول شهر ذي الحجة، والأمر فيه -كما علمت- واسع، فما كان ينكر أحد على ابن الزبير، وما كان ينكر على من أخَّر ذلك كابن عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- وإن كانت جاءت رواية أنه أهلَّ مرَّةً من أول ذي الحجة، ولكن عامة إهلال عبدالله بن عمر إذا كان بمكة، لا يهل إلا في يوم التروية؛ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة. 

"قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا يُهِلُّ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ بِالْحَجِّ إِذَا كَانُوا بِهَا، وَمَنْ كَانَ مُقِيماً بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، لاَ يَخْرُجُ مِنَ" حدود "الْحَرَمِ"؛ يعني: ما يخرج إلى الحِل من حدود الحرم. 

إذًا، فمن أين يُحرِم هذا الذي هو مقيم في مكة ومستوطن بمكة المكرمة إذا أراد الحج؟ 

  • أما إذا أراد العمرة، فيخرج إلى خارج حدود الحرم، إلى أدنى الحِل ويُحرِم. 

  • أما إن أراد الحج، فيحرِم من وسط مكة، من وسط مكة بالاتفاق، وقيل: من الحرم كله. 

  • وعند مالك: أنه الأولى أن يُحرِم من مكة أو الحرم، فإن أحرم من خارج -من الحِلِّ- جاز. 

  • ولكن قال الشافعية: تتحوّل مكة الى ميقات له، فلا يُحرِم المقيم بمكة إلا من مكة، وهو محل عمرانها، ولا يصح من بقية الحرم، فضلًا عن الحِلِّ، فإن خرج إلى الحِل وأحرم، ولم يعد إلى مكة، فعليه الفدية لترك الميقات، وعليه الإثم عندهم بذلك. 

فإذا قلنا: اذا صار مكة ميقاته، فمن أين يحرم من مكة؟ 

  • قيل: من المسجد أفضل. 

  • والمعتمد عند الشافعية أن إحرامه من بيته، من باب داره أفضل، فيحرم بالحج من باب داره.

  •  عند بعض الأئمة من المسجد أفضل، من تحت الميزاب أفضل، فيدخل ويُحرِم من هناك. 

وقال الشافعية في القول المعتمد والأصح: أنه يحرم من باب داره فهو أفضل، ومن أي مكان أحرم من مكة، من مسجد وغيره فصحَّ، صحَّ إحرامه. وفي قول ضعيف عند الشافعية يوافق أن الإحرام من المسجد أفضل.  المعتمد أن الإحرام من باب داره أفضل عند الشافعية. 

قال:"وَمَنْ كَانَ مُقِيماً بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، لاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ". إذاً، مُهَلُّ المكي والمتمتع، نفس مكة، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعية وغيرهم، فاذا فارق بنيانها وأحرم، و أحرم خارج مكة، وإن كان داخل حدود الحرم، ولم يعد إليها، أساءَ، ولزمه دمُ تركِ الميقات. 

وهكذا، كما ذكر الإمام النووي، يقول: ميقاته نفس مكة، ولا يجوز له الإحرام بالحج من خارج مكة، سواءً الحِل أو الحرم، بل لابد أن يكون من وسط البنيان والعمران في مكة، والأفضل من باب داره. 

يقول أيضًا الإمام النووي: أنه قال بعض أصحابنا -يعني الشافعية- يجوز له أن يحرم من حدود الحرم، وإن كان خارج مباني مكة، والمعتمد: لا.  قالوا: أنَّ حُكمَ الحَرَمِ حُكمُ مكةَ، لكن الصحيح في مذهب الشافعية أنه لا يصح الإحرام إلا من وسط بنيان مكة وحدود مكة لمن كان مقيماً بمكة المكرمة. لكن ما هو الأفضل؟ الأفضل أيضًا -كما أشرنا- الأصح أنه من باب داره.  يقول الشافعية: يحرم من باب داره. والقول الثاني: من المسجد الحرام، وتحت الميزاب أفضل. 

وهكذا، يذكر الحنابلة -كما ذكر ابن قدامة في المغني-: أن الأفضل أن يحرِم من مكة، فإن أحرم من خارجَ منها، من الحرم، جازَ عند الحنابلة مادام في حدود الحرم، ما لم يخرجْ إلى الحِلِّ، واستدلوا بقول جابر: "فأهللنا بالأبطح"؛ إذاً، يُحْرَم من مكة للحج. 

لكن أيضًا يقول الحنابلة:

  • إن أحرم من الحِلِّ فإن أحرم من الحل الذي يلي الموقف عليه دم.

  • وإن أحرم من الجانب الآخر الأبعد من عرفة، ثم سلك الحَرَمَ، هذا ما عليه أي إشكال إذا سلك طريق الحَرَم، دخل حدود الحرم، ونَفَذَ إلى الجانب الثاني، فهذا مثل عند الشافعية إذا كان أحرم خارج مكة، ثم دخل مكة، ما عليه شيء، فعندهم حكم الحَرَمِ حكمُ مكة -عند الحنابلة- عند الشافعية: لا، ما يصح إحرام المكي إلا من وسط مباني مكة، من وسط البلد.

فيقولون هكذا: إذا أحرم من الجانب الآخر، ثم سلك الحَرَم، لا شيء عليه، كما ذكر الإمام أحمد، ونصَّ على ذلك أنه أحرم قبل ميقاته، ولكن إذا أحرم من الحِل، ولو من الجانب الآخَر، ولم يسلك الحَرَم، ولم يدخل الحَرَم، فعليه دم. 

  • كما يقول الشافعية: إذا أحرم من الحرم خارج حدود مكة، ولم يدخل من مكة، فعليه الإثم، و إن كان أحرم من الطرف الثاني، أحرم ولكن ما دخل مكة، فصارت مكة كالميقات له.

  • وعند الحنابلة: الحرم كله كالميقات له، كالميقات للمحرِم من مكة. 

يقول الإمام مالك: "وَمَنْ أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ، فَلْيُؤَخِّرِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ"؛ أي: طواف الركن ما يصح إلا بعد الرجوع من عرفة، وليس عليه طواف قدوم؛ لأنه لم يقدم إلى مكة، هو من مكة أصلًا، فكيف يطوف طواف القدوم؟! فالطواف الذي هو ركن من أركان الحج، إنما هو طواف الإفاضة، أما طواف القدوم فليس بركن، ولا يتعلق بمن كان من مكة، إذ لم يَرِد عليها، ولما يقدم من مكان، فهو من أهل مكة، وإنما يطوف تطوعًا وتنفلًا.

 قال: "فَلْيُؤَخِّرِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ"، لكي يوقعه بعد الطواف الواجب، -وهو طواف الإفاضة- عند رجوعه من عرفة، "حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى"؛ يعني: يتأخر السعي بين الصفا والمروة إلى أن يعود من منى، من أجل طواف الإفاضة. 

إذاً، فشرط السعي بين الصفا والمروة أن يكون بعد طوافٍ؛ إما واجب، وطواف القدوم واجب عند المالكية، وعندنا سنة،

  • إما طواف القدوم 

  • وإما طواف الإفاضة. 

فإذا طاف طواف القدوم، القادم من خارج مكة، ثم ذهب إلى عرفة، ولم يسعَ، فعاد فأراد أن يسعى، فلا يصح سعيه إلا بعد طواف الإفاضة، إذا تخلل الوقوف بين طواف القدوم وطواف الإفاضة، فما يصح السعي بين الصفا والمروة إلا بعد طواف الإفاضة، أما إذا لم يقف بعد بعرفة، فيجوز له السعي بين الصفا والمروة، أن يقدّمه وهو أفضل عند الشافعية لفعله ﷺ، طاف طواف القدوم، ثم سعى بين الصفا والمروة، فالتقديم أفضل، فإذا وقف بعرفة لم يجُزْ له أن يسعى حتى يطوف طواف الإفاضة. 

  • ويقول الحنفية: إذا أراد المكي تقديم السعي على طواف الإفاضة، مع أن الأصل في السعي أن يكون عقبه، فيقول عندهم: إذا طاف طوافًا، وهو غير طواف القدوم؛ لأنه لم يقدم، إذا طاف فيجوز له أن يقدِّم السعي، فيقول: يأتي المكي بطواف نفلٍ بعد الإحرام بالحج ليصحَّ سعيُه. 

  • قال الشافعية: مهما طاف، وإن طاف طواف تبرُّع، وليس بقدومٍ، وليس بإفاضةٍ، فمهما طاف فلا يصحُّ له السعيُ إلا أن يكون بعد طواف قدومٍ، أو بعد طواف إفاضة.

"وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى". وهكذا، ولكنهم أيضًا قالوا: الأفضل أن يأخِّر السعيَ في هذه الحالة، ولا يطوف طوافًا، خروجًا من خلاف الشافعية، فإنه لأنه لا يصح عندهم السعي أصلا بين الصفا والمروة لمن أحرم من مكة وإن طاف بالبيت، لأنه ليس بطواف قدوم، وليس متعلّق بعمل الحج، وشرط السعي أن يكون بعد طواف متعلق بالحج، إما قدوم أو إفاضة. وكذلك الإمام أحمد بن حنبل كما يقول الإمام الشافعي -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.

 قال: "وَكَذَلِكَ صَنَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ"؛ يعني: لم يسعَ بين الصفا والمروة حتى رجع من منى.

"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ أَهَلَّ" أحرم "بِالْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ مَكَّةَ" وهو مقيم بمكة "لِهِلاَلِ ذِي الْحِجَّةِ،"؛ يعني: من أول الشهر"كَيْفَ يَصْنَعُ بِالطَّوَافِ؟ قَالَ: أَمَّا الطَّوَافُ الْوَاجِبُ"؛ أي: طواف الإفاضة "فَلْيُؤَخِّرْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" يعني: ليطُفْ مهما طاف لا يصح له السعي حتى يذهب إلى عرفة، ويقِفَ، ثم يرجعَ فيطوفَ طوافَ الإفاضة، ثم يسعى بين الصفا والمروة، "وَلْيَطُفْ مَا بَدَا لَهُ"؛ يعني: يجوز له طواف النفل في هذه الأيام، كما يقول الحنفية أيضًا، يتطوع بالطواف ما شاء "وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ كُلَّمَا طَافَ سُبْعاً"؛ يعني: سبع أشواط،  وذلك أفضل، "وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، فَأَخَّرُوا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى رَجَعُوا مِنْ مِنًى" يعني: الذين أهلّوا بالحج من مكة أخّروا الطواف الواجب بين الصفا والمروة حتى رجعوا من منى، فطاف الذين أهلّوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجّهم، وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا.

 قال: "وَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَكَانَ يُهِلُّ لِهِلاَلِ ذِى الْحِجَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ"وهذا حصل مرة، ولكن عامة فعلاته أنه لا يُهِل إلا في يوم التروية -كما جاء في الصحيح- سؤال عبيد بن جريج لسيدنا عبد الله بن عمر يقول: رأيتك تصنع أربعًا، ذكر فيه رأيتك إذا كنت في مكة، وأهل الناس بالهلال، ولم تُهِل أنت حتى يكون يوم التروية.. إذًا فلم يُروَ إهلاله أول من ذي الحجة وهو في مكة إلا في مرة واحدة وهي التي أشار إليها الإمام مالك.

 قال: "وَيُؤَخِّرُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مِنًى."

قال يحيى: "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَلْ يُهِلُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ؟ قَالَ: بَلْ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمُ مِنْهُ". 

وعليه جمهور أهل العلم، أنه يخرج من حدود الحرم، ويُهِلُّ هناك: 

  • إما إلى جهة الطائف من عند الجِعرّانة يحرم

  • أو من جهة الحديبية جهة المدينة، 

  • أو أدنى الحِلِّ؛ وهو التنعيم. 

فيُحرِم من خارج الحدود: 

  • إما من التنعيم؛ وهو أقربها 

  • وإما من الحديبية؛ وهو أوسطها 

  • وإما من الجعرانة؛ وهو أبعدها عن الكعبة وعن مكة المكرمة

 وقد أحرم ﷺ من الجعرانة عندما رجع من الطائف ولم يشعُرْ به كثير مِمَّن كانوا معه، وهمّ أن يحرم من الحديبية وأمر عائشة أن تحرم من التنعيم. 

  • من هنا قال الشافعية: أفضل مواطن العمرة لمن كان بمكة الجعرانة، ثم الحديبية، ثم التنعيم.

  • قال سيدنا مالك: بل يخرج الى الحِلِّ فيحرِم منه. 

يقول ابن القيم: لم يُنقَل أنه ﷺ اعتمر مدة اقامته بمكة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلاً إلى مكة، ولم يعتمر خارجًا من مكة إلى الحِلِّ، ثم يدخل مكة بعمرة -كما يفعل الناس وغيرهم- لكن قال أهل العلم: أن السيدة عائشة أرادت أن تعتمر بعد الحج، فأمر النبي ﷺ عبد الرحمن بن أبي بكر -أخاها- أن يأخذها إلى التنعم، فهو إذًا، شَرَعَ الخروجَ من الحَرَم لأجل الإحرام بالعمرة، فلا إشكال في ذلك. 

جاء عن ابن عباس: يا أهل مكة، من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسّر. يعني: إذا أحرم من ناحية مزدلفة؛ يعني يخرج إلى الحِلِّ، فهذا متفق عليه؛ أن الذي يريد الإحرام بالعمرة من أهل مكة المكرمة فيخرج إلى خارج حدود الحرم -من أي جهة من الجهات- ثم يحرِم من هناك بالعمرة، ويدخل معتمرًا، وبالله التوفيق.

أصلحَ الله شأن المسلمين والحرمين الشريفين، وفرَّج على بيت المقدس من اعتداء المعتدين وأذى المؤذِين، وشر أهل الشر، وأصلح شؤون الأمة في المشارق والمغارب، ودفع عنا وعنهم المصائب والنوائب، وأصلح كل شأن لنا ولأهل لا إله إلا الله، وحوَّلَ الأحوال إلى أحسنها بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ. 

 

تاريخ النشر الهجري

11 شوّال 1442

تاريخ النشر الميلادي

23 مايو 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام