(230)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، متابعة شرح أحاديث باب جامع الصيام.
فجر الأحد 1 شعبان 1442هـ.
متابعة باب جَامِعِ الصِّيَامِ
864 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، مِنْ أَجْلِي، فَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، إِلاَّ الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
865 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ.
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة وبيانها، وتوضيح أحكامها وشأنها على لسان عبد الله ورسوله، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم سيد أهل الحضرة وسلطانها، اللهم صلّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار في سبيلهم مبتغيًا وجهك في بواطن الأمور وإعلانها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين هم للحقيقة أوضح برهانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالصيام وفضله، ويذكر في هذا الحديث: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ" -رضي الله تبارك وتعالى عنه-، والحديث الذي ذكره الإمام مالك، هو الذي في الصحيحين أيضًا وغيرهما، يقول: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ" حلف فقال: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ"؛ يعني: إن شاء أبقاها، وإن شاء أفناها، قَسَمْ كان يُقسم به النبي ﷺ في كثير من أحيانه. "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ"؛ هو الله -جل جلاله وتعالى في علاه-. "لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ"؛ خلوف فم الصائم: هو تغير رائحة فمه بسبب الصيام، أي بسبب الكَفِّ عن الطعام؛ بسبب خلوّ المعدة عن الطعام.
"لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ"؛ وينبّه أن ذلك لأجل مزيّة الصوم، وعلة الصوم، لا أي خلوف في الفم، بل ينبغي أن يتعاهد الفم لأنه مجرى الذِّكر ويطيّبه بالسواك ونحوه، وإنما هذا الخلوف المنبعث بسبب خلوّ المعدة عن الطعام، فإذا كان خلوها عن الطعام لقصد وجه الله بالصيام؛ كان لوجود ذلك منزلة ينالها الإنسان في حيازته للفائدة والثواب، واعتبار أنه إن كانت هذه الرائحة المتغيرة تنفر منها الطباع البشرية، فإن فيها من الخير والمنافع ما هو أزكى وأحسن من رائحة المسك الزكي عند البشر.
"لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ"؛ أي: في اعتبار محبته ومنزلته ورضاه، "أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"؛ عندكم معشر البشر ومعشر الخلائق، لأن ما يتعلق بشؤون الروائح أمرٌ حادثٌ للمحدثات والكائنات والحيوانات، والحق تعالى مُنزَّه عن مثل ذلك، فمعناه أنه كما أن عندكم اختلاف في الروائح؛ ومنها ما هو طيب فيكون له منزلة ومحبة منكم، فكذلك هذا الأثر من الصوم؛ وإن كان تنفر منه طباعكم فإنه عند الله تعالى من الرضا والمحبة بمنزلة الرائحة الطيبة الحسنة، أو أحسن الروائح عندكم أنتم معشر البشر والمخلوقين، "لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ".
ومن منزلته عند الحق تعالى أن يكافئ من كان يخلف فمه من أجل الله تعالى بشدة رائحته الحسنة في البرزخ، والقيامة، وفي الجنة، فيُتضاعف له طيب رائحته كما أنه في الدنيا من أجل الله تعالى تعرّض لخلوف فمِه، فيزكو رائحة فمه، وطيب رائحة فمه في الآخرة، (جَزَاۤءࣰ وِفَاقًا) [النبأ:26]. وهكذا يندرج في ذلك المعنى، فينال صاحبه من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عند البشر، و يُعتَدُّ بما حصل له من هذا الخلوف، فيُدَّخَر له ليُـثاب عليه أكثر مما يُعتبر ويُعتدُّ في عالمنا، المسك، ويُحافظ عليه و يُحب و يُفرح به.
وقد نُدِبْنا أيضًا إلى استعمال الرائحة الطيبة ومنها المسك، خصوصًا في الجُمَع والأعياد ومجالس الذكر، ومجالس القرآن ومجالس الحديث، ومجامع الخير وما إلى ذلك..، ولكن وجود هذا الخلوف مع الصائم لا يَـقِلُّ في الدرجة والمكانة عند الله -تبارك وتعالى- في نيل ثواب من تَطيَّب بالمسك ونحوه للجمعة ولمجلس الذكر ومجلس القرآن وما إلى ذلك، فيكون هذا أيضًا بمَكسَبَةٍ من الثواب كما يكسب ذلك الذي تطيّب بالمسك، بل أطيب، أكثر مما يناله من الثواب مَن تطيّب بالمسك من أجل الجمعة ومن أجل الجماعة، ومن أجل الذكر ومن أجل القرآن وما إلى ذلك…
وهكذا؛ يقول: أن الخلوف رائحة لا توجد إلا مع التنفس، ورائحة المسك من دون تنفّس، وكل نَفَس الصائم أطيب عند الله، والرائحة الكريهة وجه الخيرية والحق فيها، هذا في علم الله -تبارك وتعالى- واعتباره، ولهذا قال: "عِنْدَ اللَّهِ"؛ يعني: أن هذه الخيرية والمَزيّة والطيب الذي في هذه الرائحة لا يُدرك عند البشر، ولا يُدرك عند الملائكة ولا عند الحيوانات، ولكنّ هذه المزيّة عند الله، "أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"، فحينئذٍ وجه الحق فيها لا يدركه إلا الله -سبحانه وتعالى- "أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".
وجاء في حديث بسند ضعيف يقول: عن سيدنا أنس بن مالك عن النبي ﷺ يقول: "يخرجُ الصائمون من قبورهم يُعرفون بريح أفواههم، ريحُ أفواههم أطيبُ من ريح المسك"؛ فيجازَون على ما كان منهم من تحمل الجوع من أجل الله بخصوصية الرائحة الطيبة مقابل ما كان خلفت أفواههم من أجل الصيام. و قال بعضهم: فيه إرشاد إلى حسن مقابلة الصائمين وأنه ينبغي أن لا يَتَقذَّر من مكالمة الصائمين ومخاطبتهم بسبب الخلوف، وأنه أعظم في المنزلة والمزيّة من دم الشهيد؛ لأن دم الشهيد يوم القيامة ريحه ريح المسك، وهذا قال: "أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"؛ لأنه من كُلِم كلمًا في سبيل الله يأتي يوم القيامة وجرحه الذي جرح فيه من أجل الله قائم فيه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، لكن خلوف فم الصائم قال: "أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"، لا إله إلا الله!
"إِنَّمَا يَذَرُ"؛ هذه حيثية، أي: يترك ويدع. "إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ"؛ من كل المفطرات للصوم. "إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"؛ شهوته؛ من وقاع أهله و ما يبطل صومه، وطعامه وشرابه، وفيه عطف الخاص على العام، وجاء في رواية: "يدع امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي"؛ يترك شهوته من الطعام والشراب والجماع من أجلي. وهكذا يقول: "يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، مِنْ أَجْلِي"؛ أي: امتثال لأمري وطلب رضاي.
"فَالصِّيَامُ لِي"؛ إذًا، أي: اختصّه بمزيّة عندي أُميّزه بها عن بقية العبادات، هذا معنى: "فَالصِّيَامُ لِي"، قال الإمام الغزالي: وإنما ذلك لأنه عائد إلى الكفّ والإمساك، وهذا أمر معنوي ما يُطَّلع عليه بالنسبة للخلق، فلذلك كان إضافته إضافة تشديد لنفسه، قال: إنه لي؛ أي له مكانة ومنزلة عندي.
فبذلك كان مخصوصًا برتبة شريفة عند الله -تبارك وتعالى-.
"فَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ بعضهم يقول أيضًا: أن الذين يعبدون غير الله -تبارك وتعالى- قد يتقرّبون إلى معبوداتهم الباطلة بمظاهر العبادات الأخرى: كمثل الركوع والسجود كمثل الصلاة، وكمثل إنفاق الأموال كمثل الزكاة، وكمثل الإتيان من المحلات البعيدة كمثل الحج، لكن لا أحد من أجل الصنم يتقرّب بالصوم مثلًا أو شيء مثل ذلك! ما يصومون لآلهتهم الثانية هذه، لكن المؤمنين بالله يصومون من أجل الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، فكان أيضًا معنى من جملة معاني الصيام "فَالصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
الله اكبر! وماذا يكون جزاء الكريم؟ وماذا يكون جزاء الكبير؟ وماذا يكون جزاء العظيم؟ وماذا يكون جزاء السخي؟ وماذا يكون جزاء الجواد؟ "أَنَا أَجْزِي بِهِ"، الله اكبر! فإذا قال ملك كريم سخي جواد لوكيله، أو وكلائه: أعطوا العمال أجورهم إلا فلان أنا أعطيه، خلّوه يجيء عندي، أنا أعطيه أجرته، كيف يفرح؟ ستكون له عطية ليست على قدر أجرة الناس هؤلاء، عطية على قدر كرم الملك. والرحمن قال: "أَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ أنا أتولّى جزاء الصيام.
ومن دقيق ما ذكر العارفون بمعنى قوله: "فإنه لي وأنا أجزي به"؛ أن الله يدّخر ثواب الصوم المقبول -أي الصوم المقبول عنده- فيدّخره عنده إدخارًا خاصًا لهذا العبد، فإذا جاء وعليه مظالم يوم القيامة أُخِذ من حسناته إلا الصوم، فلا يؤخذ منه شيء؛ لأنه مُدّخر عند الله له، فلو نقصت عليه الحسنات من هنا وبقي الصوم، نظر الله إليه فتحمَّل التبعة عنه و رحمه بالصوم. فهذا المَلْمَح الذي ذكره بعض العارفين من أعظم الفوائد للصائم إذا قُبل صومه عند الله -تبارك وتعالى-، ليتحمّل الله عنه التبعات، وإذا قالت الملائكة: يا رب، أخذنا مقابل ما عليه من مظالم فنقص، فما بقي غير صومه، فيقول: لا، لا تأخذوا من صومه الذي قبلته شيء، فيقول: بقيت عليه مطالبات، قال: فيعطيها من عنده -جلّ جلاله-، ويحفظ له صومه ويرحمه به.
قال: "وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ أي أجازي عليه صاحبه، أتولّى بنفسي إعطائه جزائه، الله أكبر! فكل جزاء يتولى إعطائه الحبيب بيده وبذاته الشريفة، يعظُمُ مَسرَّة وفخرًا وشرفًا للمُعطى، وكلًا يعطي بقدره، فإن العطايا على مقدار مُهديها، الهدايا على مقدار مُهديها، وهذا ربّ العالمين -جل جلاله- لا إله إلا الله...
ولذا جاء في بعض الأخبار: أن الله ينصب للصائمين، والناس في موقف القيامة في عطشها وشدتها، موائد في ظل عرشه، يقول: (كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ هَنِیۤـَٔۢا بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ) [الحاقة:24]، أنتم امتنعتم عن الطعام والناس يطعمون، وعن الشراب والناس يشربون في أيام في الدنيا، فاليوم الناس لا يشربون ولا يطعمون وأنتم اطعموا واشربوا، (كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ هَنِیۤـَٔۢا بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ)؛ الماضية، التي مضت عليكم في الدنيا والناس من حولكم يأكلون ويشربون، وأنتم تمتنعون من أجل الله عن الطعام والشراب، والآن هم لا يأكلون ولا يشربون وأنتم كلوا واشربوا، هم تحت الشمس في العطش الشديد والجوع الشديد، وأنتم (كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ هَنِیۤـَٔۢا بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ)، لا إله إلا الله.
وأخذ بعضهم من قوله: "وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ يعني: ليس له جزاء محدّد من هذه المثوبات والحسنات والدرجات والنعيم، ولكن؛ "أَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ أي: أَهِبه رضاي، "أَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ أعطيه رضاي، والرضا أعظم ما يُعطى، أكبر من الجنة وما فيها.
"وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا"؛ كما قال تعالى: (مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ) [الأنعام:160]، هذا أدناه، ويضاعف، "إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ"؛ إلى أكثر من ذلك.
"إِلاَّ الصِّيَامَ"؛ يعني: أنه لا تحديد لثوابه، كما قال في الحديث: "الصوم نصف الصبر"، وقال في الآية: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]. وكذلك في قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) [البقرة:261]؛ يعني: فوق السبع مئة لمن يشاء، قد يضاعف العمل إلى سبع مئة لكن: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) فوق ذلك.
"فَهُوَ لِي"؛ قال: يعني الصوم، "وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ أكّد ذلك، مع أن الأعمال كلها لله تعالى كما أشرنا، فمنهم من أشار إلى أن الصيام لا يقع فيه رياء كغيره من الأعمال؛ لأنه أمر كَف وإمساك وهو معنوي، قالوا في معنى قولهم: لا يدخله الرياء؛ يعني في عمل الصوم، الذي يدخله الرياء بالقول؛ نعم، بالقول قد يرائي ويقول أنا صائم، وأنا صمت، وكذا وكذا، يدخله الرياء بالقول، لكن بعمل الصوم نفسه ما يعرف يرائي به.
و كذلك من معاني "وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"؛ أن المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته وغيرها من الأعمال يظهرها للملائكة، هذا يقول: كذا، وهذا يقول: كذا، إلا الصوم فخبأ عنده مضاعفاته، لا يطَّلع عليها الملائكة ولا مَن سواهم.
وكذلك يشير إلى أنه من أحب الأعمال إليه -جلّ جلاله وتعالى في علاه- كما قال ﷺ لأبي أُمامة: "عليكَ بالصومِ فإنه لا مِثلَ له، عليكَ بالصومِ فإنه لا عِدلَ له"؛ فكان لا يُرى الدخان نهارًا في بيت أبي أمامة إلا إن نزل بهم ضيف.
وكذلك المَلْمَحْ من التشريف والتبجيل والتعظيم بالإضافة، كما يُقال: بيت الله، والبيوت كلها حق الله، والأرض كلها أرض الله، ويقول: هذا بيت الله، إضافة تشريف وتمكين، وكذلك يشير إلى تميُّز الصوم في منزلته عند الله -تبارك وتعالى-.
وفيه مشابهة الملائكة؛ أنهم لا يأكلون ولا يشربون، فهو معنى من إفاضة نور الصمدانية للعبد بامتناعه عن هذا، وأنه لم يدخل إلى جوفه شيء، وأنه لا حَظَّ فيه للنفس ومشتهياتها بل تُخالف فيه النفس، وقالوا: حتى إنّ الذين يستعملون من هؤلاء، الذين يستخدمون الجن ونحوهم والنجوم ويصومون، لا يصومون لذاته، يصومون ليتخلّوا هم عن بعض كدوراتهم ويستطيعون الاتصال بهؤلاء، ولكن الصوم يُصرف إلى الحق -جل جلاله-.
وهكذا؛ يَخفى أحيانًا كتابته على الملائكة والحفظة -كما يقول بعضهم- فليست له الصورة الواضحة كما هي للأعمال الأخرى، وفي الحديث القدسي يقول: "الإخلاصُ سرٌّ من سرِّي استودعتُهُ قلبَ من أحبُّ" لا يطَّلعُ عليْهِ ملَكٌ فيَكتبَه ولا شيطانٌ فيفسدُه، صلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم يذكر لنا حديث: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ"، اللهم بلغنا رمضان واجعلنا من خواص أهله عندك، والحديث هذا الذي ذكره الإمام مالك هو في صحيح الإمام مسلم.
يقول: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ"، فتبقى في ذاتها في مكانها مُفتَّحةً تعظيمًا لهذا الشهر ولحرمته. "فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ"، ويتيسر أيضًا الوصول إلى الجنة بمضاعفة الثواب، وتيسير الخيرات في رمضان، فهي مُفتّحة في حد ذاتها في الجنة، وهي مُفتَّحة الأبواب بكثرة الرحمة والمغفرة والعتق، وتيسير العمل الصالح للناس في رمضان، فيُيَسَّر لهم المغفرة والعتق، فهي مُفتَّحة لهم أيضًا أبواب الجنة باكتسابهم، كما أنّ ذواتها مُفتَّحة في الجنة لأجل الاحتفال بالشهر الكريم والتعظيم والتفخيم له.
"فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ"؛ والمعنى أنه في أكثر أوقاتها -أي في غير رمضان- تكون مُغلَّقة ،وتُفتَّح عند دخوله، ولكن قد يكون معنى الفتح عند دخولها؛ أن لا يُؤذن بالدخول حتى يدخل محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فيكون أول من يستفتح باب الجنة.
"وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ"، لا إله إلا الله، وفيه أن النار والجنة مخلوقتان موجودتان من الآن. "وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ"؛ يعني شُدَّت بالأصفاد؛ وهي الأغلال التي يُغَلُّ بها اليدان والرجلان تُربط في العنق، أصفاد. "وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ"، وفي رواية عند البخاري: "وسُلْسِلَتْ الشياطين"؛ المراد صنفٌ منهم وهم المَرَدة، يُسلسلون بالسلاسل ويُصفَّدون في رمضان، لئلا يُفسدوا على الناس صيامهم، وهؤلاء هم ذرية إبليس، كما قال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّیَّتَهُۥۤ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِی وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ) [الكهف:50].
كفانا الله شر إبليس وجنده، وجعلنا من عباد الرحمن الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وأصلح لنا السِرَّ والإعلان، ورفعنا إلى أعلى مكان، بِسرِّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
01 شَعبان 1442