(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، باب من أجمع على الصيام قبل الفجر، وباب ما جاء في تعجيل الفِطر.
فجر الثلاثاء 11 رجب 1442هـ.
باب مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ
791- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ يَصُومُ إِلاَّ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ.
792- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
باب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ
793- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ".
794- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ".
795- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الأَسْوَدِ، قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.
الحمد لله مُكرِمِنا بالشريعة الغرَّاء، وبيانها على لسان خير الورى سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كل لمحةٍ ونفسٍ، وعلى آله الأطهار وصحبه الكُبراء، وعلى مَن سار بمسيرهم ووالاهم في الله وجرى بمجراهم خير مجرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى جميع الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
يواصل الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- الأحاديث المتعلقة بالصيام ويقول: "باب مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ"،
"مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ"؛ أي: نوى أن يصومه وصمّم وعزم أن يصوم في الغد، قال تعالى: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) [يوسف:102]؛ أي: عزموا؛ فالإجماع للصيام؛ العزم عليه والقصد له.
يقول: "باب مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ"، والصِّيام من الأعمال التي تحتاج إلى النِّية، فلا بُد لها من النِّيّة كما قال ﷺ: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى"، فلا يصح الصَّوم من دون نية. فكذلك قال الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فإن كان فرضًا كصيام رمضان -في أدائه وقضائه- والنَّذر والكفَّارة؛ يُشترط أن ينويه من اللَّيل.
وجاؤوا بحديث يوم عاشوراء في قوله ﷺ: "ومَن لَمْ يَكُنْ أكَلَ فَلْيَصُمْ". فعلِمنا أنّ الإجماع من اللَّيل هو المُشترط عند الأئمة الثلاثة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وكذلك أن ينوي الصِّيام من اللَّيل، وأن ينوي لكل ليلة، وأن ينوي لكل يومٍ من ليلته؛ فلا يصح أن ينويَ صوم رمضان كله عند الأئمة الثلاثة.
إذًا، فهكذا جاءت رواية في مذهب الإمام أحمد كرواية الإمام مالك، أنّه يُجزئ صومُ ليلة واحدة للشَّهر؛ نية الصَّوم الشَّهر كله في ليلة. والمُعتمد عنده كما هو عند الشَّافعية والمالكية، لا يصح صوم كل يومٍ إلا بنية من ليلته. كما يدل عليه هذا الحديث الذي أورده الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، "مَن لم يُبيِّت الصِّيام من اللَّيل؛ فلا صيام له".
وكذلك فرَّق بعد ذلك الشَّافعية والحنابلة بين الفرض والنَّفل، قالوا:
○ الفرض، لا بُد له نية من اللَّيل.
○ وأما النَّفل، فيجوز أن يصوم من النَّهار ما دام قبل الزَّوال ما لم يتناول مُفطِّرًا.
جاؤوا أيضًا بحديث مُسلم لمَّا يأتي ﷺ إلى البيت ويقول: "هل عندكم شيء؟" فقالت السيِّدة عائشة: يا رسول الله ما عندنا شيء، قال: "فإني صائم" وجاء في لفظ: "فإني إذًا صائم".
فيقول الحنابلة كما يقول الشَّافعية:
○ يجب تعيين النّية من اللَّيل لصوم كل يومٍ واجب.
○ ويصح صوم النَّفل بنية من النَّهار، -ووسّعوا الأمر فيه؛ قبل الزوال أو بعده-، ولكن يُحكم بالصوم بعد ذلك.
المُعتمد عند الشَّافعية، أنه يُحكم بصوم اليوم كله. وفي قول عندهم كما يقول الحنابلة: من وقت نيته يُثاب على الصَّوم، ولكن هذا يقتضي أنّه يُثاب على صوم بعض يومٍ، ولا يصح صوم بعض يوم ولكنه لكونه لم يتناول مفطّرًا.
فهكذا شرط الصَّوم الفرض: النِّية من اللَّيل. ولايصح أن يكون في النَّهار إلا النَّفل؛ قبل الزَّوال، كما عَلِمنا عند الشَّافعية ومَن وافقهم.
الحديث: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ يَصُومُ إِلاَّ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ"؛ عزم عليه وقصده قبل طلوع الفجر. وسَمِعنا اللَّفظ الآخر في الحديث: "من لم يُبيّتِ الصيامَ من الليل فلا صيامَ له". وفي لفظٍ عند أبي داود والتِّرمذي: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ" من اللَّيل "قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ".
وهكذا أورد الحديث الآخر: "عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِ ذَلِكَ." والحديث عند أرباب السُّنن أبي داود والتِّرمذي والنَّسائي. هذا فيما يتعلق بالنّية وكونها في الفرض وفي النَّفل.
وهل يلزم التَّعيين؟
يلزم التَّعيين عند الشَّافعية، فيُعيّن صوم عن فرض رمضان.
وقالوا: عن استدلال الحنفية بـ "مَن لم يكن أكل فليصمْ"؛ أنّ ذلك كان في نفلٍ ولم يكن فرضًا. ولكن الاختلاف قد مضى معنا، هل كان فرضًا تلك السَّنة صوم يوم عاشوراء أم لم يفرض أصلًا وكان سُنَّة؟
فإن فُرض فإنّما يكون سَنة واحدة لأن في نفس السَّنة الثَّانية من الهجرة قد نزل فرض صوم رمضان. وبالإجماع أنّه بعد نزول فرض رمضان، لم يبق فرضٌ غيره على أحد من المُسلمين بحُكم الشَّرع إلا أن ينذر أو تكون عليه كفَّارة وما إلى ذلك. فحينئذٍ يكون الفرض هو رمضان كما قال السَّائل: هل عليّ غيره؟ أي: صوم رمضان، قال: "لا إلَّا أن تَتطوَّعَ".
ثم ذكر السُّنة في تعجيل الفِطر، فقال: "باب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ". فهو مُستحب، مجمعٌ عليه بين المذاهب الأربعة، ومسلك أهل السُّنة بأنه يُسنّ ويستحب تعجيل الفِطر لكن عند تيقن الغُروب، إذا تقين أنّ الشّمس قد غربت. وهكذا استحباب تعجيل الفِطر كاستحباب تأخير السُّحور ما لم يقع في شك. وكما أنّ مما يتعلق أيضًا بالنّية وجوب الجزم فيها،
"باب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ"، قال عمرو بن ميمون: كان أصحاب مُحمَّد ﷺ أسرع النّاس إفطارًا وأبطأهم سُحورًا. ولم يُصرِّح أنّ الإمام مالك بذكر السُّحور إلاّ أنّه جاء عنده باب كم بين قدر السُّحور من النِّداء. والسَّحور أيضًا سُنة كسُنيّة تعجيل الفِطر، ومستحبٌ أيضًا بالاتفاق، قال ﷺ: "تسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحورِ بَرَكةً"، كما جاء في الصَّحيحين. "إنَّ فصلَ ما بين صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتابِ، أكلةُ السَّحورِ"، فيما جاء في رواية الإمام مُسلم وأبي داود والتِّرمذي.
ووقت السحور: كلما كان آخر اللَّيل قبل أن يقع في شك؛ يدخل من بعد نصف اللَّيل. فما تُنوّل بعد نصف اللَّيل كان معونة على الصَّوم فهو سحور، بخلاف ما كان قبل نصف اللَّيل.
○ ويسمى ما يُتناول من بعد نصف اللَّيل إلى ما قبل الزَّوال، غداء.
○ وما يتناول بعد الزَّوال إلى نصف اللَّيل الأول، عشاء.
ولهذا قال صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم في أكَلَة السحور، قال للعرباض بن سارية، وجاء في رواية لسيِّدنا علي، قال: دعاني رسولُ اللهِ ﷺ إلى السَّحورِ في رمضانَ، فقال: "هَلُمَّ إلى الغداءِ المبارَكِ". الغداء؛ ما استُعمِل من بعد أو ما أُكِل وتُنوّل من الطَّعام بعد منتصف اللَّيل. يقال له الغداء. ثمّ لا يضر بعد النّية أن يقارف شيئًا من مبطلات الصَّوم ولكن يستحب ذلك لما أوجبه بعض أهل العلم أنّه إذا نوى، لا يتناول شيئًا من المُفطرات للصوم حتى يشرع في الصوم. ومن هنا يُستحب أن يجدد النّية بعد السَّحور حين يقرب الفجر، فلا يتناول مفطرًا بعد النِّية؛ هذا على سبيل الاستحباب، وإلا لا يضر أن يحصل له ما يحصل في أثناء الليل. حتى أنّ المرأة الحائض إذا كان من عادتها أن تطهُر أثناء اللَّيل أو آخر اللَّيل، فنوت والحيض فيها أن تصوم يوم غدٍ لوجود العادة؛ صحّ منها ذلك، ولا يضر أنّه لا تزال في الحيض، حتى إذا انقطع حيضها قبل طلوع الشمس؛ أجزأتها النِّية، الأولى والمستحب أن تجدد النِّية بعد انقطاع الحيض .
وأورد لنا حديث: "سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ". لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ "؛ موصوفين بالخير الكثير، بعيدين عن الفساد والمخالفة للسُنة الكريمة "مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ"؛ أي: ما داموا على هذه السُّنَّة.
وأما ما دام يشك أغربت أم لا؟
فلا ينبغي أن يتعجَّل بل لا يجوز له ذلك حتى يتيقن الغروب ويغلب على ظنه بعلامة ناجزة.
وحديث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرسل هنا أنّه ﷺ قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ". فلا يؤخره بعد تيقن غروب الشَّمس، فإذا انتظر حتى ظهرت النّجوم، فقد ذهب التَّعجيل وذهب ثواب التَّعجيل بالفِطر.
وذكر لنا أن سيِّدنا "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الأَسْوَدِ"؛ أي: في أُفق المَشرق إذا ابتدأ السَّواد من قبل المَشرق، كما قال ﷺ: "إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هَا هُنَا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِن هَا هُنَا، وغَرَبَتِ الشَّمْسُ فقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ". قال: "قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ"؛ يعني: يُسرعان بالصلاة لأنّها أهم العبادات أو يخشيان بقاء آثار الطعام فيهم. ولكن الثابت عنه ﷺ أنّه كان يَفطِر قبل أن يصلي، وكان يحب أن يُفطِر على رُطبات فإن لم يكن فتُميرات. وما كان عن سيِّدنا عُمَر وسيِّدنا عُثمان فكأنّه لبيان الجواز، أو لمّا رأوا من المبالغة التي خشوا فيها أن يعتقد أنّ ذلك مُحرَّم، أو لا يجوز فكان منهم ذلك على سبيل البيان اجتهادًا عليهما رضوان الله تبارك وتعالى.
وعندنا في الصَّحيحين يقول: عبد الله بن أبي أوفى: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر في شهر رمضان، فلما غابت الشمس، قال: يا فلان انزل فاجدح لنا، قال: يا رسول الله إن عليك نهارًا، قال: انزل فاجدح لنا، قال: فنزل، فجدح، فأتاه به فشرب النبي ﷺ" كما هو المعهود من عمله، فِطره ﷺ قبل الصَّلاة. وهكذا جاء عن سيِّدنا علي أنّه كان يقول لابن النَّتاج صاحبه غربت الشَّمس، يقول: لا تعجل، فإذا قال: نعم، أفطر ثم نزل فصلَّى، رضي الله عنه وكرَّم وجهه.
وكذلك ما جاء أيضًا عن سيِّدنا عُمَر نفسه وسيِّدنا عثمان أنّهما كانا يصليان المَغرِب إذا رأيا اللَّيل وكانا يُفطِران قبل الصَّلاة، فبهذا السِّياق غير هذا فيُحمل على أنهما أحيانًا يفعلان ذلك، وأنه قد فعلا التأخير على سبيل بيان الجواز وهذا المشهور عنهما ما أورده الإمام مالك، والسِّياق الآخر في الرِّواية الأُخرى عند ابن أبي شيبة، وأن عُمَر وعثمان كانا يُصليان المَغرِب إذا رأيا اللَّيل وكانا يُفطران قبل أن يُصليا.
جعلنا الله ممَن يقيم الصَّلاة، ويؤتي الزَّكاة ويقوم بالصوم على الوجه المرضي بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
13 رَجب 1442