(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، باب صيامُ الذي يَقتل خطأ أو يتظاهر، وباب ما يفعل المريض في صيامه، وباب النذر في الصيام والصيام عن الميت.
فجر الأربعاء 19 رجب 1442هـ.
باب صِيَامِ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً أَوْ يَتَظَاهَرُ
832- حَدَّثَنِي يَحْيَى، وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فِي قَتْلِ خَطَإ، أَوْ تَظَاهُرٍ، فَعَرَضَ لَهُ مَرَضٌ يَغْلِبُهُ وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ صِيَامَهُ: أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَقَوِيَ عَلَى الصِّيَامِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ صِيَامِهِ.
833- وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِى يَجِبُ عَلَيْهَا الصِّيَامُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، إِذَا حَاضَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ صِيَامِهَا، أَنَّهَا إِذَا طَهُرَتْ لاَ تُؤَخِّرُ الصِّيَامَ وَهِيَ، تَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَامَتْ.
834- وَلَيْسَ لأَحَدٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَنْ يُفْطِرَ إِلاَّ مِنْ عِلَّةٍ: مَرَضٍ أَوْ حَيْضَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.
باب مَا يَفْعَلُ الْمَرِيضُ فِي صِيَامِهِ
835- قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَرَضُ، الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ، وَيُتْعِبُهُ وَيَبْلُغُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ، وَبَلَغَ مِنْهُ، وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِعُذْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لاَ تَبْلُغُ صِفَتُهُ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ صَلَّى وَهُوَ جَالِسٌ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ.
وَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصِّيَامِ مِنَ الْمَرِيضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184] فَأَرْخَصَ اللَّهُ لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ مِنَ الْمَرِيضِ، فَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ، وَهُوَ الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ.
باب النَّذْرِ فِي الصِّيَامِ وَالصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ
836- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ، هَلْ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ؟ فَقَالَ: سَعِيدٌ لِيَبْدَأْ بِالنَّذْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ.
837- قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِثْلُ ذَلِكَ.
838- قَالَ مَالِكٌ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ، مِنْ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ بَدَنَةٍ، فَأَوْصَى بِأَنْ يُوَفَّى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبَدَنَةَ فِي ثُلُثِهِ، وَهُوَ يُبَدَّى عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَصَايَا، إِلاَّ مَا كَانَ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النُّذُورِ وَغَيْرِهَا، كَهَيْئَةِ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ خَاصَّةً دُونَ رَأْسِ مَالِهِ، لأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، لأَخَّرَ الْمُتَوَفَّى مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَصَارَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ، سَمَّى مِثْلَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ، الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَتَقَاضَاهَا مِنْهُ مُتَقَاضٍ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزاً لَهُ، أَخَّرَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ سَمَّاهَا، وَعَسَى أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ.
839- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسْأَلُ: هَلْ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ أَوْ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ.
الحمد لله مُكرمِنا بشريعته المُنيرة، وبيانها على لسان عبده المُصطفى مُحمَّد سيِّد أهل الحظيرة، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه أهل القلوب المُنيرة، وعلى من تبعهم بإحسان على أقوم سيرة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المراتب العلية الكبيرة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وعبادك الصَّالحين الذين ظفروا بهباتك الكثيرة، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين يا ذا العطايا الوفيرة.
وبعدُ،
يواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالصيام، ويذكُر في هذا الباب: "باب صِيَامِ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً أَوْ يَتَظَاهَرُ"، وهما مَن أوجَب الله عليهما إن عَجزا عن الكفَّارة أن يصوما شهرين متتابعين؛ فيعني في هذا حكم صيام شهرين متتابعين فيما وجب فيه صيام شهرين متتابعين من كفَّارة قتل خطأ: "باب صِيَامِ الَّذِي يَقْتُلُ خَطَأً" أو كفَّارة الظّهار لمَن ظاهر من زوجته وهو حرامٌ، وهو أن يُمثِّلها بأحدٍ من محارمه وهي زوجته، كأن يقول: أنت عليّ كظهر أُمي، فهذا هو الظَّهار المذكور في الكتاب العزيز: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ … * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ … * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) [المجادلة:2-4]. كما يقول في كفارة المؤمن الخطأ: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:92]. فيتكلّم عمّن وجب عليه أن يتابع صيامه لمدة شهرين، وهما الاثنان الذين أشار لهما بقوله: مَن قتل خطأ ومَن تظاهر أيضًا.
يَقُولُ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: "أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فِي قَتْلِ خَطَإٍ"، (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ) [النساء:92]، أَوْ في "تَظَاهُرٍ" من امرأته (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) [المجادلة:4] في قتل الخطأ: (تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيْمَاً حَكِيْمَاً) [النساء:92] قال: "فَعَرَضَ لَهُ" في أثناء صيام الشَّهرين "مَرَضٌ يَغْلِبُهُ" فأفطر.
فهذا الذي قرّره الشَّافعية وكذلك الحنفية في مَن وجب عليه التتابع.
ومذهب الإمام مالك -وأوسع منه مذهب الإمام أحمد بن حنبل-: أنّه إن أفطر بمرضٍ غلَبه وقطع عليه صيامه: "أَنَّهُ إِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ"؛ أي: متى ما شُفي "وَقَوِيَ عَلَى الصِّيَامِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ" الصِّيام، بل يصوم بعد الصّحة مباشرةً. فإن تأخر بعد التَّمكُن من الصَّوم، انقطع صيامه بالاتفاق؛ انقطع التتابع بالاتفاق ولا بُد أن يعيده من أوله. قال: "فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ صِيَامِهِ" عند الإمام مالك وأحمد -عليه رضوان الله تعالى-.
قال: "وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِى يَجِبُ عَلَيْهَا الصِّيَامُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً"؛ فتصوم شهرين متتابعين، "إِذَا حَاضَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ صِيَامِهَا"؛ يعني: في أثناء صيامها الشهرين المتتابعين "أَنَّهَا إِذَا طَهُرَتْ لاَ تُؤَخِّرُ الصِّيَامَ" وهذا متفق عليه لأن الحائض لا بُد لها من الحيض، وهي مأمورة بالفطر لأجل الحيض وليس هناك بحكم العادة أن يكون شهران ليس فيهما حيض، فإنّ الحيض يحصل للمرأة غالبًا في كل شهر، وحينئذٍ لا يمكن أن نقطع عليها الشَّهرين المتتابعين، فمن أين تأتي لنا بشهرين ليس فيهما حيض؟ بل نقول: ما دام جاءها الحيض فهي تُفطر بأمر الشَّارع، ولا ينقطع التتابع ولا تُحسب أيام الحيض من الشَّهرين. فإذا كمُل الحيض، باشرت بالصيام.
○ فإذا طهُرت من اللَّيل وعَلِمت بطهرها ثمّ أصبحت غير صائمة؛ انقطع التتابع وعليها أن تُعيد من الأول.
○ وأمّا إذا كانت واصلت عند أول انقطاع الحيض، فتتابعها باقٍ؛ فتكمل الشَّهرين المتتابعين.
قال: "لاَ تُؤَخِّرُ الصِّيَامَ"؛ يعني: بعد الطَّهارة بل تصوم بلا تأخير، "وَهِيَ، تَبْنِي عَلَى مَا قَدْ صَامَتْ." فإن أخرَّت بعد أن طهُرت ولو يومًا واحدًا؛ بطل تتابعها.
إذًا؛ فالخلاف في المريض والمسافر ومَن أفطر لغير الحيض. "وَلَيْسَ لأَحَدٍ" ليس بجائز لأحد "وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَنْ يُفْطِرَ إِلاَّ مِنْ عِلَّةٍ: مَرَضٍ أَوْ حَيْضَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ" مترخصًا بالصوم، إنّما ذلك فيما فُرض من رمضان.
وتوسَّع في ذلك الحنابلة فقالوا: إذا أفطر في أثناء الشهرين لأجل سفرٍ أو مرضٍ أو صيام رمضان أو مجيء يوم عيدٍ؛ فلا شيء عليه وليُكمِل. فهذا أوسع المذاهب مذهب الإمام أحمد بن حنبل في وجوب التتابع، ولاحظ أن يكون متتابعًا فقط من دون أن يكون أي عذر أو تخلل يوم منهي عنه.
ولاحظ الحنفية والشَّافعية النَّص القُرآني: (مُتَتَابِعَيْنِ) فأوجبوا على مَن وجب عليه ذلك أن يتحرى شهرين ليس فيهما عيدٌ ولا رمضان، وأن يصومهما متتابعين كما نصّ الحق -تبارك وتعالى- في قرآنه. فإذا قطع ولو بعذرٍ بأن مرض.. اختار شهرين ما فيها رمضان ولا فيها فِطر ولا أضحى، مرض، فاضطر إلى الفِطر؛ يُقال له: لا إثم عليك ولكن أعدْ صيام شهرين من أولهما متتابعين عند الحنفية وعند الشَّافعية -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
قال يحيى: "قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ." كرر ذلك تأكيدًا. إذًا فإذا شَرَع في صيام شهريّ التتابع، فعَرَض له عذر يمنع الصَّوم كالحيض أو المرض؛ يُمْسك عن الصَّوم حتى يمكنه ولا عليه الاستئناف في مذهب مالك وأحمد، فإن أخَّر بعده، أعاد من أول الشَّهرين.
"مَا يَفْعَلُ الْمَرِيضُ فِي صِيَامِهِ"؛ يعني: جواز الفِطر للمريض والمرض الذي يجوز به الفطر. المريض يفطر إذا كان الصِّيام يزيد في مرضه. قال: فلو تحمَّل هذا المريض وصام؛ كُره له ذلك ما دام الصَّوم يزيد في مرضه ولكن برئت ذمته وصحّ صومه إذا صام وهو مريض. فيجوز الفِطر للمريض في رمضان، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184].
وهكذا لمّا سُئل الإمام أحمد متى يُفطِر المريض؟ قال: إذا لم يستطع، قيل: مثل الحُمَّى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى! إذا كانت عنده حمى شديدة يشق عليه الصَّوم مشقّةً شديدةً؛ فليفطر. وهكذا الذي عليه الأئمة الأربعة. ونُقل عن بعض أهل العلم من السَّلف: أن أي مرض يصدق عليه أنه مرض يباح له الفِطر لعموم قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) لكن قيّده عامة الأئمة: أنّه إذا عجز عن الصَّوم أو شقّ مشقةً شديدة؛ حينئذ يفطر. أمّا إذا أُصيب بقليل من الزُّكام أو الصُّداع فيفطر!! فهذا متلاعب وهكذا لن يصوم أبدًا، بل في كل مرة يأتيه مغص في بطنه أو وجع في رجله أو زكام فيفطر؛ هذا لا يجوز إلا أن يكون هناك مرض يشقّ معه الصِّيام مشقةً شديدة.
"قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: الأَمْرُ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا أَصَابَهُ الْمَرَضُ، الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ، وَيُتْعِبُهُ وَيَبْلُغُ ذَلِكَ" الإتعاب "مِنْهُ"؛ يعني: مشقةٌ وشدة "فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ". فإذًا، المراد بالآية: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) [البقرة:184]؛ أي: مرض يُعْسر عليه الصَّوم معه، كما قال تعالى في كمال الآية: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْر) [البقرة:185] إن كان فيه مشقة وعسر فنعم، إما إن كان يقدر على الصَّوم ولا يؤثر فيه، ولا يزيد المرض، ولا يبطئ أيامه؛ صُمْ.
"وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ، وَبَلَغَ مِنْهُ، وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ"؛ يعني: يشقّ عليه القيام مشقة شديدة، "وَمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِعُذْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَبْدِ"؛ أي: مقدار ذلك المرض "وَمِنْ ذَلِكَ مَا لاَ تَبْلُغُ صِفَتُهُ"؛ أي: لا يبلغ هذا المقدار "فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ" المقدار وهو المشقَّة؛ "صَلَّى وَهُوَ جَالِسٌ"؛ فسقط عنه القيام لقوله ﷺ: "صَلِّ قائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقاعِدًا". فالضابط ما قال: "فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ"؛ ما دام يستطيع بلا مشقة شديدة، يجب عليه أن يصلي الفرض قائمًا.
"وَقَدْ أَرْخَصَ -الله عزَّ وجلَّ- لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ"؛ يعني: المسافر "أَقْوَى عَلَى الصِّيَامِ مِنَ الْمَرِيضِ"؛ يعني: فعذر المرض من باب أولى، "قَالَ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) [البقرة:184] قال: "فَأَرْخَصَ اللَّهُ -عزَّ اسمُه وتعالى في عُلاه- لِلْمُسَافِرِ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ أَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ مِنَ الْمَرِيضِ"، فجعل جواز الفِطر للمسافر بيسير المشقَّة دليلًا على جواز الفِطر للمريض الذي يلحق به مشقة الصِّيام أكثر من ذلك. قال: "فَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ"، وفيه إشارة أنه سمع غير ذلك ولكن هذا الذي أدَّاه إليه اجتهاده وقدَّمه على غيره.
قال: "باب النَّذْرِ فِي الصِّيَامِ وَالصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ." يقول: "بَلَغَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ" مُطلقًا هكذا؛ يعني أيّ شهر "هَلْ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ؟" يصوم تطوعًا. "فَقَالَ: سَعِيدٌ لِيَبْدَأْ بِالنَّذْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعَ"؛ يعني: على الاختيار والاستحسان المبادرة إلى الفرض أول قبل النَّفل. عليك نذر صوم، فتتطوع؛ تتطوع تصوم؟! صُمْ النَّذر أولًا لأنّ الفرض مُقدَّم على النَّفل هذا من باب الأفضل والأولى.
○ فإذا قدَّم التّطوع وصوم الشهر في ذمته؛ صحّ صومه وبقي النّذر عليه إلى أن يؤديه، وهذا إذا نذر صوم شهر مطلق.
○ فأمّا إذا نذر صوم شهر معيّن، لا يمكن أن يتطوع، ممنوع، ويجب عليه أن ينوي الصَّوم عن النّذر؛ لأن هذا الوقت سبق عليه فيه الفرض فلا يقدّم النَّفل على الفرض.
وأما إذا كان شهر غير معين، فالحكم ما ذكرناه أنه يجوز له أن يتطوع ويبقى الفرض وهو النّذر في ذمته، فيأثم إذا جاء وقت معيّن بالنذر فلم ينوِ فيه صوم النّذر وصام عن شي آخر.
وهكذا جاء عن الإمام أحمد الرّواية في جواز التَّطوع بالصوم لمَن عليه صيام، فنقل عنه: أنه لا يجوز أن يتطوع بالصوم مَن عليه من الفرض حتى يقضيه. وجاء عن أبي هريرة: أنه مَن صام تطوعًا وعليه من رمضان شيء ولم يقضه، فإنه لا يُتقبل منه حتى يصومه. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يجوز له التَّطوع لأنها عبادة تتعلق بوقت موسّع إلى شعبان، فجاز التَّطوع في وقتها قبل فعلها كالصلاة يتطوّع في أول وقتها قبل أن يصلي الفرض. فإذا دخل الفجر نصلي سُنة قبل الفرض. وإذا دخل الظُّهر، ما نُصلي سُنة قبله؟ سُنة تطوع ثم الفرض، ما يضر. وكذلك العصر وكذلك المغرب والعشاء، نصلي أولًا السُّنة ثم الفرض ما دام الوقت واسع، لكن إذا ضاق الوقت ولم يسعْ إلا الفرض؛ حرام عليه أن يصلي السُّنة بل يجب عليه أن يصلي الفرض مباشرة.
وجاء أيضًا عند الحنابلة قال: كُره تطوعٌ بصيام قبل صوم نذر غير مُعيَّن أو قضاء أو كفَّارة بصوم. وأما المُعيَّن، لا يكره التَّطوع قبله فإنه لم يجيء بعد. ولا يجوز التَّطوع في أيام الوقت المُعيَّن، الأسبوع المُعيَّن أو الشهر المُعيَّن، فإذا فعل ذلك؛ لزمه القضاء وعليه الإثم لأنه فوّته بغير عذر.
إذًا، تقديم صيام التَّطوع على النَّذر غير المُعيَّن أو القضاء:
○ فكذلك يقول الحنفية: جاز التَّطوع قبل المُعيَّن ولو الوجوب على الفور يكره.
تقديمه على الصُّوم المُعيَّن:
"قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِثْلُ ذَلِكَ" أنه مُستَحب أن يبادر الواجب، لا أن يتطوع قبل الواجب عليه.
"قَالَ مَالِكٌ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ، مِنْ رَقَبَةٍ يُعْتِقُهَا، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ بَدَنَةٍ" من الإبل، "فَأَوْصَى بِأَنْ يُوَفَّى ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ"، قال: "فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْبَدَنَةَ فِي ثُلُثِهِ"؛ أي: ثلث ماله شرط الوصية لا في جميع ماله. ولو أن أفطر رجل في رمضان من عذر ثم صحّ، ورجع من سفره فلم يصمه حتى مات، وقد كان أقام وصحّ من المرض وأخّر القضاء. قال مالك: يكون ذلك "فِي ثُلُثِهِ"؛ أي: ثلث التَّركة، "وَهُوَ يُبَدَّى"؛ أي: يُقدّم "عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَصَايَا، إِلاَّ مَا كَانَ مِثْلَهُ"؛ أي: مثل النَّذر كونه واجبًا، "وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ" على الموصي "مِنَ النُّذُورِ وَغَيْرِهَا، كَهَيْئَةِ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ"، فيقدّم ما أوصى به وهو واجب؛ أي: إذا أوصى بعدد من الوصايا لزم تقديم الذي هو واجب عليه.
قال المالكية: فيقدِّم فك أسير أوصى به، ثم مدبَّر، ثم صداق مريض لمنكوحة فيه، ثم زكاة أوصى بها وقد فرط بها، ثم زكاة الفِطر، ثم كفارة الظِّهار وقتل الخطأ. يقول: "وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ خَاصَّةً دُونَ رَأْسِ مَالِهِ، لأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ"؛ يعني: أداء الواجبات من إيفاء النَّذر وغيره "فِي رَأْسِ مَالِهِ، لأَخَّرَ الْمُتَوَفَّى مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَصَارَ الْمَالُ لِوَرَثَتِهِ، سَمَّى مِثْلَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ"، وقال خذوا كذا "الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَتَقَاضَاهَا مِنْهُ مُتَقَاضٍ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزاً لَهُ، أَخَّرَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ سَمَّاهَا، وَعَسَى أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ".
قال مَالِكٍ: "أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسْأَلُ: هَلْ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ أَوْ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ".
يعني لا يُجزئ أن ينوب أحد عن أحد في مذهب ابن عُمَر، فمَن العبادات ما لا يقبل النِّيابة، فمنها:
○ عبادات المال التي لا تعلق لها بالبدن مثل الزَّكاة؛ فهذه تصح فيها النّيابة.
○ ومنه ما يتعلق بالمال والبدن معًا كالحج والغزو، واختلف أهل العلم بصحة النّيابة فيه.
○ والثالث المختصّ بالبدن، لا تعلق لها بالمال مثل الصَّلاة والصَّوم؛ فهذه لا تدخلها النّيابة عند كثير من أهل العلم.
○ أن يموت قبل إمكان الصِّيام بسبب ضيق الوقت والعُذر من سَّفر أو عجز؛ فلا شيء عليه، وأكثر أهل العلم على ذلك.
○ وأن يموت بعد أن كان تمكّن من القضاء فلم يقضِ. قال الحنابلة: فالواجب أن يطعم عنه كل يوم مسكين.
وكثير من أهل العلم قالوا ذلك. والإطعام عند الشَّافعية أفضل، ويجوز أن يصوم عنه. وروت سيِّدتنا عائشة أن النَّبي ﷺ قال: "مَن مات وعليه صيام، صام عنه وليِّه". رواه البُخاري ومُسلم. كذلك جاء برواية ابن ماجه عن ابن عُمَر أن النَّبي ﷺ قال: "مَن مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا".
نعم وقد جاء أيضًا قولٌ عند الشَّافعية بجواز قضاء الصَّلاة عن الميت إذا فاتته، قالوا: وعمل به الإمام السُّبكي في بعض أقاربه، توفي وعليه صوم؛ فقضى عنه. وهذا أيضًا يوافق رواية عن الإمام أحمد ومذهب الشَّافعي: أن وارثه يصوم عنه، و "مَن مات وعليه صيام، صام عنه وليِّه". وجاءت امرأةٌ إلى نبينا ﷺ، قالت: إنَّ أُمِّي ماتَت وعلَيها صيامُ شهر، فقالَ: "أرأيتَ لَو كان علَيها دَيْنٌ أكنتِ تقضينَه؟" قالَت: نعَم، قال: "فدين اللهُ أحَقُّ". وبذلك قدَّم الشَّافعية ديون حق الله تعالى من تركة الميت على ديون النّاس، لقوله: "دَين الله أحق بالقضاء".
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة، ودفع عنا الآفات وموجبات النَّدامة، وأيدنا منه بتأييد، وسدّدنا بتسديد، وكان لنا بما هو أهله في الدُّنيا والبرزخ ويوم جَمْع النَّاس، وأدخلنا في دائرة سيِّد النَّاس، وتولانا ووقانا كل علّة وبأس وأصلح شؤون أمته بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
20 رَجب 1442