(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، تتمة باب جامع الصيام.
فجر الإثنين 2 شعبان 1442هـ.
تتمة باب جَامِعِ الصِّيَامِ
866- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ لاَ يَكْرَهُونَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ، فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، لاَ فِي أَوَّلِهِ، وَلاَ فِي آخِرِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْهَى عَنْهُ.
867- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِى ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ.
868- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ، يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته وأنوارها، وبيانها على لسان عبده سيِّدنا مُحمَّد وإظهارها، اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه القائمين بحق هذه الشَّريعة وتبليغها ونشرها، وعلى مَن والاهم فيك وتبعهم بإحسان إلى يوم نشر الخليقة وحشرها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سُرُج المؤمنين ونورها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقربين وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
ويواصل سيَّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذِكر ما يتعلق بالصوم، وقال: "أَنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلْمِ لاَ يَكْرَهُونَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ، فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، لاَ فِي أَوَّلِهِ، وَلاَ فِي آخِرِهِ"، قال: "وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْهَى عَنْهُ". والكلام عن السِّواك للصائم الذي رأى الشَّافعية:
وتقدّم شيء من الإشارة إلى ذلك عند ذكر خلوف فم الصَّائم. وعامة الأئمة -كما أشار الإمام مالك- أنه لا يُكره الاستياك أول النَّهار أو آخره.
وفرَّق الإمام مالك إذًا بين السِّواك الرَّطب؛ الذي ينفصل منه ماء مُغيّر الطّعم عن غير الرّيق؛ فحينئذ كَرهَه خشية أن ينزل شيء مما اختلط بماء السِّواك إلى جوفه؛ فيبطُل صومه. وقام في هذه المسألة أقوال لأهل العلم:
وتستمر الكراهة عندهم إلى وقت الغُروب. ويُروى عن أبي حامد أنه حتى يُفطر. فهذه الأحكام المُتعلقة بالسواك بالنسبة للصائم.
يقول مالك: "فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ" وهي صيام السّت من شوال "إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا"؛ يعني: من أدركهم من الفُقهاء في المدينة المُنورة. قال: "وَلَمْ يَبْلُغْنِى ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ"؛ يعني: الذين أدركهم مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- "وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ"، وهو مذهب الإمام مالك "وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ"، باعتقاد وجوبه عند العامة "وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ"؛ يعني: في هذه السِّتة "رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ" يعني: صيام هذه الأيام. إذًا صيام ست من شوال؛
وفيه الحديث عند الإمام مُسلم وغيره: "مَنْ صَامَ رَمَضانَ ثُمَّ أَتَبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيَامِ الدَّهْرِ"، أو قال: كأنما صِامِ الدَّهْرِ، قال: ومعناه يُعطى ثواب صيام الدَّهر فرضًا، والفرض يزيد ثوابه على النَّفل بسبعين درجة. فمَن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال ولو فرّقها، فكأنما صام الدَّهر. فكثير من أهل العلم يستحبون صيام السِّتة من شوال بعد رمضان لما جاء في الحديث. وذكروا أيضًا بتوجيه الحديث أن الحسنة بعشر أمثالها، وأن صيام رمضان يعدل عشرة أشهر فبقي من السَّنة شهران، فصيام ستة؛ بصيام ستين يوم؛ كمُل الشّهران؛ فكملت السَّنة فكأنما صام الدَّهر أي السَّنة كُلها.
إذًا فلا خلاف في استحبابه عند الشَّافعية والحنابلة، بل يتأكد عندهم صوم ستة أيام من شوال، ويُسن تتابُعها. وكذلك سُنَّة عند الحنابلة أن يصوم ستة أيام من شوال لما جاء في الحديث.
وعَلِمْت مذهب الإمام مالك وقوله بالكراهة مخافة أَن يُلْحِقَ برمضان مَا ليس منه، وقالوا: لعلّه لم يبلغه الحديث. وقال بعضهم: الظّاهر أنه بلغه ولكن حمله على أحوال مخصوصة ولهذا جاء فيما يروى عنه التّفريق بين من يُقتدى به ومَن لا يقتدى به. وكما يقول من كتب المالكية الشيخ الدردير في الشرح الكبير، يقول: صوم ستة من شوال تُكره لمُقتدىً به؛ متصلة برمضان متتابعة. إذا أظهرها المُقتدى به معتقدًا سُنيّة اتصالها، فشرَط في الكراهة هذه الشروط:
○ أن يكون مُقتدى به.
○ وأن يُظهرها.
○ وأن يعتقد سُنَّة اتصالها.
○ وأن تكون متتابعة؛ متصلة برمضان.
فعند ذلك تكون الكراهة على ما ذكر في هذا الكتاب من الكتب المالكية.
ويروى كذلك عن الإمام أبي حنيفة: إتباع رمضان بست من شوال، وعليه أبو يوسف يقول: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صومًا خوفًا من أن يلحق ذلك بالفرضية. وبهذا أيضًا مقيّد عند الحنفية بالتراسُل والتّتابع وأن يكون مباشرة. ويروى إنما جاءت الكراهة في الإتْباع المباشر؛ بأن يصوم يوم الفِطر؛ يوم العيد فهذا أمر مُتفق على كراهته بل تحريمه عند عامة الأئمة. فحمل بعضهم قول مالك على الكراهة بالتتابع المُطلق بأن يصوم يوم الفِطر وخمسة أيام بعده. قال: فأما إذا أفطر يوم الفِطر فانتهت إشكاله أو اعتقاد العوام أن هذا من رمضان؛ فقد فُصل بفطر يوم الفِطر؛ يوم العيد.
ولهذا جاء في بعض كُتب المالكية فيما يُروى عن مالك، الإتْباع المكروه أن يصوم يوم الفِطر ويصوم بعده خمسة أيام، فهذا أوصلها برمضان. فأما قال: إذا أفطر يوم العيد ثم صام ستة أيام؛ فليس بمكروه بل مُستحب وسُنّة. وهكذا يقول الحنفية: نُدِبَ تفريق السّت من شوال ولا يُكره التّتابع على المُختار، وقيدوا الإتْباع المكروه أن يصوم الفِطر وخمس أيام بعده.
ونقل ابن عابدين نصوصًا أن المقررة في مذهبهم أو عن جماعة من علماء المذهب- مذهب أبي حنيفة- أنه لا يكره؛ فنقل عدم الكراهة ونقل نصوصًا عن جماعة من الحنفية. إذًا فعلِمنا المسألة ونظر أهل العلم فيها وما جاء في الحديث.
والنّص واضح كما سمِعت في كلامه ﷺ: "مَنْ صَامَ رَمَضانَ ثُمَّ أَتَبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيَامِ الدَّهْرِ"؛ أي السَّنة كلها. وبحث أهل العلم أن المُراد كأنه صام الدَّهر فرضًا، وثواب الفرض يزيد على ثواب النّفل بسبعين ضعفًا.
يقول: "سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ، يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ"؛ يعني: مُستحب "وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ"؛ يعني: يوم الجُمْعة "وَأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ"؛ أي: يقصده. إذًا وهنا أيضًا أقوال لأهل العلم في صوم يوم الجُمْعة:
وهكذا يتبين مذهب الإمام الشَّافعي أنه إن كان صادف يوم الجُمْعة يومًا فضيلًا كيوم عرفة أو يوم عاشوراء؛ فلا كراهة فيه للصائم. وإن لم يوافق ذلك فتخصيصه من دون أن يصوم يوم قبله أو يوم بعده؛ يُكره ويصح الصَّوم ولكنه يكره هذا التخصيص ليوم الجُمْعة. ووجهوا بعضهم إلى أنه يضعُف عن المهام المنوطة بيوم الجُمْعة من قراءة سور مخصوصة وكثرة صلاة على النَّبي ﷺ. إذًا فيكره عند الشَّافعية.
وإذًا فهناك القول أنه: إنما يُكره عند تحرّيه واختصاصه، فإذا صامَه مع يومًا غيره؛ فلا يُكره. ومن الغريب قول ابن حزم لظاهر الحديث: أن صومه حرام إلا لمَن صام يوم قبله أو يوم بعده.
إذًا، عَلِمنا ما قال عدد من أهل العلم: بكراهة إفراد يوم الجُمْعة بالصوم بأن يكون نفل مطلقًا؛ لأنه يوم عبادة، وتبكير وذِكر وغُسْل، فلتَستعين على ذلك ينبغي أن يفطر. وقالوا: فأما إذا صام يوم قبله أو يوم بعده فما حصل له من القصور في شيء من هذه الأعمال؛ يجبره الصَّوم قبله أو بعده. ثم كذلك الذي يصوم يومًا ويفطر يومًا من باب أولى. فإن هذا يكون أفطر يوم الخميس؛ فيَصوم يوم الجُمْعة، ويفطر يوم السّبت فلم يصم يوم قبله أو يوم بعده ولكن عادته أن يصوم يوم ويفطر يوم؛ فتَنتفي الكراهة كذلك. ويُروى في الحديث: "لا تخُصّ يوم الجُمْعة بصيام"، وعَلِمْت الإشارة إلى اجتهاد الأئمة في ذلك، والله أعلم.
رزقنا الله بُلوغ رمضان وقيامه وصيامه إيمانًا واحتسابًا، وأجزل لنا منه جودًا وفضلًا وأجرًا وثوابًا، وتولّانا بما هو أهله حاضرًا ومآبًا، ووقانا جميع الأسواء وفتح لنا بالخير أبوابًا، وجعلنا ممَن ترعاهم عين عنايته ويتولاهم بما هو أهله ظاهرًا وباطنًا في لطف وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
02 شَعبان 1442