شرح الموطأ - 173 - كتاب الاعتكاف: باب النكاح في الاعتكاف، وباب ما جاء في ليلة القدر

شرح الموطأ - 173 - باب النكاح في الاعتكاف، وباب ما جاء في ليلة القدر، من قول الإمام مالك: (لا بأس بنكاح المعتكف نكاح المِلْك..)
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الاعتكاف، باب النكاح في الاعتكاف، وباب ما جاء في ليلة القدر.

 فجر الثلاثاء 17 شعبان 1442هـ.

باب النِّكَاحِ فِي الاِعْتِكَافِ

889 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ، نِكَاحَ الْمِلْكِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ.

890 – قَالَ: وَالْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ أَيْضاً تُنْكَحُ، نِكَاحَ الْخِطْبَةِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ.

891 – قَالَ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ، مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ.

892 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ زِيَادٌ: قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ، أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وَلاَ يَتَلَذَّذَ مِنْهَا بِقُبْلَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ وَلاَ لِلْمُعْتَكِفَةِ، أَنْ يَنْكِحَا فِي اعْتِكَافِهِمَا، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ، فَيُكْرَهُ، وَلاَ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْكِحَ فِي صِيَامِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ، وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ، أَنَّ الْمُحْرِمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَلاَ يَتَطَيَّبُ، وَالْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ يَدَّهِنَانِ وَيَتَطَيَّبَانِ، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ يَشْهَدَانِ الْجَنَائِزَ، وَلاَ يُصَلِّيَانِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَعُودَانِ الْمَرْضَى، فَأَمْرُهُمَا فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفٌ.

قَالَ زِيَادٌ، قَالَ مَالِكٌ: وَذلِكَ لِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ، فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَالْمُعْتَكِفِ، وَالصَّائِمِ.

باب مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

893 - حَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِىِّ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسُطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَاماً حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِى يَخْرُجُ فِيهَا مِنْ صُبْحِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: "مَنِ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ مِنْ صُبْحِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ".

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأُمْطِرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ، مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.

894 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ".

895 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ".

896 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ، فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ".

897 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: "إنِّي أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى تَلاَحَى رَجُلاَنِ فَرُفِعَتْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ".

898 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ، فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ".

899 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ، أَنْ لاَ يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ، مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

900 - وَحَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ : مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء وبيان أحكامها على لسان خير الورى، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الكبراء، وعلى من والاهم في الله واستَنّ بسنتهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين البالغين في القُرب والكرامة أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالاعتكاف، وبليلة القدر التي تكون في رمضان. قال: "باب النِّكَاحِ فِي الاِعْتِكَافِ"؛ يعني: عقده، أو الشهادة فيه، أو إجراؤه من غير مقاربة ولا مسيس. 

قَالَ مَالِكٌ: "لاَ بَأْسَ بِنِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ، نِكَاحَ الْمِلْكِ،"؛ -أي العقد- "مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ." فإن ذلك مُحرّم بالإجماع لقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ) [البقرة:187]. قَالَ: "وَالْمَرْأَةُ الْمُعْتَكِفَةُ أَيْضاً تُنْكَحُ"؛ بأن يعقد عليها، "نِكَاحَ الْخِطْبَةِ،"؛ تخطب ويعقد عليها، "مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ".

"وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ، مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ"؛ فإنه وهو صائم بالنهار يحرم عليه أن يباشر أهله، فكذلك في ليله -في الليل- يَحرُم عليه أن يباشر أهله، فإذا خرج لقضاء الحاجة في بيتٍ ونحوه لا يجوز له أن يمسَّ أهله.

إذًا؛ مما أُبيح للصائم التَطيّب، وإذا حصل أيضًا بيعٌ أو شراء في خارج المسجد وهو ماشٍ، أو حصل وهو في المسجد، أَمْرٌ بشيء من ترتيب شؤون بيته أو معاشه، كل ذلك لا يَضرُّ، فيصحُّ الاعتكاف مع التطيّب، فليس ترك التطيّب بشرط في الاعتكاف، للمعتكف أن يتطيب ويُرجِّل شعره، وكذلك يتزوج، ويُزوِّج من دون مسيس، بخلاف المُحرِم في الحج أو العمرة، يحرم عليه ذلك. ويجوز للمعتكف أن يتزيّن بلبس الثياب. 

  • فكذلك ما أورده الإمام مالك، وهو مذهبه: بأن عقد النكاح ونحوه إذا لم يكن مسيسٌ فهو جائز للمعتكف. 
  • وقال الإمام أحمد: لا يستحب له إلا ذكر الله تعالى والصلاة.

 كما أن له أن يأكل في المسجد، وينبغي أن يبسط سفرة ونحوها ليكون أنظف أن يصيب المسجد شيء من أثر الطعام، وله يغسل اليد وسط المسجد في طستٍ ونحوه فلا يبلل المسجد. وهذا ما أشار إليه الإمام مالك -عليه رحمة الله- في قوله: "وَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ، أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وَلاَ يَتَلَذَّذَ مِنْهَا بِقُبْلَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً يَكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ وَلاَ لِلْمُعْتَكِفَةِ، أَنْ يَنْكِحَا فِي اعْتِكَافِهِمَا،"؛ يعني: بالعقد، "مَا لَمْ يَكُنِ الْمَسِيسُ، فَيُكْرَهُ، وَلاَ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَنْكِحَ فِي صِيَامِهِ،"؛ يعني: وإن كان في غير اعتكافه، وهو غير معتكف، "وَفَرْقٌ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُعْتَكِفِ، وَنِكَاحِ الْمُحْرِمِ،"؛ بحج أو بعمرة، فإنه هناك حرام. 

"أَنَّ الْمُحْرِمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ"؛ يعني: تجوز له هذه الأفعال كلها، "وَلاَ يَتَطَيَّبُ،"؛ يعني يحرم على المحرم بحجّ أو عمرة أن يتطيب، وهذا يجوز للمعتكف، فَفَرْق بين المعتكف وبين المحرِم فيما يجوز لكل منهما وما يحرم على كل منهما. 

قال: "وَالْمُعْتَكِفُ وَالْمُعْتَكِفَةُ يَدَّهِنَانِ وَيَتَطَيَّبَانِ،"؛ فإذًا، لا بأس للمعتكف في المسجد بالتطيّب بأي طيب كان، بل يستحب ذلك لمثل الصلاة والجمعة، ويجوز له أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره، ولا يجوز ذلك للمحرِم، وكذلك التزين بلبس الثياب، وقال الإمام أحمد: يستحب للمعتكف ترك التطيب والتزين برفيع الثياب. 

"وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا"؛ يعني: المعتكف والمعتكفة، "مِنْ شَعْرِهِ"؛ وهذا لا يجوز للمحرم بحج أو بعمرة، ويجوز للمعتكف.  

"وَلاَ يَشْهَدَانِ الْجَنَائِزَ"؛ وهذا يجوز للمحرم أن يشهد الجنائز، ولا يجوز للمعتكف.   

"وَلاَ يُصَلِّيَانِ عَلَيْهَا"؛ يعني الجنازة، "وَلاَ يَعُودَانِ الْمَرْضَى"؛ بخلاف المحرم فإنه يعود المرضى. 

إذًا؛ "فَأَمْرُهُمَا فِي النِّكَاحِ مُخْتَلِفٌ"؛ يعني فيجوز أن يعقد المعتكف، ولا يجوز أن يعقد المحرم. 

"وَذلِكَ لِمَا مَضَى"؛ أي في زمن السلف، "مِنَ السُّنَّةِ"؛ أي: الطريقة المسلوكة، "فِي نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالْمَعْتَكِفِ وَالصَّائِمِ."؛ أي: وإن لم يكن الصائم معتكفًا، أنه يجوز لهم ذلك دون المحرم.

 ثم أنّ هذا مبني على ما يتعلق من الأحكام الفقهية؛ بماذا يُفْسِدُ الاعتكاف؟ 

  • وأجمعوا كما أشرنا: على أن المباشرة للزوجة يبطل الاعتكاف بالإجماع، ولكن إذا لم تكن مباشرة ولكن كان قُبلة ونحوها فذلك حرام عليه، فإذا حصل الإنزال بطل الاعتكاف. 
  • والإمام مالك يقول: 
  • قُبلة أو نحوها، أو أي لمس بتلذّذ يبطل الاعتكاف، أنزل أو لم ينزل. 
  • كما يقول في الصائم: إذا باشر أهله فأمذى ولم يُمني أنه يُبطِل صومه بالمذي. 
  • ويقول في المعتكف: أنه يبطل صومه بمجرد التلذّذ بقبلة أو نحوها، وإن لم يُنزل. 
  • وقال جمهور العلماء: إن أنزل بطل اعتكافه، وإن لم ينزل لم يبطل اعتكافه. 

فعلمنا اتفاقهم على: أن الجماع في الاعتكاف حرام ومبطلٌ له، للآية الكريمة: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ) [البقرة:187].

  • واشترط الشافعية مع ذلك: 
  • أن يكون عالمًا بالتحريم.
  • غير معذور بجهله إن كان جاهلًا.
  • وأن يكون ذاكرًا لا ناسيًا. 

وكذلك ما أشرنا إليه مِن أنّ ما يتعلق باللمس والقُبلة؛ 

  • أنّها إن أنزل أفسدت الاعتكاف عند الأئمة كلهم. 
  • وإن لم ينزل فعند المالكية يبطل اعتكافه بمجرد التلذذ بذلك وهكذا. 

ثم بعد ذلك، إن كان نَذَرَ اعتكافًا متتابعًا فإن عليه أن يعيده، وأن يردّه من أوله لمكان تَجَرُّؤهِ وإبطاله له.

 

باب مَا جَاءَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

 

ثم ذكر لنا ليلة القدر، بلغنا الله إياها وغَنَّمنّاهَا، وجعلنا عنده من خواص أهلها. قال عنها نبينا: "لا يُحرَمَ خيرُها إلا محرومٌ" -والعياذ بالله تعالى-. "مَن حُرِمَ خَيرَها فقد حُرِمَ"؛ أي حلّ عليه شديد الحرمان بأن يحرم ليلة القدر. 

وهكذا يتربص الشيطان بالإنسان المؤمن ليفسد عليه أعماله، فيترقّب ليلة أن يتوقع ليلة القدر، فيحمله فيها على خصام، أو منازعة أو أذى، أو فعل شيء من الشر، أو خروج إلى أسواق فيها اختلاط وما إلى ذلك، فيُركِّز أن يستجرّه إلى ذلك في ليلة القدر ليكون في المحرومين -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، و "لا يُحرَمَ خيرُها إلا محرومٌ". 

وهي من أفضل الليالي، أفضل ليالي السنة، (َيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) [القدر:3-4]؛ أي: بكل أمر، فتكون الملائكة في تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الشجر والحجر؛ لكثرة أمر الله لهم بالنزول، فلكثرتهم يملؤون الأرض، ويمرُّون على أماكن المؤمنين، وعلى مواضع صلواتهم واجتماعاتهم، ويتصافحون معهم إذا تصافحوا، وفي الحديث: "مَنْ فَطَّرَ صائِمًا مِن مالٍ حَلالٍ؛ صَلَّتْ عليهِ الملائكةُ لَيالِيَ رَمَضَانَ، وصلَّى عليهِ جبريلُ ليلةَ القدرِ"، وفي رواية أيضًا جاءت بسند صحيح: "وصافحَه جبريلُ ليلةَ القدرِ، ومَنْ يصافِحُهُ جبريلُ يكثُر دموعُه ويرِقُّ قلبُه". 

فيختلط الملائكة ليلة القدر بالعباد المؤمنين، ويدخلون إلى بيوتهم، وإلى منازلهم، وإلى أماكن صلواتهم وذكرهم واجتماعاتهم، ويؤمِّنون على أدعيتهم، ويشاركونهم في التسبيح والتحميد والصلاة على النبي ﷺ، ويستمعون قراءتهم للقرآن، ويشهدون الصلوات معهم في تلك الليلة، وإذا تصافحوا تصافحوا معهم.

 فهي ليلة خصَّ الله -تبارك وتعالى- بها هذه الأمة، سمّاها الحق ليلة القدر؛ أي الليلة ذات القدر، أي: الشأن والعظمة والمكانة والمنزلة -القَدر-، ليلة القدر، ليلة العَظَمَة، ليلة الشرف والشأن والكرامة، وهي التي أنزل الله فيها القرآن، وفي روايات ثابتة أنّ بداية النزول كانت ليلة السابع عشر من رمضان؛ فيها نزل جبريل إلى غار حراء بالوحي إلى سيدنا خير الورى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) [العلق:1-2]، فكان ابتداء نزول القرآن في ليلة القدر، فجعل الله فيها خصائص لهذه الأمة المحمدية، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦۤ) [الأنعام:91]. 

ومعنى ليلة القدر؛ أي: أنها ذات قدرٍ عظيم -ليلة القدر-، لِما يحصل فيها وينزل من البركة والرحمة والمغفرة، "مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ"، ويضاعف العمل الصالح فيها إلى الأفضل، فيكون أفضل وخير من العمل في مدة ألف شهر، فالركعة فيها تفوق ثواب ثلاثين ألف ركعة في غيرها؛ لأن الشهر ثلاثين، وألف شهر يعني ثلاثين ألف، فتصير الركعة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف ركعة في غيرها، والصدقة بدرهم في ليلة القدر أفضل من الصدقة بثلاثين ألف درهم في غير ليلة القدر، والتسبيحة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف تسبيحة في غير ليلة القدر، وهكذا.. 

كما أشار الإمام الحداد في حديث ما وهب الله عموم المؤمنين من الصلاة: "أربعٌ بعدَ العشاء يَعدِلنَ مِثلَهُن من ليلة القدر"، قال: وذلك فوق المئة وعشرين ألف ركعة، الأربع ركعات؛ لأن كل ركعة فوق ثلاثين ألف، فالأربع الركعات فوق مئة وعشرين ألف. "أربعٌ بعدَ العشاء يَعدِلنَ مِثلَهُن من ليلة القدر"، ومثلهن من ليلة القدر، أربع ركعات أفضل من مئة وعشرين ألف ركعة، كل ركعة ثلاثين ألف، فأربعة بثلاثين ألف صارت مئة وعشرين ألف، فصارت صلاة المؤمن بعد صلاة العشاء أربع ركعات في كل ليلة يحصّل بها ثواب أكثر من ثواب مئة وعشرين ألف ركعة، فالعاقل المؤمن يغنم عمره، يصلّي كل ليلة بعد العشاء أربع ركعات، فيحصّل في الصحيفة أكثر من مئة وعشرين ألف ركعة، وبذلك تضاعف الخير والأجور لهذه الأمة. 

يقول ﷺ: كمَثَلِ ملكٍ استأجرَ أُجَرَاءَ، فعملوا له من الصباح إلى الظهر، فأعطاهم أجرهم قيراطًا قيراطًا، ثم استأجر آخرين، فعملوا من الظهر إلى العصر، فأعطاهم أجرهم قيراطًا قيراطًا، ثم كان آخر العشيّة في العصر استأجر أُجراء، فعملوا إلى المغرب، فأعطاهم أجرهم قيراطين قيراطين، فقال الأولون: هؤلاء أقل عملًا منّا وأكثر أجرًا!، فقال: "هلْ ظلَمْتُكم مِنْ حقِّكُم شيئًا؟" قالوا: لَا، قال: "فذلِكَ فضْلِي أوتِيهِ مَنْ أشاءُ"، وهذا فضل الله على هذه الأمة ببركة نبيها نبي الرحمة ﷺ، فحقَّ علينا أن نشكر الله -تبارك وتعالى-، وأن نغنم هذه المنن والمواهب. 

فكذلك الذي يحييها يكون ذا قدر جسيم، ثم إن هذه الليلة معطاة لعموم الأمة، وأما خواصّها؛ فيضاعف الله عمل الواحد منهم في كل ليلة كمضاعفته للعموم في ليلة القدر، فتصبح لياليه كلها ليالِيَ قدر.

يا رب كم عبد قرّبته *** دايم لياليه قدرية

وقالوا: على كلّ وقتٍ عندنا ليلة القدر، فإذا ضاعف الله كما قال في كتابه: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:261]؛ فيضاعف الله، يجعل لك كل ليلة مثل ليلة القدر ويزيد ما شاء -لا إله إلا هو-. 

وقيل أنها من القَدَرْ، بفتح الدال، وفي هذا شيء من التكلّف، وأن الملائكة تكتب فيها الأقدار، فيها يٌفرق كل أمرٍ حكيمٍ ويبرم. وقيل أن القَدْر والقَدَر، كالنهْر والنَهَر، يقال فيه: نهْرٌ ونَهَر، وقَدْرٌ وقَدَر، وهذه الليلة الفاضلة اختُصَّت بها هذه الأمة، مع أن رمضان يجيء للأمم كلها، جاء على الأمم كلها، لكن المضاعفة والخير المخصوص والتنزُّل للملائكة خصَّ الله به أمة مُحمَّد عبده المختار ﷺ، وهي بعد ذلك باقية إلى يوم القيامة. 

ولمّا حدَّث ﷺ أصحابه عن رجل من بني إسرائيل حمل السلاح يجاهد في سبيل الله ألف شهر، فغبطوه على ذلك، وقالوا: يارسول الله، أعمارنا لا تصل إلى هذا.. كم عمر الواحد منّا؟ القليل مِنّا من يصل إلى ألف شهر، ثلاث وثمانين سنة وشيء، وهذا طول هذه السنين وهو حامل السيف في سبيل الله يجاهد، فمتى نصل ثوابهم؟ فتقاصروا أعمارهم، فأنزل الله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) [القدر:1-3]؛ لم يقل مثل ألف شهر، بل قال: (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، قال: أنتم يعبدني أحدكم في ليلة واحدة، فأكتب له أعظم من ثواب ذاك في عبادته ألف شهر -لا إله إلا الله- ثلاث وثمانين سنة، نعمة من الله على هذه الأمة، اللهم لك الحمد شكرًا، ولك المَنُّ فضلًا، فأتمم علينا النعمة، وغَنِّمنا ليلة القدر، واجعلنا عندك من خواص أهلها. 

وفي الأخبار: أن الملائكة لكثرة طلوعهم ذاك اليوم في الهواء ترى الشمس ضعيفة الشعاع من غير سحاب، تراها بيضاء لا شعاع لها، لكثرة من يصعد ما بين الأرض والسماء من الملائكة، فيأذن جبريل بعد الفجر لهم بالرجوع إلى السماء، فيبدأ أرسالهم، يرتحلون حتى تطلع الشمس، ولا يزال الجو ملآن بهؤلاء الصاعدين، فلذلك تصبح الشمس بيضاء لا شعاع لها، ويكون يوم القدر الذي يلي ليلة القدر، وله ثواب أيضًا عظيم. 

وجاء في رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عَن مُجَاهِد أَن النَّبِي ﷺ: "ذكر رجلًا من بني إِسْرَائِيل لبس السِّلَاح فِي سَبِيل الله تَعَالَى ألف شهر، قال: فَعجب الْمُسلمُونَ من ذَلِك"، فَأنزل الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) [القدر:1-3]. 

وجاء في رواية ابن أبي حاتم قال: ذكر رَسُول الله ﷺ يَوْمًا أَرْبَعَة من بني إِسْرَائِيل عبدُوا الله ثَمَانِينَ عَامًا لم يعصوه طرفَة عين، ذكر أَيُّوب وزَكَرِيا وحزقيل ويوشع بن نون، فعجب أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ من ذَلِك، فَأَتَاهُ جِبْرِيل -عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، عجبت أمتك من عبَادَة هَؤُلَاءِ النَّفر ثَمَانِينَ سنة؟ فقد أنزل الله عَلَيْك خيرًا من ذَلِك، ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) [القدر:1-3]، وَقَال: هَذَا أفضل مِمَّا عجبت أَنْت وَأمتك، فَسُرَّ النَّبِي ﷺ وَالنَّاس مَعَه.           

فكم أدركنا من خير بواسطة هذا النبي ﷺ! فجزاه الله عنا أفضل الجزاء وأحسنه وأتمّه، وأفضل ما جازى نبيًا عن أمته. 

فهي تزيد في ثوابها على ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، فإذا أدركها المؤمن في اثنا عشر سنة؛ يدرك في كل سنة ليلة القدر فيعبد الله فيها فيفوق على من عبد الله ألف سنة من الأمم السابقة -لا إله إلا الله-، نعمة من نعم الله تعالى على المؤمنين. 

ووصلت الأقوال كما ذكر الإمام ابن حجر في الفتح -في ليلة القدر- إلى خمسين قول. 

  • مِن قَول: أنها في العام كله تتنقل. 
  • ومِن قَول: أنها بخصوص رمضان. 
  • ومن قَول: أنها بخصوص العشر الأواخر. 
  • ومن قَول: أنها تلزم ليلة بعينها. 
  • ومن قَول: أنها تتنقل في الليالي العشر وحدها. 
  • أو في ليالي رمضان كلها. 
  • أو في ليالي السنة.

 إلى غير ذلك من الأقوال... وأجمعوا بعد ذلك؛ أن أرجاها العشر الأواخر من رمضان، وأن الأوتار فيها أرجى. وينبغي أن يطلبها المؤمن في جميع ليالي الشهر، فقد تكون أول الشهر، أو وسطه، وإن كان الغالب أن تكون في العشر الأواخر. 

وتقدم معنا كلام الإمام الشافعي؛ من أنها بين الحادي والعشرين والثالث والعشرين، وذلك لما صحّ عن نبينا ﷺ فيها، وهذا القول أَولى الأقوال بالتحقيق: قول أنها مخصوصة في رمضان وأنها تتنقل في ليالي رمضان، وقد تكون في العشر أو ما قبلها، وقد تكون في أوتار أو في أشفاع، ففي كل سنة تكون في ليلة، فالمراد بإرادة النبي إخبارهم عن ليلة القدر؛ أي يذكر لهم العلامة في كل عام يعرفون بها أنها هذه الليلة في ليلة كذا، ولكن الحق تعالى اختار أن لا يظهر هذا للناس فتسبّب في رفع هذا تلاحي رَجُلَين "تَلاَحَى رَجُلاَنِ فَرُفِعَتْ"؛ أي رُفع العلم بتعيينها. 

ولقد عُيِّنَت لرسول الله ﷺ وأراد أن يخبر الأمة بالعلامة التي يدركون بها تعيين ليلة القدر في كل سنة، فخرج يريد ذلك، فصادف تلاحي رجلين؛ تخاصمهم، سِباب بينهم، فرفعت، وقال: إني خرجت أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت. جاء في بعض الروايات: "ولعل في ذلك خير"؛ لكم فيه خير، لا تعرفونه، اجتهدوا في الليالي كلها. قالوا: هذا من شؤم التلاحي؛ يمنع الناس خيرات وعلوم كثيرة، فما يكسب التلاحي والتخاصم إلا سوء، وإلا شر -والعياذ بالله تبارك وتعالى.

  • مال الحنفية إلى قول ابن مسعود: أنها تكون ولو في غير رمضان، فتكون في كل سنة، وأنها تطوف على أوقات، والغالب تكون في رمضان. 
  • وقال الجمهور: أنه إنما تكون في رمضان، وأنها في العشر الأواخر أرجى، وفي الليالي الأوتار منها أرجى. 

فكان هناك حِكَم في إخفائها؛ لتجتهد الأمة وتغنم أيامها ولياليها، كما أخفى -سبحانه- رضاه في الطاعات؛ حتى يرغبوا في الكل ولا يحتقروا طاعة، فكذلك لا تُقصِّر في ليلة، ربما في الليلة العظيمة يأتيك الكسل من نفسك أو من الشيطان يُخذِّلَك عنها، فلا تكسل في شيء من ليالي رمضان. 

وكما يفعل بكثير من الناس يتركهم في أول رمضان، يراهم يقبلون بهمة فيتركهم، وبعد مرور كم أيام يُكسّلهم قليل، ثم بعد أيام يُكسّلهم قليل، حتى ما يَصِلون إلى العشر الأواخر إلا وهم خلاص كسلانين -لا حول ولا قوة إلا بالله-، الوقت الذي ينبغي أن يزيدون في العبادة هُم يقِلّون! من خبث المخادع لهم، خادعهم وضحك عليهم، إنما ينبغي للمؤمن أن يتذكر، وأن يَتَبصَّر، فيزداد هِمة في كل ليلة من ليالي رمضان عن التي قبلها، ولا يزال همته تزداد، وفّر الله حظنا من رمضان وبلّغنا الله إياه، وجعلنا من خواصّ أهله. 

  • وكما أخفى -سبحانه- سخطه في المعاصي لأجل الاحتراز عن الكل.
  •  وأخفى ولايته وعنايته في الخلق حتى لا يُحتَقر أحد من الناس فلعلّه وَلِي لله -تبارك وتعالى-.
  •  وكما أخفى على العامة الاسم الأعظم بين الأسماء حتى يعظِّموا جميع الأسماء ولا يهملوا الدعاء بها (وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ ) [الأعراف:180].
  •  ولئلا يتساهل من علم ليلة القدر بالوقوع في التقصير أو الذنب في غيرها من الليالي، يعتمد على أن هذه الليلة قد علمها وسيتعرّض للمغفرة فيها. 

ويروى أنه ﷺ: دخل المسجد فرأى نائمًا، فقال: يا عليُّ نبهه ليتوضأ، فأيقظه عليُّ، ثم قال عليُّ: يا رسول الله إنك سبَّاق إلى الخيرات، فَلِمَ لم تنبِّهُه؟ قال: لأن ردّه عليّ كفر، وردَّه عليك ليس بكفر؛ لو أنت نبهته و رَدَّ عليك ورفض كلامك ما عليه كفر، ولكن لو أنا جئت ونبهته وما رضي يقوم يصير عليه كفر بردّه لكلام النبي ﷺ، قال: ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى. فهذه رحمة الرسول بالأمة. وقالوا: ومن هذه الحكمة أنه لم يتولى الأذان؛ لأن في قوله: حي على الصلاة أَمْر، فصار كل من سمعه وجب عليه أن يأتي وإلا أَثِم، فجعل غيره من الصحابة يؤذِّنون وهو يؤمّهم ﷺ. فإذا كانت هذه رحمة النبي في أمته، فكيف برحمة الرب -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

وليجتهد المكلف في طلبها فيكتسب ثواب الاجتهاد، فيَعُم اجتهاده بعد ذلك ليالي رمضان، يباهي الله بهم الملائكة؛ لأنه ينظر إلى تنافس عباده فيها في الطاعات -سبحانه وتعالى-، وثوابها يحصل وإن لم يعرفها، كل من قام فيها وإن لم يظهر له شيء من علاماتها ولم يشعر أنها ليلة قدر فثوابه محفوظ بفضل الله تبارك وتعالى. 

إلا الذين عرفوا الحق -جل جلاله-، فأهل المعرفة الخاصة يذوبون في محبة العبادة، ليلة القدر أو غير ليلة القدر لا يبالون، كُتب ثوابه أم لم يكتب، فإن المعبود عندهم هو المقصود الأَجلْ، فأهل المعرفة بالله؛ هؤلاء ما يؤثر فيهم المعرفة، بهذا يعرفون ليلة القدر وغيرها، لأنه لا يؤثر عليهم تلك المعرفة بليلة القدر، ويدل عليه ما قالت السيدة عائشة لنبينا: "أَرَأَيْتَ إِنْ أَدْرَْكتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ"؛ فمعناها تعرف تميزها عن غيرها، "بِمَ أَدْعُو؟"؛ فعلّمها دعاء، وما قال: كيف تدركين؟ كيف تعرفين؟ كيف عرفتِ بليلة القدر؟، أقرّها على أنها قد تدرك ليلة القدر، قال لها: قولي: "اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي"، فهي من الأدعية المهمة في ليلة القدر، أن تطلب الله يعفو عنك وهو كريم العفو، وكريم العفو إذا عفا؛ لم يؤنِّب، ولم يعاتب، ولم يفضح، وخلاص عفا، عفا كريم العفو -جل جلاله-، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا يا كريم، فهي ليلة شريفة معظّمة، غنَّمنا الله قيامها وجعلنا من خواص أهلها عنده. 

يقول "عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسُطَ"؛ أي: الأواسط، "مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَاماً حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ"؛ الليلة التي يخرج فيها من الاعتكاف ﷺ، "إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِى يَخْرُجُ فِيهَا مِنْ صُبْحِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ قَالَ: مَنِ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ"؛ يعني: من اعتكف معي العشر الأواسط فليعتكف العشر الأواخر؛ لأنه أخبره جبريل: الذي تطلب أمامك، ليلة القدر قدامك بعدها ما جاءت. وجاء في رواية مسلم: "أنه ﷺ اعتَكفَ في قُبَّةٍ تُركيَّةٍ علَى سُدَّتِها قِطعةُ حَصيرٍ، قالَ: فأخذَ الحصيرَ بيدِه فنحَّاها في ناحيةِ القُبَّةِ ثمَّ أطلَعَ رأسَه فَكلَّمَ النَّاسَ، قال: إني اعتكفت العشر الأُوَل التمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت، فقيل لي أنّها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف"، فاعتكف الناس معه "وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ مِنْ صُبْحِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ".  

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: "فَأُمْطِرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ"؛ السماء أمطرت عليهم، "وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ"؛ يعني: سال ماء المطر من سقفه، "قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ"؛ يعني: من صلاة الفجر، "وَعَلَى جَبْهَتِهِ"؛ الشريفة، "وَأَنْفِهِ"؛ أرنبة أنفه ﷺ، "أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ، مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ".

وكذلك جاء حديث عن النبي  قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"؛ فهي الغالب تكون فيه. وأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ"؛ كذلك لما يغلب أن تكون فيه. 

وقال عبدالله بن أنيس: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ"؛ يعني: بعيد بيتي من المسجد، "فَمُرْنِي لَيْلَةً أَنْزِلُ لَهَا"؛ يعني: أنزل تلك الليلة من البادية وآتي إلى مسجدك هذا أتعرّض إلى رحمة ربي، وكان في تلك السنة عَلِم  أن ليلة القدر ستكون ليلة ثلاث وعشرين، "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ"؛ فنَزل، وكانت في تلك السنة هي ليلة القدر، وبهذا جاء قول الشافعي: أنها بين إحدى وعشرين وثلاث وعشرين؛ أنها أرجى في هاتين الليلتين.

ويقول أنس بن مالك: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: إنِّي أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى تَلاَحَى رَجُلاَنِ فَرُفِعَتْ"؛ أي: رُفِع العلم بها، "فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ"؛ 

  • المراد بالتاسعة: أي ليلة تسع وعشرين، والسابعة: سبع وعشرين، والخامسة: الخمس وعشرين، هذا معنى، يعني ليلة التاسعة تمضي من بعد العشرين. 
  • ولكن في رواية أخرى: تاسعة تبقى، التاسعة تبقى، بمعنى ليلة إحدى وعشرين وباقي تسع ليالي باقية، وهكذا.. 

فإذاً؛ يكون تاسعة تبقى من ليلة واحد وعشرين، فقيل هذا هو العد؛ أنه تُعدُّ فيُحسَبُ تسع الباقي، التاسعة تبقى أي ليلة واحد وعشرين، لأن تسع وعشرين يقين، الثلاثين يكون مشكوك؛ قد تكون من الشهر وقد لا تكون من الشهر، فلا تُحسب في العدد، وعلى القول الثاني: تُحسب، فإذا حُسبت معنى تاسعة تبقى معناها ليلة الثاني والعشرين، السابعة تبقى معناها ليلة أربع وعشرين، وهكذا.. 

إذاً؛ فكل الليالي فيها احتمال أن يكون مراده  بها، فينبغي أن نغنم جميع الليالي. ويقول ابن عبد البر: المراد بالتاسعة؛ ليلة إحدى وعشرين، إلا أنّ المعنى عنده أن التاسعة تبقى بعد الليلة التي تُلتمس فيها، فيكون العدد من ثلاثين، يعني تكون الليالي كلها أوتار. 

بعد ذلك أورد لنا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ"؛ وفيه ما يحصل للصحابة في مرائيهم ومنامهم من الهدى والصلاح والدلالة الغيبية، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ"؛ يعني: توافقت، "فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ"؛ وفيه تقرير أن في الرؤيا الصالحة دلالة معتبرة وإشارة، وإذا تكرّرت الرؤى دلّت دلالة أقوى، "إنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ"؛ توافقت على السبع الأواخر، "فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ".

"عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ،"؛ ﷺ رحمة بهم وشفقة وحرصًا، قال: "أَنْ لاَ يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ، مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ".

كان سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: "مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ"؛ يعني: في الجماعة، "مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا"؛ أقل حظ يأخذه أنه صلى العشاء في جماعة في ليلة القدر، فهذا أقل الإحياء، ولكن بعد ذلك كل شيء بحسابه، كما سمعت؛ كل ركعة فوق الثلاثين ألف ركعة، وكل تسبيحة فوق الثلاثين ألف تسبيحة، وكل آية فوق الثلاثين ألف آية،… وخُذْ لك من عطاء الله -سبحانه وتعالى- ما لا يُحَدْ ولا يُعَدْ. 

الله يُغَنّمنا إياها، ويجعلنا من خواص أهلها عنده، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

22 شَعبان 1442

تاريخ النشر الميلادي

04 أبريل 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام