(230)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الاعتكاف، باب ما لا يجوز الاعتكاف إلا به، وباب خروج المعتكِف للعيد.
فجر الأحد 15 شعبان 1442هـ.
باب مَا لاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ بِه
880- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَنَافِعاً مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالاَ: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة:187] فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الاِعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا، أَنَّهُ لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ.
باب خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ لِلْعِيدِ
881- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اعْتَكَفَ، فَكَانَ يَذْهَبُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ، فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ، فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
882- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، لاَ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ، حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ.
قَالَ زِيَادٌ قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.
الحمد لله واهبنا العِبادة ومُبيّنها لنا على لسان عبده سيِّد السَّادة مُحمَّد بن عبد الله، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سار على منهجه ودربه من أهل مودته وحُبه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل رضوان الحقّ وقُربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ولايزال الإمام مالك يواصل ذكر الأحاديث المُتعلقة بالاعتكاف، هذه العبادة التي يحبس الإنسان فيها نفسه عن الالتفاتات إلى أنواع الكائنات والمخلوقات، مستمطرًا رحمات ربِّه -سبحانه وتعالى- ومُتعرّضًا لنفحاته. وقال: "مَا لاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ إِلاَّ بِه"
وهو في هذه المسألة في هذا الباب ذكر مسألة الصَّوم، وفيها خلاف قوي بين أهل العلم، هل يُشترط الصَّوم لأجل صحة الاعتكاف أم لا؟ الذي عليه الإمام الشَّافعي والإمام أحمد وغيره، أن ذلك ليس بشرط وليس يلزم أن يكون المُعتكف صائمًا، بل يجوز أن يعتكف بعض اليوم أو بعض الليلة أو ليلة دون يوم إلى غير ذلك. وأشار إلى الآية التي أيضًا بيَّنت وجوب اعتزال الإنسان زوجته وأهله في أثناء الاعتكاف.
وقال: روى عن "الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَنَافِعاً مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالاَ: لاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصِيَامٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة:187]" فأخذوا منه (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ) أنه حُكم واحد، وأنه إنما يكون العكوف في المسجد الذي يكون فيه منع المباشرة لمَن يأكل ويشرب (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).
وهكذا وتقدَّم أيضًا معنا الإشارة إلى ما كان من السيِّدة عائشة في تمشيطها لشعر رسول الله ﷺ وهو مُعتكف، فمن هُنا قال أهل العلم:
○ أن مماسة الرَّجل لنسائه إذا كان من غير شهوة؛ لا ينافي اعتكافه بلا خلاف.
○ فإذا كان بشهوة فجاء فيه خلاف؛ ويصير حرام عليه كونه مُعتكف.
وهل يبطل به الاعتكاف؟
( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) وهكذا، فمَن نذر اعتكافًا معيّنًا؛ ففي وقت الاعتكاف يحرُم عليه أن يأتي أهله، فإن فعل؛ فسد اعتكافه بالإجماع كما نصّت عليه الآية. ولكن اختلفوا فيما إذا كان ناسيًا:
قال: (وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ)؛ أي مُعتكفون في المساجد. "فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الاِعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ"؛ يُفيد أنه لا اعتكاف إلا به.
○ وقالوا: أنه من شرط الاعتكاف الواجب، أما المتطوع به؛ فلا.
○ وقال الشَّافعية والحنابلة وغيرهم: أنه ليس بشرط سواء كان الاعتكاف فرضًا أو كان الاعتكاف سُنَّة.
إذًا فشرط الصَّوم للاعتكاف عند الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- سواء كان الصَّوم نفلًا أو واجبًا. ولهذا يقول: أنه يتم عنده الاعتكاف بلزوم مسجد يصوم يومًا وليلة أو أكثر. وهكذا يقول المالكية: لا يصح اعتكاف من مُفطر ولو لعذر. فمَن لا يستطيع الصَّوم؛ لا يصح اعتكافه.
○ منذور واجب؛ وهذا يشترط له الصَّوم.
○ ومندوب ليس يشترط له الصَّوم. إلا في رواية عندهم عن الحسن أنه حتى في التّطوع يشترط الصَّوم، لكن المُرّجح عندهم في غير فتوى أنه ما يلزمهم الصَّوم في المندوب وإنما في الواجب.
○ وما كان أيضًا من سُنَّة مؤكدة -الاعتكاف الذي هو سُنَّة مؤكدة-؛ فهذا رجّح ابن عابدين من الحنفية فيه وجوب الصَّوم إذا كان سُنَّة مؤكدة. فعنده إنما النَّفل إذا اعتكف ولم يكن صائمًا ولو لمرض أو لسفر، قال: هذا يكون نفل ما تحصل به إقامة سُنَّة الكفاية في مثل العشر الأواخر من رمضان.
ورواية البُخاري مرّت معنا عن سيِّدنا عُمَر أنه قال للنبي: "نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوفِ بنذرك". واللَّيل ليس محل للصوم. ولكن جاء في رواية عند الإمام مُسلم وبها استدل الحنفية:"أن أعتكف يومُا..". وحمل بعضهم أن: اللَّيل يُراد به اليوم واللَّيلة؛ يذكر أحدهما ويُراد به الاثنين، ويراد به اللَّيل مع اليوم، ويقال اليوم ويُراد به اليوم مع اللَّيلة؛ كما أن في رواية البخاري: "ليلة"، وفي رواية مُسلم: "يومًا".
عن سيِّدنا عُمَر -رضي الله تعالى عنه- قال: فهل إذن النَّبي ﷺ له وأمره له بالاعتكاف على سبيل الوجوب؟ لأن النَّذر حصل منه في الجاهلية قبل إسلامه، والصَّحيح عند الشَّافعية أنه لا يلزمه ذلك، وإنَّما أرشده النَّبي إلى ما ينبغي ويُستحب. فإن نذر خيرًا -وإن كان قبل إسلامه-؛ فينبغي بعد إسلامه أن يفي بذلك الخير.
سمعت تفريق الحنفية الاعتكاف إلى ثلاثة أنحاء:
1- إلى واجب بواسطة النَّذر.
2- وإلى متطوّع به.
3- وإلى سُنَّة مؤكدة.
ذكر ما أشرنا إليه من الجمع؛ أنه المُراد به يوم وليلة، جمع ابن حبّان وغيره بين روايتين: مَن نذر اعتكاف يوم وليلة؛ على سيِّدنا عُمَر. بعد ذلك يقول: أن فقهاء المدينة وأهل الكوفة وأبي حنيفة، لكن سمعت تقسيم الحنفية الاعتكاف إلى ثلاث أنحاء؛ فالواجب عندهم مثل الإمام مالك لا يشترط له الصَّوم. فإذا نذر اعتكافًا فيقول مالك: لا بُد يصوم معه، فيقول إذًا نفي بالاعتكاف في رمضان وأنا صائم صوم فرض إذا كان لابد من الصوم…قال الإمام مالك: يجزئ، لكن يناقشون من المالكية فيقولون له: إنما تشرُد من الصَّوم هذا اعتكاف ثاني، غير رمضان، لكن نذرك أوفِ به في وقت ثاني عليك أن تقضيه لأجل أن تصوم... لكن قال الإمام مالك: خلاص الصَّوم حصل إذا قد حصل الصَّوم، فالاعتكاف جائز سواءً كان صوم رمضان أو غيره.
وهكذا عَلِمنا اختلافهم في وجوب الصَّوم مع الاعتكاف.
قال: "خُرُوجِ الْمُعْتَكِفِ لِلْعِيدِ". "عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اعْتَكَفَ، فَكَانَ يَذْهَبُ"؛ يعني: في وقت الاعتكاف؛ في أيام الاعتكاف "لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقِيفَةٍ، فِي حُجْرَةٍ مُغْلَقَةٍ"؛ يعني: مكان غير منزله يقضي حاجته ويرجع. ويُستحب للمعتكف أن يكون قضاء حاجته في غير داره؛ لأنه في رجوعه إلى داره ودخوله إليه ذريعة للاشتغال ببعض ما يظهر إليه فيه. وهكذا استحب بعضهم له، أن لا يدخل بيته ولا يرجع إليه ولا يتوضأ إلا في غيره.
يقول: "فِي دَارِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ" وهو سيف الله الذي سلَّه على المُشركين، كانت وفاته سنة واحد وعشرين، وقيل: ثلاث وعشرين. ولمَّا حضرته الوفاة بكى وقال: لقيت كذا وكذا زحفًا وما في جسدي شبرًا إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنًا برُمح وها أنا أموت على فراشي كما يموت العَيْر؛ يعني: الحمار؛ يتأسف أنه ما حصلت له الشَّهادة. "ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ"؛ أي: من مُعتكفه إلى بيته "حَتَّى يَشْهَدَ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ"؛ يعني يُقيم في مُعتكفه ليلة الفطر؛ ليلة العيد حتى يُصبِّح الصَّباح. يقول: حتى يغدو من مُعتكفه؛ يعني يبيت ليلة الفطر يُحييها في المسجد بالاعتكاف، هذا من باب السُّنَّة. وجاء أنه أيضًا يمكن أن يخرج من مُعتكفه ليلة الفِطر. فإذا جاءت ليلة العيد، كمُلت العشر الأواخر.
ويقول: "عَنْ زِيَادٍ، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، لاَ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ، حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ". فهذا أيضًا من باب الاستحباب ليشهدوا صلاة الفِطر ثم ينصرف، وخصوصًا إذا يخشى أن تفوته صلاة العيد أو لا يقوم بها، فينبغي أن لا يستعجل بالعودة حتى يُصلي العيد ثم يعود إلى بيته. هذا من باب الاستحباب، وإلا العشر الأواخر انتهت بغروب الشَّمس في آخر يوم من رمضان وحلول ليلة العيد.
"قَالَ مَالِكٌ: وهذا"؛ يعني: مكثُه في المسجد ليلة الفِطر "أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ"؛ يعني سمع خلاف ذلك ولكن هذا أحب ما سَمِع. نعم يقول: "هذا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ". فإذا رأى الإمام مالك أن يخرج المُعتكف من المسجد إلى صلاة العيد باستحبابٍ، يقول: هل يبيت ليلة الفطر في معتكفه حتى يخرج منه إلى صلاة العيد؟ أو يجوز له أن يخرج عند الغُروب من آخر يوم؟
جعلنا الله وإياكم من أهل الفِقه في الدِّين والمُتابعة للنبيّ الأمين، وشرح صدورنا بما شرح به صدور الصَّالحين، وبارك لنا في بقية شعبان، واجعلنا من أسعد النَّاس برمضان، وما يجود فيه في السِّر والإعلان على أهل طُهر الجِّنان وأهل الصِّدق معه في جميع الأناء والأحيان إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ووسّع المالكية في أن المُعتكف له الخروج لغسل الجُمْعة والعيد ولحرٍّ أصابه فيغتسل، ولا يفسد الاعتكاف خلافًا لبقية أهل العلم. وهكذا يقول الشَّافعية والحنابلة: أن غُسل الجُمْعة والعيد؛ نفل ليس بواجب؛ فليس له الخروج من أجله من مُعتكفه إذا نذره، إلا أن اشترط ذلك فجائز نعم.
اللَّهم وفقنا لما تحب، واجعلنا فيمَن تحب في خير ولطف وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
19 شَعبان 1442