(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء.
فجر الأربعاء 17 ذي القعدة 1441هـ.
باب جَامِعِ الْوُضُوءِ
65 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ الاِسْتِطَابَةِ, فَقَالَ: "أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟"
66 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ فَقَالَ: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَأبِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِى بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ، فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَلاَ يُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي، كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ، أَلاَ هَلُمَّ، أَلاَ هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ : فَسُحْقاً فَسُحْقاً فَسُحْقاً".
الحمد لله مُكرمنا بشريعته وبلاغِ صفوته خير بريته، اللهم صلِّ وسلم على عبدك المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأهل محبّته ومودّته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،
فيتابع الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- في الموطأ ذكر الأحاديث المتعلّقة بالوضوء فيقول: "باب جامع الوضوء"، يذكرُ فيه عن عروة رضي الله تعالى عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ الاِسْتِطَابَةِ، فَقَالَ: "أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟" سُئل عن الاستطابة، والمراد بها: الاستنجاء بالحجر، فهي مأخوذةٌ من الطيب؛ فإن المستنجي يُطيّب بدنهُ عن النجاسة ويطيبّ نفسه بإزالة النجاسة عنه. فأرادوا بالاستطابة الاستنجاء بالحجر، "..سُئِلَ عَنْ الاِسْتِطَابَةِ, فَقَالَ: "أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟" " يشير إلى يسر الشريعة وما فرض الله تبارك وتعالى علينا في هذا الدين، وما جعل لنا من طُهر فيجوز الاستنجاء بالأحجار، و بالماء وهو أفضل وهو عمل النبيين صلوات الله وسلامه عليهم. والجمع بين الحجر والماء أفضل، حتى قيل أنه المراد بالثناء بالطهر على أهل قباء فى قوله: (..يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا..) [التوبة:108] والأمر أشمل من هذا في معاني الطهارة الظاهرة والباطنة.
يقول: "أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟" وقال: جمهور أهل العلم أراد بالأحجار: كل جامد يقلع النجاسة غير محترم و هو طاهر فهو المراد؛ وليس المراد جنس الحجر ولا نوع الحجر ولا عين الحجر، فإذًا يحصل الإنقاء والطهر بأي شيءٍ من هذا، فإذا استجمر بخرقةٍ أو عودٍ أو ما في معنى ذلك من كل جامدٍ طاهرٍ قالعٍ للنجاسة غير محترم فخرج بالجامد: المائع، فلا يجوز أن يستنجي بمائع غير الماء.
كل جامدٍ طاهر، بخلاف النجس لأنه ﷺ قال: ليس الروث، نهى عن الاستنجاء بالروث وبالعظم، وقال عن الروث: إنه "رجسٌ" فعلّل برجس، ولم يعلّل بكونه غير حجر؛ فدل على أن كل جامد يجوز الاستنجاء به، و لكن علّله بكونه رجس؛ نجاسة فلا يجوز الاستنجاء بالأشياء النجسة.
ويقول :الفقهاء عند الشافعية، إن هذا لمن أراد الاقتصار على الاستنجاء بالحجر، أمّا من أراد الجمع بين الاستنجاء بالحجر والماء، فيجزئه أي جامد ولو نجس لإزالة عين النجاسة أولًا، ثم يتبِعه بالماء؛ ولكن الأولى أن يكون بجامدٍ طاهر، قالعٍ للنجاسة، فأما ما كان من الجامدات متناثرًا أو كان لزجًا أو كان أملس، لا يزيل النجاسة فلا يصح الاستنجاء به؛ فلا يصح الاستنجاء بما لا يقلع النجاسة لملاسته أو لزوجته أو لتناثر أجزائه. فما لم يكن كذلك يقلع النجاسة من الجامدات الطاهرات فيصح الاستنجاء به. وبهذا تعلم استعمال هذه المناديل الورقية التي يجعلونها، فينبغي أن تتوفر في أماكن قضاء الحاجة للناس عامة و طلاب العلم خاصة، لأجل الجمع في الاستنجاء بين الحجر والماء، فتقوم مقام الحجر ثم يُتبِعها بالماء.
إذًا، العظم و الروثة من جملة الجمادات التى نهى عنها ﷺ، فقال إنها "رجسٌ"، وقال :فى العظم: "إنه زاد إخوانكم من الجن"، وذلك أن الحق تعالى يكسو ما يرمي الإنس من العظام لحمًا يكون طعامًا للجن، فيأكلونه من بعدهم وجاء في ذلك أحاديث. فإذًا لا يجوز تنجيس العظام، فعظام المأكولات التي نأكلها لا يجوز رميها في النجاسات، كما لا يجوز الاستنجاء بها، فإنها مطعوم إخواننا الجن، فينبغي أن نجعل العظام التي نرميها في مكان لا يختلط بالنجاسة، وينبغي عند رميها أن يقال: بسم الله؛ فإن البسملة عند رمي العظم تكون حائلةً بين كفار الجن وبين الأكل والاستفادة من ذلك العظم وما يُكسى من لحم، فلا يستطيع الكافر من الجن أن يأكل منه، إذا قلت بسم الله عند رميه، فإذا لم تسمّي الله أكلها من الجن الكافر والمسلم، فأمّا إذا سمّيت الله عند رمي العظم فلا يستطيع أن يستفيد منه ويتناول ما يُكسى من لحم إلا مسلمي الجن.
فكذلك كلُ النجِسات كما ذكر لنا رسول الله ﷺ في الرجيع و الروثة أنها رجسٌ لا يصح الاستنجاء بها، ولا بد من ثلاثة أحجار، فلا يجزئ مسحةٌ واحدة.
قال: بعض أهل العلم لابد من ثلاثة أحجار فلا يجزئ الحجر الواحد، ولو كان كبيرًا له أطراف.
"أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟"
و جاء فى الحديث: "..ونهانا.. أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار"، وبهذا قال بعضهم: لا يجزئه حجر واحد ولو كان ثلاث مسحات، ولكن قال الشافعية: إنما المقصود بالثلاثة أحجار هي الثلاث المسَحَات، فإذا تمّت حصل المقصود.
"أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟" يستطيب بها، ويروى عن بعض أهل العلم قصره على الحجر أو ما في جنسه مما كان من جنس الأرض، ولا يجزئه بخرقة ونحوها. وقال الجمهور: خلاف ذلك كما سمعت. إذًا، فالاستطابة مصدر استطاب، بمعنى: رآه طيبًا، فيستعملها الفقهاء على الاستنجاء، فالاستطابة هي: الاستنجاء بالماء أو بالأحجار يقال له: استطابة.
وعلمنا أيضًا بالمائعات غير الماء يُمنع الاستنجاء ولا يصح بل ينشر النجاسة، إلا عند الحنفية فإن المائع إذا كان مُزيلًا للنجاسة مثل الخل وماء الورد وما إلى ذلك؛ يجوز به، لا ما لا يزيل كالدّهن والزيت؛ لا يزيل النجاسة فلا يصح. والقصد إزالة النجاسة عندهم، مع ذلك قالوا بكراهة المائع غير الماء، وإن كان يصح به الاستنجاء، فهو مكروه عند الحنفية. فالأولى أن يستنجي بالماء أو بجامدٍ غير الماء؛ جامد من الجامدات، أي جامد كان. وعلمت أنهم مثل المالكية العبرة عندهم بالانقاء، لا بالعدد، وعلمت اعتبار الشافعية العدد مع الإنقاء؛ وأن العدد عندهم ليس المراد تعدّد الاحجار، ولكن تعدّد المسحات.
فكل جامد قالع للنجاسة غير محترم، ما معنى غير محترم؟ لا يجوز الاستنجاء بمطعوم، إذا كان مطعوم إخواننا الجن ممنوع، فمطعوم الإنس من باب أولى! ولكن الاستنجاء بما فيه كتابة علم أو فيه أسماء أنبياء ورسل أو فيه اسم الله، فمن تعمّد ذلك كَفَر -والعياذ بالله تعالى- إذا قصد الاستهزاء، وإلا فأثِمْ، ولا يصح به الاستنجاء، فيكون بغير محترم غير معظم.
وفي رواية عن الإمام أحمد توافق قول من أشرنا إليهم من أنه عندهم لابد أن يكون من جنس الحجر أو من جنس الأرض، فلا تجزئ الجوامد الأخرى. والجمهور على: أنه يجزئ، ومنها الرواية المشهورة عند الإمام أحمد -عليه رضوان الله تبارك و تعالى. "أَوَلاَ يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ؟" بُنيَ الدين على النظافة الظاهرة والباطنة، حتى لما قيل لبعض سادتنا الصحابة: "علّمكم نبيّكم كل شيء حتى الخِراءة؟ قالوا: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بول أو نستنجي باليمين.." وذكر التعليمات، فالشريعة في كمالها وعظمتها شملت حركة ابن آدم في الحياة كلها لتنوّره كيف يهتدي، وكيف يقتدى، وكيف يفعل الخير والصالح والمنفعة، فالحمد لله على نعمة الاسلام وكفى بها من نعمة. اللهم ثبتّنا على الإسلام.
ويقول: ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو نستنجي برجيعٍ أو عظم. وينبغي أيضًا وقت الاستنجاء ألا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، كما هو عند قضاء الحاجة، ولو في المكان المُعَد خروجًا للخلاف. وإن كان لم يقل بكراهة ذلك الشافعية؛ إذا كان في المكان المعد لذلك. وكذلك دفعوا الحرمة إذا كان بينه وبين القبلة ساتر مرتفع عن الأرض، قدر ثلثي ذراع، يستره عند قضاء الحاجة ليس بينه وبينه أكثر من ثلاثة أذُرع لإسقاط الحرمة. ومع ذلك فينبغي أن يجتنب ذلك كما هو عند الحنفية: حرام مطلقًا أن تستقبل القبلة أو تستدبر ببول أو غائط، لما جاء فى الحديث" لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببولٍ أو غائط ولكن شرّقوا أو غرّبوا"؛ لأن قبلة المدينة إلى جهة الجنوب فقال: "..شرّقوا أو غرّبوا" و فيها دليل من قال أن الجهة تكفي في استقبال القبلة؛ لأنه نهى عن الجهتين فجعله استقبال أو استدبار وهو بالنسبة لأهل المدينة: الجنوب والشمال، ممنوع عندهم، وأباح لهم أن يشرّقوا أو يغرّبوا، فصار الاستقبال يحصل بالجهة، على أن تخرج للجهة الأخرى فتصير انحرفت عن القبلة، "..ولكن شرّقوا أو غرّبوا" ذلك بالنسبة لأهل المدينة. وعندنا القبلة إلى الغروب؛ إلى المغرّب؛ فلا نغرّب و لا نشرّق، وهكذا كل بلد بحسب اتجاه الكعبة المشرفة فيها.
ثم قالوا: ينبغي أن يستنجي في غير مكان قضاء الحاجة، فإنه ربما أورث الوسواس. و قال بعض الصحابة لمّا قَدِمَ إلى الشام ووجدهم يستعملون الماء فيجري على النجاسة ثم يستنجي، فقالوا: إذا قد جرى الماء على النجاسة فلا يُكره ذلك أن يستنجي في نفس المكان الذي قد جرى عليه الماء، وقد تطهّر ولم تبقَ النجاسة. وينبغي:
ويحتاجُ قبل الاستنجاء إلى استبراء؛ وهو: أن يتأكد من خلو المجرى من أثر البول؛ حتى لا يخرج منه شيءٌ بعد الاستنجاء فينجّسه وتبطل بذلك صلاتهُ. بل جاءنا في الحديث: عامة عذاب أهل القبر من عدم الاستبراء من البول. ويحصل له الاستبراء ويختلف من طبيعة شخص إلى آخر والغالب: أنّه إذا أمرّ يده، واذا مشى خطواتٍ، و إذا تنحنح لم يبقى شيءٌ فى المجرى من أثر البول، و يكون قد استبرأ. فيجب الاستبراء من البول كالاستبراء أيضًا من الغائط؛ والمعنى: ألا يبقى أثرٌ من أثر النجاسة فإن ذلك يؤدي إلى بطلان صلاته.
ثم أورد لنا الحديث فى خروجه ﷺ إلى المقبرة، و ذلك بما جاء في الروايات أنه شَهِد جنازةً من الجنائز، وحضر معها الدفن في المقبرة، فلما دخل المقبرة سلّم على أهل القبور، وفيه ندب و سنية السلام على الموتى، وخِطابهم بقوله: السلام عليكم، فخاطبهم كما جاءنا في الأحاديث بأنواعٍ من الخطابات ﷺ؛ وهذا دليل أن أرواح الموتى تسمع خطاب المخاطبين، وإلا كان الكلام عبثًا و حاشاه صاحب الرسالة من العبث ﷺ. و بذلك يتبيّن أن نفي السماع في الآية الكريمة: (وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍۢ مَّن فِى ٱلْقُبُورِ) [فاطر:22]؛ هو نفي السماع نفسه عن المشركين والمعاندين في قوله: (لهم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا) [الحج 46]، أي سماع هذا؟ هل هناك من يقول أن أبو جهل ما كان يسمع؟! ما يسمع الكلام أو حتى تنادي ما يسمع صوتك؟ من قال لك؟ قال: (..لهم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا)!! سماع الموعظة والذكرى والانتفاع بذلك والاتعاظ، هذا الذي ما عندهم؛ ما يسمعون الحق لا أنهم لا يسمعون أي صوت! يسمعون الصوت والكلام وكذلك الموتى؛ (..وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍۢ مَّن فِى ٱلْقُبُورِ) [فاطر:22] يعني: ما يُمكن ينتفعون.. ما تُقبل منهم توبة، ما تُقبل منهم هداية، لو كان يُقبل الإسلام والتوبة في القبر كلهم سيسلمون! ما يُمكن يسمعون؛ يعني: ما ينفعهم وَعظ ولا نصيحة ولا دعوة إلى الله تعالى؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدموا ما يُمكن يتوبون هذا معناه. وأما أنهم يسمعون فقد قال الذي أنزلت عليه الآيات الكريمة في حديثه الصحيح عن الميت يدفن وانّهم ليَنصرفون عنه "..وإنه ليسمع قرع نعالهم" وفي هذا قوة السمع، لأنه لو كان في حالة الحياة وحائل بينه وبين الناس هذا الحيلولة كلها من التراب والأحجار لن يسمع قرع نعالهم، ولكن هو تحت الأحجار والتراب.. ومع ذلك يسمع قرع النعال، فهو سمع قوي "..وإنّه ليَسمع قرع نعالهم".
وهكذا جاءنا في الحديث الصحيح أيضًا أنه خاطب أهل القَليب من المشركين الذين في بدر، لمّا ألقوا في القليب وقال: يا فلان.. يا فلان.. هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فقد وجدت ما...قال: سيدنا عمر يا رسول الله ما تخاطب من أجسادٍ لا أرواح فيها! قال: "مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم"؛ كما تسمعون أنتم هم يسمعون كذلك "مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم". وهذا سلامُه ﷺ على أهل القبور، فقال: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين.."، لو واحد سلّم على من لا يسمع وقال: السلام عليكم! سيقولون له مجنون أنت؟! تسلّم على من؟ وتكلم من؟! فلو لم يكونوا يسمعونه ما قال الأمين المأمون السلام عليكم، قال: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين.." يعني: يا أهل الدار وهي دار القبور "..وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" لماذا استثنى بـ (إن شاء الله)؟ هل في شك؟ هل أحد ما يمون؟ كلهم يموتون ويلحقون بالأموات "إنا إن شاء الله بكم لاحقون".. قالوا:
وإلا لابد من موت فالموت يقين؛ لكن كونك في هذا المكان.. كونك على الإسلام والإيمان هذا أمره إلى الله.. فيارب ثبّتنا على الحق والهدى، وتوفّنا مسبّحين شاكرين وتوفّنا مسلمين.. نُبعث من الآمنين.. فى زمرة السابقين. قال: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".
وجلس ﷺ يحضر الدفن وكان بيده عود نكت به في الأرض، وقال: "..وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا" يقول ﷺ. قال من حوله من الصحابة: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَأبِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ" فانظر رحمته، و شفقته، و رأفته، و محبته وشوقه إلى المؤمنين الذين يأتون من بعد قبل أن يولدوا وقبل أن يجيئوا، فإن أحببناه -وهو أحقّ بحبنا بعد الله من كل شيء- فقد أحبّنا هو من قبل، وإن اشتقنا إليه.. فقد اشتاق هو إلينا من قبل، فالمنّ له والفضل له ﷺ. واجتهد أن تكون من إخوانه، "..يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ"، جاء في بعض الروايات أنه وصف إخوانه هؤلاء من هم، قال: "آمنوا بي ولم يروني، يودّ أحدهم لو رآني بنفسه و ماله"؛ يودّ أحدهم يعني: يحملون الشوق والمحبة حتى يودّ أحدهم لو رآني بنفسه وماله؛ يسلّم نفسه وماله مقابل رؤية وجه رسول الله ﷺ. هؤلاء إخوانه.. اجتهد أن تكون منهم وتكون رؤية وجهه أغلى عليك من نفسك وأهلك ومالك.
قال الصحابة -عليهم الرضوان-: "يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِى بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟" نحن الصحابة رأيتنا ورأيت وجوهنا وتعرفنا، كيف تعرف من يأتون من بعد؟ قال: لهم ﷺ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ، فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟؛ يفرّق بينهم "قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ"؛ الأغرّ و المحجل
فقال: "فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ" مع أن كل الأمم قبلنا كانوا يتوضؤون؛ لكن الغرّ والتحجيل، لنا وحدنا في القيامة من أجل أن تكون علامة لأمة الشفيع في القيامة ﷺ. الأمم يتوضؤون قبلنا لكن ما يظهر عليهم الغرّ والتحجيل إلا هذه الأمة، ليتميز أمة من له الله أعزّ ﷺ. فكم لهم بسببه من ميزات في القيامة ما حصلوها بأعمالهم؛ يكونون أول من يُحاسَب، أوّل من يوزن له الأعمال، أول من يمر على الصراط، ولا أمة من الأمم تمر ينتظرهم أنبيائهم، حتى تمر هذه الأمة.. من أين جئنا بهذا؟ بشيء من أعمالنا؟!.. ولكن بوجاهة نبيّنا عند ربنا، بمحبة ربنا لنبيّنا ﷺ. فالحمد لله الذي جعلنا من أمّته، قال: "وأنا فرطهم على الحوض"؛ السابق المهيئ؛ أتقدم إليهم هناك، كما قال لساداتنا الأنصار: "..فاصبروا، حتى تلقوني على الحوض" ﷺ.
وهكذا قال سيدنا أويس القرني لسيدنا عمر: هذا مكان موعد بيني وبينك حتى آتيك بزاد ونفقة، قال له: يا أمير المؤمنين معي زاد أربع دراهم متى تراني أنفقها و عندي كسوة هذين الثوبين متى تراني أبليهما! يا أمير المؤمنين لا موعد بيني وبينك إلا حوض رسول الله ﷺ يوم القيامة، الموعد هَهُناك. ولما حضر عنده في العراق عند نهر الفرات، ابن حيان قال له سيدنا أويس يذكره بالموت وقال: إنه توفي ﷺ وتوفي أبو بكر وتوفي أخي وحبيبي عمر، قال له: لم يمت بعد أمير المؤمنين! قال له: بلى! الخبر لم يصل للعراق سيدنا عمر طعن في المدينة المنورة وتوفي ،قال: بلى قد نُعيَ إليّ عمر. ثم جاءت الأخبار أنه قُتل في الأيام التي تحدث عنها سيدنا أويس القرني عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
فالشاهد في الغرّ والتحجيل: غسل ما زاد على الواجب في الوجه غرّة، وغسل ما زاد على الواجب في اليدين والرجلين: تحجيل، وعلى قدر ما تغسل يكون النور يوم القيامة،
فهذا كمال إطالة الغرة والتحجيل. حتى لما روى الحديث سيدنا أبو هريرة قال :"فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل" لتبدو العلامة عليه يوم القيامة ويعرفه المظلل بالغمامة ﷺ، ويميّزه من بقية الأمم؛ فتتميز هذه الأمة. قال: "..فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَلاَ يُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي، كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ، أَلاَ هَلُمَّ، أَلاَ هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ" والعياذ بالله تعالى، خالفوا منهجه وطريقته حتى توفوا على غير الملة. فهؤلاء تبكتهم الملائكة في الآخرة، تقول: انظروا من استقاموا على منهجه ومحبته.. يقرّبونهم من الحوض يجعلونه يروون من يشربون منه وهم من العطش يريدون أن يشربوا فيذودونهم و يطردونهم طرد؛ ليزدادوا حزنهم.. أكثر مما لو ما رأوه؛ فهُم رأوه ثم أُبعدوا منه ورأوا القوم يشربون.. وهم ممنوعين فيزدادون حسرة إلى حسرتهم، وألم إلى ألمِهم والعياذ بالله تبارك تعالى. "..فَلاَ يُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي، كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ.." يسقي الرجل إبله من الحوض، فيجيء بعير ضالّ ليس من إبله فيبُعده ما يتركه يشرب الماء على إبله.. "أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ، أَلاَ هَلُمَّ، أَلاَ هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: فَسُحْقاً فَسُحْقاً فَسُحْقاً" فتح الله لهم أبواب الرحمة، وبلّغت وتشفّعت لهم، ويجِيئون يرتدّون من بعدي ويخرجون عن سواء السبيل، ويُخالفوني ويَتبعون الكفار والأعداء ماذا أعمل بهم؟ "...فَسُحْقاً فَسُحْقاً فَسُحْقاً" والعياذ بالله تبارك وتعالى، فيا خيبة من كان مصيره ذلك.
اللهم اسلك بنا أشرف المسالك، وارزقنا متابعة حبيبك ﷺ، والاهتداء بهديه، وأورِدنا في الدنيا حوض محبّته ومودته، وحسن الاقتداء به، والعمل بشريعته، وأورِدنا حوضه المورود في اليوم الموعود مع أوائل الواردين و أنت راضٍ عنّا، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمدﷺ.
19 ذو القِعدة 1441