(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، باب قضاءُ التَّطوع.
فجر الأحد 23 رجب 1442هـ.
باب قَضَاءِ التَّطَوُّعِ
851 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ ﷺ أَصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِىَ لَهُمَا طَعَامٌ، فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَبَدَرَتْنِى بِالْكَلاَمِ، وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إِلَيْنَا طَعَامٌ، فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْماً آخَرَ".
852 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَلْيُتِمَّ يَوْمَهُ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ أَوْ شَرِبَ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَلاَ يُفْطِرْهُ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ أَمْرٌ يَقْطَعُ صِيَامَهُ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ قَضَاءٌ، إِذَا كَانَ إِنَّمَا أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِلْفِطْرِ، وَلاَ أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلاَةِ نَافِلَةٍ، إِذَا هُوَ قَطَعَهَا مِنْ حَدَثٍ لاَ يَسْتَطِيعُ حَبْسَهُ، مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ.
853 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِى يَتَطَوَّعُ بِهَا النَّاسُ، فَيَقْطَعَهُ حَتَّى يُتِمَّهُ عَلَى سُنَّتِهِ، إِذَا كَبَّرَ لَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا صَامَ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ، وَإِذَا أَهَلَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ، وَإِذَا دَخَلَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى يُتِمَّ سُبُوعَهُ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ هَذَا إِذَا دَخَلَ فِيهِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، إِلاَّ مِنْ أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ، مِمَّا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنَ الأَسْقَامِ وَالأُمُورِ الَّتِى يُعْذَرُونَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ) [البقرة:187] فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصِّيَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ) [البقرة:196] فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَهَلَّ بِالْحَجِّ تَطَوُّعاً، وَقَدْ قَضَى الْفَرِيضَةَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْحَجَّ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ، وَيَرْجِعَ حَلاَلاً مِنَ الطَّرِيقِ، وَكُلُّ أَحَدٍ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِذَا دَخَلَ فِيهَا، كَمَا يُتِمُّ الْفَرِيضَةَ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
الحَمدُ للهِ مُكرِمنا بشريعتهِ، وبيان أحكامها على لسانِ خير بريتهِ صَلَّى اللهُ وسَلم وبارَك وكَرَّم عليهِ وعلى آلهِ وصحابَتِه، وعلى أهل ولاءِه، ومحبته، ومتابعته، وعلى آبائه، وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، خيرة الحقِّ سبحانه وتعالى من بريتهِ، وعلى آلهم، وصحبِهم، وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عبادُ اللهِ الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم، أنَّه أكرم الأكرَمين وأرحمُ الرَّاحمين.
وبعدُ،
فَيواصل سَيِدنا الإمام مالك عليهِ رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالى في المُوطَأ ذِكرُ الأحاديث المُتعلقة بالصَّوم، وفي هذا الباب يقول "باب قَضَاءِ التَّطَوُّعِ"، ومَن صامَ ما لَم يَلزمه الصِّيام من رمضان، أو كفارةٍ، أو نَذر، فما عاد ذلك فالصَّوم يكون مُتطَوّع بهِ، ونَفل يُتقرَب بهِ الى الحقِّ تعالى في عبادةٍ من أفضل العبادات، فمن كان صام تطوّعًا غيرَ فرضٍ ليس في رمضان، ولم يَكُن نذرًا ولا كفارة، وكذلك القضاء للواجبِ، وفيه خلاف، فهل يجوز لهُ أن يقطع صوم التَّطوع؟ وهل إذا قطعهُ بعذرٍ أو بغير عذرٍ يلزمه قضاء يوم مكانهُ أم لا؟ هذهِ المسألة فيما ورَدَ فيها عن النَّبي ﷺ محل نظر العلماء واجتهاد المجتهدين.
فتَبيَّن اختلاف الائمة في المسألة؛ فقول الإمام الشَّافعي والإمام أحمد ابن حنبل -عليهما رضوان الله- أنَّه يجوز للمُتطوع أن يقطع الصَّوم وإن قطعه بعذرٍ أو بغيرِ عذر استُحبّ له أن يصوم يومًا مكان هذا اليوم.
وهكذا لما جاء عن السَّيدة عائشة -رضي اللهُ عنها- دخل عليّ رسول الله ﷺ فقلت له: إنّا خَبئنا لكَ حيسًا، فقالَ أما اني كنت اريد الصَّوم ولكن قَرِّبيه" وفي رواية: "أرينيه" فأكل. وجاءَ عن أمُ هانئ عليها رُضوان اللهِ، أنَّهُ قالت: دخلَ علي النَّبي ﷺ وأنا صائمة فناولني فضلة شراب، كان أوتي بإناءِ من لبنٍ، فَشرب مِنه وناولني فضله، قالت: فَشرِبتُ، قلت: يا رسول الله إنّي كنتُ صائمة، وإني كرهت أن أردّ سؤرك، فقال: إن كانَ من قضاءِ رمضان فصومي يومًا مكانه، وإن كان تطوعًا فإن شئتِ فاقضيهِ، وإن شئتِ فلا تقضيهِ.
وجعلَ الشَّافعية من الأعذارِ أن يدعوه داع لطعام ثم يَشقّ على الداعِ أن لا يأكل عنده، فقالَ حينَ إذا الشَّافعية بأنَّ الإفطار افضل، ويُسَنّ له أن يَقضي يومًا مكان هذا اليَوم، فلا يكون مكروهًا أصلًا بل يكون أفضل في مثل هذا الحال.
وإذا كان الصَّوم قضاء؛ يقضي بهِ عن رمضان، فهل يجوز أن يفطر؟
فالمُعتمد عند الشَّافعية أنَّه لا يجوز له أن يَفطر؛ لانَّهُ في قضاء فرض فكأنَّه فرض. وفي قولٍ عندهم:
إذًا، ففي صوم القضاء المُعتمد أنَّه ما دام قضاء فرض فَيجب أن يَستمر فيهِ؛ سواءً كانَ القضاء فورًا أو موسّعًا.
وفي قولٍ عند الشَّافعية: إن كانَ القضاء فور؛ يعني: بأن أفطر بغيرِ عذر في رمضان وجبَ عليهِ أن يُبادر بالقضاءِ، ولا يجوز له أن يفطر أيام القضاء، أو كان لم يبقَ من رمضان الثّاني إلا مقدار الأيام الّتي عليهِ فيجب عليهِ أن يصوم، ولا يجوز له أن يفطر في هذا القضاء. وإن كانَ القضاء موسعًا فيجوز أن يفطر في القول الثّاني ثم يقضي في يوم آخر.
واتَّفقوا في النّاسي أنَّه لا قضاءَ عليهِ، إذا أفطر ناسِيًا؛ فقالَ المالكية لا قضاء عليه وقال الحنفية كذلك لا قضاء عليه إذا أفطر ناسِيًا. إذًا، فعندهم حرمة قَطع صوم التطوع إلا لعذر.
ثُمَّ يقول الحنفية والمالكية أنَّ مِن الأعذار إذا كانَ أحد النَّاس قَدَّمَ الطّعام لهذا الصَّائم، وحَلف عليهِ بِطلاق امرأته أن يأكل، قالوا وهذا يَعزّ عليه ويتأذى بفراق امرأته إذا لم يأكل هذا فتطلق إمرأة الثَّاني مسكينة، قالوا فيُستَحب له حينئذٍ أن يُفطر.
فهذا من الأعذار الّتي ذكرها الحنفية والمالكية.
وفَهمت أنَّ من الأعذار التي ذكرها عند الشَّافعية أنَّه بمجرد الدّاعي أن يأكل بدون أن يلحف بطلاقٍ أو غيره، وفي ذلك يقول صاحبُ الزُّبد:
وإن أرادَ من دعاهُ يأكلُ *** فَفطره من صومِ نفلٍ أفضلُ
كذلك قال الحنفية من الأعذار الضِّيافة لِضيف والمُضَيَّف إذا كانَ صاحِبها مِمَّن لا يرضى بِمجرد الحضور، وإلا فقد استَدلّوا بحديث: "إذا دُعيَ أحدكم، فليُجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا، فليُصلّي"؛ يعني: يدعو للّذين جاءوا.
وهكذا قالوا في إجابة الدعوة إذا دعا المُسلم أخاه، أنَّه يجب عليهِ الحضور؛ ولكن الأكل غير واجب؛ لكنَّه يلزمه الحضور الى بيتهِ في الوقتِ الذي دعاه فيه. فإذا حضر الى بيتهِ أدّى حقَّ إجابته. ثم إذا كانَ يَشُقُّ عليه أن لا يأكل عِنده، فهو عذرٌ يُحوِّل الفطر الى مُستحبٍ عند الشَّافعية والحنابلة.
وكذلك قالَ الحنفية هذا عذرٌ؛ ولَكن عليهِ القضاء فيجوز أن يفطر شريطةَ أن يثق بنفسهِ بالقضاء. فإذا كان يثق بنفسهِ أنه يقضي فيجبر خاطر الذي دعاه بالأكل معه أو من طعامه وهو واثق أنه سيقضي فيقضي يومًا بدل هذا اليوم. هكذا قال الحنفية.
وأيضًا زادَ المالكية في الحلفِ بالطّلاقِ يشترط أن يتعلق قلب الحالف بِمن حلف بالطّلاق. فأيضًا قالوا من الأعذارِ أن يأمره أحد أبويه بالفطر، فإذا كان صائِمًا تطوعًا فأمره أبوه أن يفطر أو أمه أن يفطر ذلك اليوم فهذا عذرٌ من أعذار الإفطار.
قالَ الحنفية إذا كانَ أمر الوالدين قبلَ العصر؛ أمَّا بعدَ العصر آخر النَّهار تأمره أن يفطر، فإنَّ الوقت قريب للفطر فلا يَلزمه حينَئِذٍ أن يفطر ولا يكون عذر له أمر أبويه لأنّه لم يبقَ إلا القليل فحينئذٍ قُرُب وقت الإفطار يَرفع ضَرر الانتظار؛ إذا أرادوا أن يقوم لهم بعمل أو شيء باقي ساعة ونصف أو ساعة ويأذن المغرب ويقوم بالّذي تريدون، فقُرب وقت الإفطار يرفع ضَرَر الانتظار. ولهٰذا قال الحنفية ثم إذا أمره أبَواه، أو أحدهما أن يفطر قبل العصر، أمّا بعد العصر خلاص ما بقي وقت للفطر.. قَرُب الوقت فَيفطر.
ثُمَّ يُذكرُ عن الفضيل بِن عياض أو أحد الأكابر أنّّه كان صائِمًا، و كان آخر العَشية، وسَمع ساقي ماء يقول غَفَر اللهُ لِمَن يَشرب من هذا الماء، فأخذَ الكأس وشرب؛ فقالوا لهُ تبطل صَومك وأنتَ آخر النّهار؟! قال: إنَّ دعوة هذا بالمغفرة أرجى عندي مِن عملي، فَيجوز أن أدخل في دعوةِ هٰذا.. وهٰذا شأن أرباب القُلوب في معاملتِهم معَ علّام الغيوب جَلّّ جَلالَه، لا يَعتدون بأنفُسهم، ولا بأعمالهِم، ويُحسنون الظن بعباد الله تباركَ وتعالى.
وهكذا وجعل الشافعية أيضًا مِن الأعذار إذا كانَ هو المُضَيّف كما ذَكرَ الحنفية هذا أيضًا، هو المُضَيّف ولكن ما يَستريح الضّيف ولا يأنس إلا بأن يأكل معه، فإذا قَدَّم إليه الطّعام يقول أنا صائم يَنكسر خاطر الضَّيف ولا ينشط في الأكل. فقالوا حينَئِذٍ كما اذا دعاه الدَّاعي، وأرادَ أن يأكل عنده كما إذا كانَ ضيفًا، وكذلك إذا كانَ مُضَيِّفًا ويَستَوحش الضَّيف مِن أن يأكل، وصاحب البَيت صائم فينبغي أن يُوافقه ويفطر معه، ثُمَّ لا شيء عليهِ عند الشَّافعية. وقالَ الحنفية عليه أن يقضي يوم بدل هذا اليوم، وهذا مذهب مالك فيمَن أفطر بغيرِ عذرٍ وأورد فيهِ هذا الحديث.
فإذًا، يقولون إذا أفسد صوم التَّطوع فَيجب عليهِ القضاء عندهم، وأورد لنا هذا الحديث: عن سيدتنا عائشة وحفصة كانتا صائمتين، قالت فعَرَض لنا طعام، ولهم مدة من الطعام وهما جائعتان، قالت فاشتهيناه فأكلنا منه، فجاء النبي ﷺ، قالت: "فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَبَدَرَتْنِى بِالْكَلاَمِ، وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا"؛ يعني: جريئة ومبادرة إلى الكلام "وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا"، ولكن مع كونها ابنة أبيها، كانت تراقب عائشة كثير وتتبعها كما هو في سيرتها، ولكن في هذا السؤال بدرت سيدتنا حفصة فسألت قالت: يارسول الله إنا كنا صائمتين فعرَض لنا طعام أهدي إلينا و اشتهيناه فأكلنا منه "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْماً آخَرَ".
إذًا:
و "الصَّائم المُتطوّع أمير نفسه"، في الحديث يقول عليه الصَّلاة والسَّلام في الصَّائم المُتطوع أنه أمير نفسِه، وعَلمنا بهذا الحكم.
وقد أورد الحديث -عليهِ رضوان اللهُ تباركَ وتعالى-: " أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَأُهْدِىَ لَهُمَا طَعَامٌ، فَأَفْطَرَتَا عَلَيْه " وهي شاة قدمت لهم فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَبَدَرَتْنِى بِالْكَلاَمِ، وَكَانَتْ بِنْتَ أَبِيهَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصْبَحْتُ أَنَا وَعَائِشَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إِلَيْنَا طَعَامٌ، فَأَفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْماً آخَرَ". وهٰذا يدل على أنَّهما كانا في يومٍ ليست نوبة أحدهما عند رسول الله ﷺ؛ وإلا ما يجوز لَها أن تصوم إلا بإذنهِ؛ ولكن كانَ في الأيام التي ليست نوبة أحد مِنهما فيهِ، وكانت استأذنته، وأمّا دخوله عليهم فمن المعلوم في هديه أنَّه يدور في أثناءَ النَّهارِ على بيوتِه، ويسأل حالهم، وأمّا المبيت فلا يبيت إلا عند صاحبة النَّوبة ﷺ. وأمّا دورانه فمعلوم أنّهُ كانَ يدور عليهم، و يَنظر أحوالهم، ويتحدث لهم، ويُحمِّلَهم ما تَهيَّئوا له من فقه الشَّريعة وأمرها وتعاليمها وما الى ذلك. يقولون: فكانَ يدور علينا ﷺ غالبًا في العصرِ، أو في ساعةٍ أُخرى.
"اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْماً آخَرَ"، وكذلك استَدل الإمام مالك بقولهِ تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ)[ البقرة:187]. قالَ فهذا أمرٌ بالإتمامِ فيجب على مَن دخل في الصّومِ أن يَتمَّه إلى الليل.
وحديث الإمام مسلم والإمام أحمد والترمذي: "إذا دُعيَ أحدكم، فليُجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا، فلُيصلّي". معنى أن يُصلي: يدعو لهم، يدعو لأهل الدعوة الذي دعوه.
وقالَت عائشة رضِيَ اللهُ عنها: "دخلَ رسول الله ﷺ قُلنا قد خبَّئنا لكَ حَيسًا" التّمر مع السّمن وقد يكون فيهِ أقِط أو بُر ويُسمونَه عندنا عصيد، "إنّا قد خبئنا لكَ حَيسًا، قال: أما إنّي كنتُ أريد الصّوم ولكن قَرِّبيه سأصوم يومًا مكان ذلك". في هذهِ الرِّواية أيضًا عَمله ﷺ بالمُستحبِ وهو أنه إذا أفطرَ من صوم تطوع يصوم يومًا آخر.
و جاءَ في رِواية ابن حزمٍ عن سيف بِن سليمان المكي قال: خرَج عُمر بن الخطاب يوم على الصّحابة، فقال: إنّي أصْبحتُ صائِمًا فَمرَتْ بي جارية؛ يعني: من جواريه، فوقعت عليها، فما ترون؟ أنّي أتيت الجارية، فقال: لم يألوا ما شكوا عليّ: قال عليّ -رضي الله عنه-: أصبتَ حلالًا، وتَقضي يومًا مكانه، فقال له عمر: أنت أحسنهم فتيا. وهكذا جاءَ عن أنس بن سيرين قال: صامَ يوم عرفة فَعطش عطشًا شديدًا فأفطر فسأل عدة مِن أصحاب النَّبي، فأمروه أن يقضي يومًا مكانه.
"قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ سَاهِياً أَوْ نَاسِياً فِي صِيَامِ تَطَوُّعٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَلْيُتِمَّ يَوْمَهُ الَّذِي أَكَلَ فِيهِ أَوْ شَرِبَ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَلاَ يُفْطِرْهُ" مع أنه عنده من أكل أو شرب ناسيًا بطل صومه، ولكن إذا كان في صوم التّطوع قال: يُتم صومه سيدنا مالك، "وَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ أَمْرٌ يَقْطَعُ صِيَامَهُ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ قَضَاء" فلا قضاء عنده، إلا على مُتعمَّد الفطر الحرام، وعند الحنفية سواء كانَ بعذرٍ أو بغيرِ عذر، ما دام شَرع في صوم التَّطوع فعليهِ قضاءَه. قال: "إِذَا كَانَ إِنَّمَا أَفْطَرَ مِنْ عُذْرٍ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِلْفِطْرِ، وَلاَ أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءَ صَلاَةِ نَافِلَةٍ، إِذَا هُوَ قَطَعَهَا مِنْ حَدَثٍ لاَ يَسْتَطِيعُ حَبْسَهُ، مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِى يَتَطَوَّعُ بِهَا النَّاسُ، فَيَقْطَعَهُ حَتَّى يُتِمَّهُ عَلَى سُنَّتِهِ".
قالَ الشَّافعية: إنَّ الحج والعُمرة مُستثنيان من بقية التطوع بالأعمال الصالحة، يقول تعالى: (وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ) [البقرة:196]، فالإتمام للحَج والعُمرة منصوص عليهِ، فَمن دخل فيهما وجب عليهِ إتمامَهما؛ ولِهٰذا مَن فَسد حِجَّه وجبَ عليهِ أن يمضي في فاسده ويكمله، فبهذا قالوا أن هذا مُستثنى أمر الحج والعمرة، فَمن دخلَ فيها ولو تَطوع لا يجوز لهُ أن يخرج منهما ويجب أن يَتِمّهما. قال: "إِذَا كَبَّرَ لَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا صَامَ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ، وَإِذَا أَهَلَّ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ، وَإِذَا دَخَلَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَقْطَعْهُ حَتَّى يُتِمَّ سُبُوعَهُ،" سبعة أشواط ، "وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ شَيْئاً مِنْ هَذَا إِذَا دَخَلَ فِيهِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، إِلاَّ مِنْ أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ"، عذرًا "مِمَّا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنَ الأَسْقَامِ وَالأُمُورِ الَّتِى يُعْذَرُونَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ) [ لبقرة:187] فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصِّيَامِ" هذا استدلال الإمام مالك " دكَمَا قَالَ اللَّهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ) [البقرة:196]" فجعل هذا مثل هذا "فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَهَلَّ بِالْحَجِّ تَطَوُّعاً، وَقَدْ قَضَى الْفَرِيضَةَ"؛ يعني: قد أدّى الفريضة الحج، "لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْحَجَّ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ، وَيَرْجِعَ حَلاَلاً مِنَ الطَّرِيقِ"، ليسَ له ذلك.
وأبو يوسف من الحنفية يوافق في هذا الحكم الشَّافعية والحنابلة، فالمُعتمد عند الحنفية كالمالكية، و قال أبو يوسف بقولِ الشَّافعية أنَّ المُتطوع يجوز له أن يقطع تَطوعه، ويُكره له ذلك إلا لعذر.
قال: "لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْحَجَّ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ، وَيَرْجِعَ حَلاَلاً مِنَ الطَّرِيقِ" أبدًا "وَكُلُّ أَحَدٍ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ، فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِذَا دَخَلَ فِيهَا، كَمَا يُتِمُّ الْفَرِيضَةَ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ"، أخذه بالأمرِ بالإتمام بالحج والعمرة، وأتمّوا الصِّيام الى الليل، ثُمَّ بالقياسِ باقي التّطوعات، هذا رأي الإمام وقال: "وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ".
ثم يتكلم على الفطرِ من أجلِ عِلَّة، وهل عليهِ في ذلك كَفَّارةٌ أو لا؟ و قد قالَ تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ) [ البقرة:184].
رزقنا الله الاستقامة، والاتباع لزين الوجود، شفيع القيامة، وأكرمنا به بأعلى الكرامة في الدُّنيا والبرزخ والقيامة ودار المَقامة، وكَشفَ عنّا وعن أمّتهِ الشَّدائد والبلايا والآفات والأهوال، وأصلح لنا ولهم جميع الأحوال، في خيرٍ ولطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة والى حضرة النبي ﷺ.
24 رَجب 1442