(230)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الاعتكاف، تتمة باب ذِكر الاعتكاف.
فجر السبت 14 شعبان 1442هـ.
تتمة باب ذِكْرِ الاِعْتِكَافِ
874 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَبِيتُ الْمُعْتَكِفُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ.
وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ، إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَبِيتُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا اعْتَكَفَ، لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ.
875 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، وَلاَ فِي الْمَنَارِ، يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ.
876 - وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ، الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا، حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ، الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا.
877 - قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ، لاَ يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ، مِنَ التِّجَارَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ بِضَيْعَتِهِ، وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ لاَ يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفاً، أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ.
878 - قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الاِعْتِكَافِ شَرْطاً، وَإِنَّمَا الاِعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنَ الأَعْمَالِ، مِثْلُ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَعْمَالِ، مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً، فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لاَ مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ، وَلاَ يَبْتَدِعُهُ، وَقَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الاِعْتِكَافِ.
879 - قَالَ مَالِكٌ: وَالاِعْتِكَافَ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ، وَالاِعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ.
الحمد لله مُكرِمنا بحُسن البيان، على يد المُصطفى مِن عدنان، سيدنا مُحمّد مَن أنزل عليه القرآن، في شهر رمضان، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، آللهم صلِّ وسلَّم أفضل الصَّلوات وأزكى التسليمات في كل حين وآن، على عبدك المُصطفى سيدنا مُحمّد وعلى آله وأهل بيته المُطهرين عن الأدران، وعلى صحابتهِ الغُرّ الأعيان، وعلى مَن والاهم فيكَ وتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمرسلين، مَن رفعت لهم القدر والمكانة والشأن، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وذكر لنا الشيخ -عليه رضوان الله- الأحاديث المُتعلقة بالاِعْتِكَافِ، كما هي عادة الفقهاء أن يذكروا باب الاعْتِكَافِ بعد أن يذكروا باب الصَّوم، لما قيل من وجوب ارتباط الاِعْتِكَافِ بالصَّوم. وقال آخرونَ يجوز الاعتكاف للصَّائم ولغيرِ الصَّائم أيضًا، وليس من شرط الصَّوم الاعتكاف، ولِكون الاعتكاف أيضًا ثابت وواردٌ وظاهرٌ عن رسول الله ﷺ في العشر الأواخر من رمضان، وهو شهر الصَّوم، فيُلحِقون باب الاعتكاف بباب الصِّيام، وقد ثبت سُنية الاعتكافِ ومشروعيته بالإجماع.
وفي الكتاب العزيز قال سبحانه وتعالى: (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125]. وقال سبحانه وتعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة:187] فهذا الاعتكاف يُتَّعرض فيه لِرحماتِ الله، ونفحاتِ الله تعالى بحبسِ النَّفسِ عن مألوفاتها ومُعتادها، وقصرِها على المُقام في بيتٍ من بيوت الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- مُتعرضةً لما يُفيضه الحق ويتَكرم به، وما يَجودُ مِن تطهيرٍ، وتنقيةٍ، وزيادة إيمانٍ، وزيادةِ قُربٍ منه أو معرفةٍ به -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- ورِضوانٍ مِنْ حضرتهِ العليا، لا إله إلا هو.
فهذا شأن المُعتكِف، وهو مشروعٌ للأمم مِنْ قبلنا كذلك، هذا الاعتكاف في بُيوت الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وقد يُطلق به أيضًا تحصيل ليلةِ القدر كما جاء في رواية عنه ﷺ؛ أنهُ اعتكف بهم بالعشر الأواسط، ثم كلمهم أنه لم تأتِ الليلة بعد، وأنه مَن اعتكف معهُ في العشر الأواسط فليَعتكِف معه في العشر الأواخر. فإنما يجب الاعتكافُ بالنّذر، إذا لم ينذر فهو المَسنون، فإذا أراد الاعتكاف العشر الأواخر فيدخل قبل غروب الشمس في يوم العشرين، قبل أن تغرُب مِنْ ليلة الحادي والعشرين، فيدخل الاعتكاف.
وفي الحديث أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ اعتكف في العشر الأواسط من رمضان، حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قالَ: "مَن كانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأواخِرَ"، وقال لهم في روايةٍ عن ليلة القدر: وإني أُريت أني أسجد صبيحتها على ماء وطين، وجاءت هذه العلامة في سنتين، في سنةٍ كانت ليلة الحادي والعشرين، صارت السَّماء بالمطر، وتخلّل الماءُ سقف مسجد رسول الله ﷺ ووصل إلى الأرض، وكانت مِن طينٍ، فِراش المسجد الشريف مِن طين، فسجدَ على الماء والطين صبيحتها، وفي سنةٍ أخرى كانت ليلة الثالث والعشرين ثارَ السَحَابُ كذلك وسجدَ صبيحتها على الماء والطين، فعرف الصَّحابة أنها كانت ليلة القدر، وأخفاها الله تبارك وتعالى ليبقى تعرُّض النَّاسِ وعبادتهم وتبتّلهم مُستمر، خصوصًا في ليالي العشر الأخيرة.
ومال الشَّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين لهذا الحديث الذي ذكرناه، فيقول: "وقد أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماءٍ وطينٍ، فالتمسُوها في العشر الأواخر، والتمِسوها في كل وتر"، "فأمطرت السماء تلك الليلة"؛ أي: ليلة واحد وعشرين "وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد. قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله ﷺ انصرف علينا؛ يعني: من صلاة الصبح "وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين".
وذكر أيضًا في بعض المواضع:
وقد تكون في العشر الأواسط وهي أقل من أن تكون في العشر الأواخر، وقد تكون في العشر الأوائل وهي أقل من أن تكون في العشر الأواسط. فأخفاها الحق تبارك وتعالى، فهي إذًا على قول الجميع: في العشر الأواخر أرجى، وفي الأوتار أرجى منها في الأشفاع، وقد تكون في ليلة الشفع.
وهكذا يذكر ابن خُزيمة والمُزَني أنَّ ليلة القدر منقولة، تُنقل في كل سنة إلى ليلة، جمعًا بين الأخبار. وعلى هذا فرَّعوا عليه، لو أنَّ أحدًا علَّق طلاق زوجته في ليلة القدر، ولو قال لها في منتصف شهر رمضان أنها طالق ليلة القدر، يقول أبو حَنِيفَة: لا تطلُق إلا إذا قد مضت سنة، لأنه قد يكون قد مضت ليلة القدر قبل الخامس عشر، فما نعرف أنها جاءت إلا إذا مضت سنة. قال آخرون: إذا كان لم يمضِ مِن ليالي العشر شيء فهي بمُضيّ الليالي العشر تُعتبر طالق.
وهذا الاعتكاف إنما يَصِّح مِنَ المسلم المُميز، العاقل، الطاهر -أي: مَن ليس حَيض ونفساء-، وهو: اللبث في المسجد، وقلنا أنه لا يُشترط فيه يومٌ كامل عند جماعةٍ مِنَ العلماء ومنهم الإمام الشَّافعي -عليه رحمة تعالى- فلا يُشترط أن يكون يوم وليلة، ولا ليلة كاملة، وذكرنا في ما مضى حديث سيدنا عُمَر أنه نذرَ أن يعتكِف ليلةً، والليل لا يكون فيه صيام، وبهذا احتج من قال أنه ليس يلزمُ للاعتكاف الصِّيام، ولا يكفي مِن غير شك مجرد عبورٌ في المسجد بالاتفاق وبالإجماع.
وذكر لنا في رَحَبة المسجد، "قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَبِيتُ الْمُعْتَكِفُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ" فعليه ملازمته، فإن نذر ذلك وجب عليه، يعني: لا يخرج مِنْ حدود المَسْجد إلا لقضاء حاجة الإنسان. قال: "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ"؛ يعني: خيمته "فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ" أصل الرحبة السَّعة، ويُقال: مرحبًا؛ يعني: لقيت رَحَبًا وسَعَةً، فالمُراد مِن رَحَبة المَسْجد: ساحته، وهي الصحن داخل المَسْجد، وليس الذي خارج، الصحن الذي داخل المسجد مِنَ المسجد. فيجوز له الخروج إلى الخيمة ما دامت داخل المسجد، ويخرج المُعتكِف إلى رَحَبة المَسْجد لأنها من المسجد.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ، إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَبِيتُ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، قَوْلُ عَائِشَةَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا اعْتَكَفَ، لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ" "وَلاَ يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ"، إذًا:
إذًا لابدَّ للمُعتكف أن يبيت في المَسْجد، أو في َرحَبة المسجد إذا كانت داخل المسجد، ولا يلزمه أن يكون في نفس الخيمة التي نصبها لنفسه، فلا يتقَّيد بذلك الاعتكاف.
"وَلاَ يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ" لأن ظهر المَسْجد ليس مِنَ المَسْجد، إذًا، عند المَالِكْية أنّه لا يكون الاعتكافُ على ظهرِ المسجدِ، أي: على سطحِ المسجدِ
خلافًا للإمام مَالِك عليهِ رحمة الله تبارك وتعالى، فقالَ: ظهرُ المَسْجد لا تُصلى فيهِ الجُمعة، ولا يُعتكف فيه. فسطح المَسْجد عندَ الأئمة الثَّلاثة في حُكمِ المسجد، وفي قولٍ عند المَالِكْية كذلك، ولذلك حكى بعضُهم اتفاقَ الأئمةَ الأربعة على ذلكَ، باعتبارِ أنَّ سطح المَسْجد من جُملته، وبذلك أيضًا يُمنع الجُنب من الصُّعود إلى سطحِ المَسْجد، أو المُكث في سطح المَسْجد، والحائض والنُّفساء كذلكَ.
قال: "وَلاَ فِي الْمَنَارِ" العَلَم الذي يُهتدى به، يعني: على المنارة التي يُأذن عليها، "يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ" البناء، بناء المنارة، يعني ما يجوز الاعتكاف في المنارة إذا كانت خارج المَسْجد ولم تكن من وسط المَسْجد مبنية، أمَّا إذا بُنيت في وسط المَسْجد فهي مثل سطح المَسْجد، ولكن إذا كانت بُنيت خارجَ المَسْجد، وإن كانت مُلتصقة بالمَسْجد فلا يصَّح الاعتكاف فيها.
وعلى ذلك إذا كان هو مُعتكفًا ويُريدُ أن يؤذن، فهل يذهب إلى المنارة إذا كانت خارج المَسْجد ويُؤذن منها أم لا؟ جاءَ في روايتين عن الإمام مَالِك:
وفي قوله: أنَّ هذا معنى يُراد للصَّلاة، فيُؤديه ولا يُبطل به الاعتكاف.
وجاءَ في (الإقناع) من كُتب الشَّافعية: لا ينقطع التَّتابع بخروج المُؤذن الرَّاتب إلى منارة المَسْجد وإن كانت مُنفصلة، إلى منارة مُنفصلةٍ عن المَسْجد قريبةٍ منه لأجلِ الأذان، ولأنَّها بُنيت لأجل الأذان فهو كالرِّوايةِ الثَّانية عندَ الإمامِ مَالِكْ، مُعتمد مذهب الشَّافعية: أنَّ المُعتكف إذا قَرُبت المنارة من المَسْجد جاز له الخروج، فإذا بعُدت عُرفًا فلا. وهذا بالنسبةِ للمُؤذن الرَّاتب المُستمر، المُلازم للأذان، أمَّا غيره إذا اعتكف فلا يخرج لأجلِ الأذان.
"قَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ، الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا، حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ، الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا" لأنَّ قولنا العشر إنَّما يُطلق على الليالي لا على الأيام، (وَلَیَالٍ عَشۡر) [الفجر:2] أما الأيام نقول: عشرة، نقول يُعتكف العشر ولا نقول عشرة، فمعناه يبدأ الاعتكاف من الليل، الليالي العشر، ويدخل هذا من غروبِ الشَّمس؛ فلهذا يدخلُ إلى المَسْجد قبل غروبِ الشَّمس في يوم العشرين، مِن أجل ليلة الحادي والعشرين، أول ليلة من ليالي العشر يكون قد اعتكفها وأدركها من أولِها.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ، لاَ يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ، مِنَ التِّجَارَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ بِضَيْعَتِهِ، وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ لاَ يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفاً، أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ". إذًا، فيجوز للمُعتكف أن يأمر بإصلاحِ معاشه، أو تعهد ضياعه، أو أن يأمر أن يُباع شيءٌ مِن ماله أو أن يُشترى له شيء، كما يجوز له أن يكتب ويشتغل بالكتابة.
أمَّا اشتغاله بقراءة القُرآن ودراسة العِلم فهي زيادة خير. ومال الإمام أحمَدْ بِن حَنبَل عليه رحمة الله: أنَّهُ لا يُستحبُ المُعتكف أن يُشتغل إلاَّ بذكر الله تعالى والصَّلاة، فيكون في وقت اعتكافه ما بين ذكرٍ و صلاة، ذكرٍ و صلاة لا يشتغل بشيء غير ذلك.
والذي ينبغي للمُعتكف أن لا يشتغل إلاَّ بالعبادة، ولا يُضيع وقته في شيءٍ من الأمور الدَّنيوية.
وجاء أنَّ عُمَرَ سأل رسول الله ﷺ: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكِف ليلة في المَسْجد الحرام فقالَ ﷺ: "أوفِ بنذرك"؛ فهل على سبيلِ الإلزام أو الاستحباب؟ لأنَّ النَّذرَ حصل قبل الإسلام، فإذا نذَر أن يعتكف يومًا هو فيه صائم، لزِمُه الاعتكاف في أيام الصَّوم، لأنَّ الاعتكاف بالصَّوم أفضل على قول من لم يشترط الصَّوم، وعلى قول من اشترط الصَّوم لا يَصح الاِعتكاف إلاَّ بالصَّوم، فإذا نذَر أن يعتكف وهو صائمٌ لزِمه أن يعتكف أيام صومٍ، ولا يشتغل إلا بالضرورة من الخروج لحاجة الإنسان.
"قَالَ مالك: لَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الاِعْتِكَافِ شَرْطاً، وَإِنَّمَا الاِعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنَ الأَعْمَالِ، مِثْلُ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَعْمَال" كالعُمرة والطَّواف، "مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً، فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لاَ مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ، وَلاَ يَبْتَدِعُهُ، وَقَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الاِعْتِكَافِ". يعني اختلفوا هل للمُعتكف أن يُشترط فعل شيءٍ مما يمنعه الاعتكاف، فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه ذلك؟ كأن يشترط يعتكف يوم وليلة إلا إذا كان هناك جنازة يخرج..
فشَّبهوا الاعتكاف بالحج في أنّ كلٌّ منهما عبادة مانعة لكثيرٍ من المُباحات، والاشتراط في الحج قال به مَنْ قال، لِما جاءَ في حديث ضُباعة: "حُجِّي واشْتَرِطِي".
وهكذا علمنا المُعتمد عند الشَّافعية أنَّه إن شَرَطَ في اعتكافه أو في نذره اعتكاف، الخروج عند عروض عارضٍ له، جاز له ذلكَ. إذا شَرَطَ الخُروج لعارضٍ مُباحٍ مقصود لا ينافي الاعتكافِ صحَّ الشَّرط في الأظهر يقولُ الشَّافعية كما جاء في (التُّحفة)، فإذا عيَّنَ شيئًا لم يتجاوزه، فإذا لم يُعيِّن فلِكل غرض مقصود، مُباح، يجوز لهُ الخروج بحسبِ شرطهِ.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالاِعْتِكَافَ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ"؛ المُجاورة المُراد منها: المُلازمة؛ لزوم المَسْجد بالليل والنهار، يُقال جاورَ المَسْجدَ: اعتكف فيه. "وَالاِعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ"؛ الساكن في القرية قروي، والبدوي الساكن في البادية في الصَّحراءِ والبرية ذات الخِيام؛ والقرية ذات الأبنية، أي حُكمُهما فيما يَحرم عليهما وما يُباح لهما في الاعتكاف سواء، سواءً كان قرويًا أو بدويًا، يعني من أهل المُدن والقرى أو من أهل الصَّحاري والخيام، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، ومُتابعة نبينا في جميعِ شُؤوننا الخاصة والعامة، وحمانا به من الندامة وموجبات النَّدامة في الدَّنيا والقيامة، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.
18 شَعبان 1442