(229)
(536)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، باب ما جاء في حجامة الصائم، وباب صيام يوم عاشوراء.
فجر الإثنين 17 رجب 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ الصِّائِمِ
821 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، قَالَ: ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ، فَكَانَ إِذَا صَامَ لَمْ يَحْتَجِمْ حَتَّى يُفْطِرَ.
822 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ.
823 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ لاَ يُفْطِرُ. قَال:َ وَمَا رَأَيْتُهُ احْتَجَمَ قَطُّ إِلاَّ وَهُوَ صَائِمٌ.
824 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ، إِلاَّ خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَضْعُفَ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ تُكْرَهْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً احْتَجَمَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ سَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَمْ آمُرْهُ بِالْقَضَاءِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ، لأَنَّ الْحِجَامَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ لِلصَّائِمِ، لِمَوْضِعِ التَّغْرِيرِ بِالصِّيَامِ، فَمَنِ احْتَجَمَ وَسَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى يُمْسِيَ، فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
825 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْماً تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
826 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أبِي سُفْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ: "هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يكْتبْ الله عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ، فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ"
827 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ غَداً يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَصُمْ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَصُومُوا.
الحَمْدُ للهِ مُكرِمنا بكتابهِ، وسنَّة حبيبهِ، ومُبَيّن الأحكام لنا بلسانِ عبدهِ المُصطفى صَلَّى الله وسلم وبارك وكَرّم عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ، ومَن سار في دربهِ، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلين، سادةُ أهل القُرب من اللهِ وحزبهِ، وعلى آلِهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الرَّاحمين.
ويُواصل سَيدنا الإمام مالك -عليهِ رضوان اللهِ تبارك وتعالى-، الأحاديث المُتعلقة بالصِّيامِ ويذكر في هذا: "باب مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ الصِّائِم"
وهذهِ الحجامة تستعمل لأجل طلب صحة البدن وفي الحديث: ما مَرَرت ليلة أُسري بي على ملأ من الملائكه إلا قالوا: مُر أُمَّتك بالحجامةِ وذَكِّر فيما يستشفى بهِ: "شَرطة محجم" واختلفوا في الحجامة للصائم.
فالأفضل تأخيره، مع قول الثلاثة أنه لا يفطر لا الحاجم ولا المحجوم، وجعلوا حديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ بفعلهِ ﷺ لمَّا صَحَّ أنَّهُ احتجم وهو صائم مُحرم ﷺ في حجة الوداع وهذا مُتأخر عمَّا ذكر قبله.
إذًا، فيقول الإمام أحمد ابن حنبل ومعهُ أبو داوود الظَّاهري ومحمد ابن سيرين وإسحاق ويروى عن ابن المنذر من الشَّافعية أنَّ الحجامة يفطر بها الصائم الحاجم والمحجوم. كذلك يُروى عن ابن المبارك وابن مهدي فيقول الحنابلة الحجامة يُفطر بِها الحاجم والمحجوم، وكانَ بعض السَّلف يحترز من الحجامةِ في نهار الصَّوم؛
ولم يقل بالكفارةِ على المحتجم إلا عطاء، فإنَّ الإمام أحمد ومن وافقهُ من أن الحجامة تفطر الصَّائم أوجبوا عليهِ القضاء فقط دون الكفارة؛ ولكن قالَ عطاء يلزمهُ الكفارة أيضًا.
إذًا، فَتبَيَّن أنَّ مذهب لا يفطر هو مذهب الأئمة الثلاثة. ثمَّ أطلق الشَّافعية أنَّ الأفضل تركه خروجًا من الخلاف، وقَيَّد الحنفية والمالكية كراهتَهُ بالخوف، خوف ضعفهِ عن الصِّيام، أو أن يؤدي إلى الفطر، فجعلوا ذلك مكروهًا وعند الأمنِ صَرَّحَ المالكية بعدم الكراهة.
ويُفهم ذلك مِمَّا قُرئ علينا من كلام الإمام مالك في المُوطأ الآتي معنا فأوردَ حديثَ ابن عمر: "أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ"؛ لأنَّهُ يرى جواز ذلك " قالََ" نافع "ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْدُ"؛ يعني: تركَ الاحتجام صائمًا؛ أي: بعد ما كان يحتجم، " فَكَانَ إِذَا صَامَ لَمْ يَحْتَجِمْ حَتَّى يُفْطِرَ"، وحملهُ بعضهم على أنَّهُ صارَ يتركه لما بلغه من أحاديثِ الفطر، وحمله آخرون على أنَّ ابن عمر صارَ يترك الحِجامة وهو صائم لِما كَبر وضعف كان يخاف على نفسهِ أن يفطر بالضّعفِ من الحجامة، ولهذا قالوا يُكره لكل من خاف الضعف على نفسه أن يحتجم حتى يفطر؛ لأنَّ الحِجامة رُبَّما أدت إلى فسادِ صومهِ أو ضعفهِ عن مواصلة الصَّوم.
وهكذا جاءَ عن الزَّهري: كانَ ابن عمر يَحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثُمَّ تَركهُ لأجل الضّعف، وهذا يُرجَّح الاحتمال الثّاني، وهو أنَّهُ إنَّما تَركه عندما كبر فضَعُفَ فخافَ عدم القدرة على الصَّومِ مع الحجامة.
وذُكر: "أَنَّ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَا يَحْتَجِمَانِ وَهُمَا صَائِمَانِ". وذُكر عن عروة: "أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ لاَ يُفْطِرُ"، لأنَّ الحجامة ليسَت بمفطر عندهُ كما عليه الجمهور، قَال:َ "وَمَا رَأَيْتُهُ احْتَجَمَ" يعني: عروة "قَطُّ إِلاَّ وَهُوَ صَائِمٌ" لماذا ما احتجم إلا وهو صائم؟
قالَ يحيى: "قَالَ مَالِكٌ: لاَ تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ، إِلاَّ خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَضْعُفَ" فَصرَّحَ بِعدم الكراهة إذا أمِنّ أن يضعف عن الصَّوم، وقَيَّد الكراهة بضعفهِ. كذلك قالَ الحنفية. وأطلقَ الشَّافعية: أنَّ الأفضل ترك الحِجامة ولو أمِنَ من الضعف، فالأفضل أن يترك الحِجامة وهو صائم فلا يحتجم وهو صائم.
فإذًا، مِمّا يُكره للصائم: الحِجامة؛
إذًا، فعلِمنا أنه من بين الأربعةَ المذاهب يقول الحنابلة يفطر الحاجم والمحجوم. ويقول الثَّلاثة: لا يفطر لا الحاجم ولا المحجوم وإنَّما اختلفوا في كراهَتِها.
وهكذا يقول الإمام الشَّوكاني أن الجمع بين الأحاديث بأن يُقال أنَّهُ يكره لِمن ضَعف أن يحتجم، ومن أمِنَ الضَّعف فلا كراهةَ عليهِ لِما صُحَّ في الحديثِ من احتجامِهِ ﷺ وهو صائم.
"قالَ: الإمام مالك: وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً احْتَجَمَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ سَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَمْ آمُرْهُ بِالْقَضَاءِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي احْتَجَمَ فِيهِ"؛ لأنَّه لَم يفطر بهِ كما هو أيضًا عِند الحنفية والشّافعية، "لأَنَّ الْحِجَامَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ لِلصَّائِمِ، لِمَوْضِعِ التَّغْرِيرِ" ؛ يعني: المُخاطرة بالصَّوم لا إذا أمِنَ على نفسهِ لقوتِهِ، " فَمَنِ احْتَجَمَ وَسَلِمَ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى يُمْسِيَ، فَلاَ أَرَى عَلَيْهِ شَيْئاً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ " معلوم.
وسمعتَ ما قالوا في حديث: "أفطر الحاجِم والمحجوم"، وأنَّهُ منسوخ بحديثِ ابن عباس الّذي أورده البُخاري، وأنَّهُ احتجمَ في حجةِ الوداع، وهو مُحرم صائم، وحجة الوَداع كانت في آخر عمرهِِ الكريم صلََّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أفضل الصَّلاة وأزكى التَّسليم.
وجاءَ عن سَيدنا أنس بن مالك في روايةِ الدَّار قُطني: أنَّ النبي ﷺ احتجم وهو صائم بعد ما قالَ أفطر الحاجِم والمحجوم، وهذا الكلام من أنس مُصرّحٌ بالنسخِ أنّهُ نُسخَ الفطر للحاجِمِ والمحجوم.
"باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ" وهو من الأيامِ المشهودة الّتي يَسُنُّ صِيامها، بل قيلَ بوجوبه، يقول: "باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ" عاشوراء بالمَدِِّ عاشوراء؛ أرادوا بهِ اليوم العاشر من مُحرم، فهكذا عاشوراء معدولٌ عن عاشرةٍ للمبالغةِ والتَّعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة، إنَّما مأخوذ من العشرِ، فإذا قيلَ يوم عاشوراء كأنَّهُ قيلَ يوم الليلة العاشرة، وعَدلوا بهِ عن الصّفة غلبت عليهِ الإسمية، فحذفوا مسألة الليلة وقالوا يوم عاشوراء، إذًا فالجمهور يقولون أنَّ معنى يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر المُحرَّم الحرام فيوم عاشوراء اليوم العاشر.
وجاءَ في الحديثِ: "إن عِشتُ إلى قابل لأصومَنَّ التّاسع"، فَدلّ على أنَّ عاشوراء هو العاشر وليس التّاسع، خِلافًا لِما قالَ بعضهم، أنَّ اليوم التّاسع يُضاف لِليلتهِ الآتية، فَيُقال لهُ في اليوم التّاسع يوم عاشوراء. وهكذا كما كانَ يقولُ العرب وردتُ الإبل عشرًا إذا وردت في اليوم التّاسع وقيل أنَّهُ الحادي عشر، فعلِمتَ أنَّ الجمهور على أنَّ معنى يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم فسمي لأنه عاشر المحرم.
وقد أكرمَ اللهَ تعالى فيهِ عددًا من الأنبياءِ، قيلَ عشرة من الأنبياءِ عليهم السَّلام بعشرِ كرامات:
ففيهِ عشر كرامات لعشرِ من الأنبياءِ فهو يوم عاشوراء وذكرَ بعض أهل العلم زيادة:
ومِما يُستحب يوم عاشوراء معَ الصَّوم:
كما أنَّ من أهل العلمِ مَن استحبّ الإعتناء بِما يَتيسَّر مِن السُّننِ وفعل الخيرات في يومِ عاشوراء.
إلى غيرِ ذلك لكونهِ يوم شريف فضيل تُضاعَف فيهِ ثواب الأعمال الصَّالحة.
ويُذكر عن الإمامِ أبي حنيفة أنَّهُ قالَ: أنَّ صوم يوم عاشوراء كانَ واجبًا ثُمَّ نُسِخ، وكذلك يُروى عنِ الإمامِ أحمد ابن حنبل. ويقول الشَّافعية: أنَّهُ لَم يُفرض شيءٌ قبلَ رمضان أصلاً؛ وإنَّما فُرض رمضان، وإنَّما شُرِعَ صوم يوم عاشوراء من قبل فرض رمضان، نعم.. فلم يَزل سُنَّةً مِن حينَ شُرِع، ولم يكن في سنةٍ من السَّنين واجبًا قط إلا أنَّهُ يتأكد استحباب صَومهِ.
وجاء عن هند بن أسماء، قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى قومي من أسلم فقال: "مُر قومك فليصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليَصُم آخره". وقالوا أنَّ عدم أمرِهِ بالقضاءِ دَلَّ على أنَّه لا يجب صوم ذلك اليوم. وقالت السيدة عائشة: "كان رسول الله ﷺ أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فُرِضَ رمضان، كان من شاءَ صام ومن شاءَ أفطر". وجاءَ أيضًا في روايةِ الإمام البُخاري عن ابن عباس يقول: "قَدِمَ النبي ﷺ المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يومٌ نجّا الله بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، فقال: فأنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
نعم، فَمن السُّنة صوم يوم عاشوراء، وقالوا يَسُنُّ صوم شهرُ اللهِ المُحرَّم وآكدَهُ العاشر ثُمَّ التَّاسع، هكذا يقول الحنابلة، وهكذا يقول غيرهم فَيَسُن صوم يوم عاشوراء وتاسوعاء، لعزمهِ ﷺ على صومِ تاسوعاء مع عاشوراء، وهو اليوم التَّاسع، سُنَّ صوم عاشوراء وتاسوعاء، فإن لم يَصمه فالحادي عشر، نُدِبَ عاشوراء وتاسوعاء، وقُدّمَ عاشوراء لأنَّهُ أفضل من تاسوعاء. وهكذا يرى الحنفية: أنَّهُ يُكره أن يفرده مِن دون تاسوعاء ومِن دون صوم الحادي عشر، لأنَّهُ يكون مُتشبِها باليهود.
وقال ﷺ في آخر سنةٍ: "لئن عشتُ إلى قابل لأصومَنَّ التَّاسع"، وجاءَ في رواية: "التَّاسع والعاشر".
بل جاءَنا في الحديث: "عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْماً تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ "، وأنَّهم توارثوا عَمَّن قبلهم، فَعَظَّموا هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة في يوم عاشوراء، وكأنَّهُ من بقايا دين إبراهيم على نَبِينا وعليهِ أفضل الصَّلاة والتَّسليم. تقول: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ " مِن قبل الإسلام " فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ"، وإنَّما كانَ قدوم نَبينا في ربيعِ الأول إلى المَدينة المُنورة، فما يكون الأمر بالصِّيام إلا في السَّنة الثَّانية من الهجرةِ، وفيها في شعبان فُرِضَ رمضان، "فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ"؛ أي: صيام شهر رمضان، "كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ"؛ يعني: القول بوجوبهِ " فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ".
وذَكرَ: "عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أبِي سُفْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ" هذهِ أول حجة حَجَّها بعد الإمارة، سنة 44 هـ، وآخر حِجة حَجَّها سنة 57 هـ، فكأنَّهُ رآهُ في الحجةِ الأخيرة، "وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ: هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يكْتبْ الله عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ، فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ".
وحدثنا: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ غَداً يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَصُمْ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَصُومُوا"، وفيهِ: الاستِحبابُ والنَّدبُ المُؤكد لصومِ يوم عاشوراء، أمَّا الواجبُ فصوم رمضان بالإتفاق، ولا يلزمُ بعدَ فرضهِ غيرهِ إلا ما وَجَبَ بنذرهِ أو كفارة ونحو ذلك، واللهُ أعلم.
قالَ ﷺ في صومِ يوم عاشوراء: "أحتسبُ على اللهِ أن يُكَفّرَ السنة الّتي قبله". اللهمّ صلِ على سَيدنا محمد وعلى آلهِ.
باركَ اللهُ في أعمارنا، ورزقنا صرفها فيما يُرضيهِ عنَّا، وأصلحَ لنا الحِسَّ والمعنى، وشَيَّد بتقواهُ لنا المبنى، ووقانا الأسواء والأدواء، وتولّانا بِما تولّى به محبوبيه سِرًّا وعلنًا، وختمَ لنا بأكمل الحُسنى بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
18 رَجب 1442