(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الصيام، باب ما جاء في رؤية الهلال للصائم والفِطر في رمضان.
فجر الإثنين 10 رجب 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ
784 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
785 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
786 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ".
787 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِعَشِيٍّ، فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ.
788 - قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الَّذِي يَرَى هِلاَلَ رَمَضَانَ وَحْدَه: أَنَّهُ يَصُومُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ.
789 – قَالَ: وَمَنْ رَأَى هِلاَلَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ، لأَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَأْمُوناً، وَيَقُولُ أُولَئِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَدْ رَأَيْنَا الْهِلاَلَ، وَمَنْ رَأَى هِلاَلَ شَوَّالٍ نَهَاراً فَلاَ يُفْطِرْ وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ هِلاَلُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي.
790 - قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: إِذَا صَامَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَجَاءَهُمْ ثَبَتٌ أَنَّ هِلاَلَ رَمَضَانَ قَدْ رُئِيَ قَبْلَ أَنْ يَصُومُوا بِيَوْمٍ، وَأَنَّ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَثَلاَثُونَ، فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيَّةَ سَاعَةٍ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَاءَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء العظيمة، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده المصطفى محمد، مبيِّنها بالبيانات الحسنة الفخيمة، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل حسن متابعته في الطرق القويمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين منحهم الرحمن تفضيله وتكريمه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد؛ فابتدأ الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- يذكر الأحاديث المتعلقة بالصيام، وابتدأ كتاب الصيام:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، فذكر -رضي الله تعالى عنه-: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
والصوم لغة: الإمساك عن أي شيء،
فالإمساك عن الشيء يقال له: صيام.
والصوم في الشرع: إمساك المُكلَّف بالنية من الفجر إلى غروب الشمس عن جميع المفطِّرات، فهو إمساك عمَّا جعله الشارع مناقضًا للصوم و مفطِّرًا له.
شرعه الله -تبارك وتعالى- على ألسن أنبيائه لجميع الأمم كما قال: (..كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة:183]، فجعل في الشريعة الغرّاء لكل أمة على يد كل نبيّ نصيبًا من الصوم، في خلال السنة يقوم به المؤمنون الذين اتبعوا الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم.
ولما جعل الله -تبارك وتعالى- فيه من منافع وفوائد كثيرة ظاهرة وباطنة، فيأتي على:
حتى قال الإمام الغزالي: أنه قهر لعدو الله؛ لأن وسيلة الشيطان الشهوات، وسيلة الشيطان في الوصول إلى الإنسان وإغوائه بالشهوات، إنما تقوى بالطعام والشراب، ولذلك قال ﷺ: "إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ فضيِّقوا مَجاريه بالجُوع"، ويروى أنه قال للسيدة عائشة: "دَاوِمِي قَرْعَ بَابِ الجَنَّةِ؛ قالت: بماذا؟ قال: بِالجُوعِ"؛ إنما المراد بالجوع: الإمتناع لأجل الله -تبارك تعالى- عن الطعام والشراب، وإنما يكون ذلك بالصوم.
وهكذا عَلِمَ الناس ما علموا من حِكَم الصوم، وجهلوا ما جهلوه منها، فلذا كان الفريضة التي بدأت من زمن آدم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- ومضى عليه جميع الأنبياء، حتى خُتموا بسيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه.
حتى قال سيدنا علي في قوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة:183]، قال: أولهم آدم.
فالصوم عبادة أحبها الله من عباده وشرعها لهم من البداية، وهل المفروض صوم شهر رمضان بعينه أو شهر آخر أو أقل أو أكثر؟
الذي يظهر أن الله جعل لكل أمة صومًا، أيامًا في السنة ولكن مفرّقة، وإنما خُصَّ بالخصائص في رمضان أمة محمد ﷺ، وأُوتوا فيه ما لم يؤتَ غيرهم، كما صحّ في الحديث عنه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وكان فرض شهر رمضان على هذه الأمة في السنة الثانية من هجرة نبيها نبي الرحمة ﷺ، وفي شهر شعبان من السنة الثانية كان فرض الصوم وفرض الزكاة، وفرضت الصيام وفرض الزكاة في شعبان من السنة الثانية من هجرة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
يقول ابن عباس: بعث الله نبيه بشهادة أن لا إله إلا الله، ولمّا استقرت في قلوب من آمن به، قال: زاد الصلاة، فلمّا صدق زاد الزكاة، فلما صدق زاد الصيام، فلما صدق زاد الحج. والمعنى: أنه جاءت الشريعة بالتدريج، حتى كملت على يد صاحب النور البهيج صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وعلى هذا القول؛ إن فُرض لم يكن فرضه إلا سنة واحدة، فإنه في السنة الأولى من الهجرة جاء ﷺ بعد شهر محرم، إنما جاء في شهر ربيع وقد مضى يوم عاشوراء، ثم في السنة الثانية نفسها؛ كان شهر محرم الذي أدركه ﷺ؛
فعلى كل حال؛ فهمنا قول الجمهور أنه لم يفرض شيء قبل رمضان، وإنما الفرض في الشريعة جاء لشهر رمضان.
والصوم معلق بطلوع الفجر إلى غروب الشمس: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة:187].
يقول -رضي الله عنه-: "مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ"، كيف الفطر في رمضان؟ يعني مِن رمضان، رمضان لا أحد يفطر، أحد يفطر في رمضان! إذًا؛ يعني الفطر من رمضان بإثبات هلال شوال.
والمراد بالهلال: القمر في أول أيام الشهر، ويسمى لليلتين أو ثلاثًا هلالًا، وقال: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
وكذلك فيما يتعلق بلفظ رمضان؛ الجمهور على أنه يمكن أن يُطلق من دون ذكر الشهر، ويقال: صمت رمضان، ودخل رمضان، وجاء رمضان، وذهب رمضان، ورأى بعضهم: أنه لا يقال رمضان إنما يقال شهر رمضان، والجمهور على أنه لا حرج في أن يقال رمضان، أو يقال شهر رمضان.
والحديث الذي أورده في رؤية الهلال: "لاَ تَصُومُوا"؛ يعني: يوم الثلاثين من شعبان، أي باعتقاد أنه من رمضان أو غير رمضان، "حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ"؛ هلال رمضان، يعني لا يُجزم بالصوم من أجل رمضان حتى يُرى الهلال أو يكمل شعبان ثلاثين.
وقد كان المسلمون يعتنون بالتعرّض للأَهِلّة، وخصوصًا عند قرب رمضان وقرب الحج، ليثبتوا الوقت ويحتاطوا لأجل الصوم ولأجل الحج، قال تعالى: (..قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ..) [البقرة:189]، وكان ﷺ يتعرّض لرؤية الهلال، وإذا رأى الهلال قال: "اللَّهُ أَكبرُ، اللَّهُ أَكبرُ، اللَّهُ أَكبرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علَيْنَا بِالأَمْنِ والإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ والإِسْلامِ، والتوفيق لما تحب وترضى، رَبِّي ورَبُّكَ اللَّه"، وإلى غير ذلك مما جاء في دعاءه عند رؤية الهلال.
وجاء عنه أنه قال: "الحمدُ لله الذي ذهب بشهرِ كذا و جاء بشهرِ كذا" ﷺ. وهي من آيات الله أمامنا في خلقه وتقديره، وتصويره وتدبيره -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، أرضٌ وسماء وما بينهما من أفلاك ونجوم وكواكب، سبحان خالقها ومسيّرها ومصورها ومبدعها ومنشئها، ليس فيها ما يستقلُّ بالخلق ولا بالإيجاد لنفسه ولا لغيره، وليس فيها من يملك مع جبار السماوات والأرض مثقال ذرة، لا إله إلا هو إليه المصير.
ففي الحديث إشارة إلى أنه ما يُبتدأ بالصوم من أجل رمضان حتى يثبت.
"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ"؛ وجاء تفسير الأئمة في معنى فاقدروا له. ورأى الحنابلة أنه إن كان هناك غيم فلا بأس بالصوم، وإنما يُنهى عن الصوم في حالة الصَحو، فلا يصوموا على أنه من رمضان، وأيضًا حملوا النهي عن صوم يوم الشك على أنه إن كان هناك صَحْو، هكذا يقول الحنابلة.
وقال ﷺ: "وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ"؛ أي لا تقطعوا الصوم إذا مرّت تسعٌ وعشرون يومًا حتى تروا الهلال ليلة الثلاثين الذي يكون به الرؤية، فتحول الليلة إلى أول ليلة من ليالي شهر شوال.
"حَتَّى تَرَوْهُ"؛ يعني يُرى فيكم، ما هو كل واحد يراه، من يراه منّا يكفي، ما هو كل واحد منا يرى الهلال. "حَتَّى تَرَوْهُ"؛ ليس المراد رؤية جميع الناس بل رؤية بعض الناس، العدد الذي تعقد به الرؤية، وعرفت فيه الاختلاف بين الأئمة، فإذا ثبت رؤية هلال رمضان بشهادة عدلين فأكثر، وكذلك عدل عند الشافعية سواءً كان صحوٌ أو غيم، وعند الحنفية يكفي أيضًا شاهد إن كان غيم، إن كان هناك غيم في السماء فيكفي شهادة شاهد واحد، أما إن كان صحو فلا يُقبل عند الحنفية ولا الاثنين ولا الثلاثة، إلا أن يستفيض ذلك، إلا أن يشهده عدد كثير.
فيثبت إذًا:
ويروى أنه جاءه ﷺ أعرابي، وقال: إني رأيت الهلال -يعني أول ليلة من رمضان- وقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟"، قال: نعم، قال: "وتشهد أني محمد رسول الله؟"، قال: نعم، قال: "يا بلال أذّن في الناس فليصوموا"؛ فحملوه الذين اشترطوا عدلين على أنه قد شَهِد آخر وهذا هو الثاني، ولكن لم يرد ذلك في شيء من الروايات، فحمله الشافعية على قبول رؤية هلال دخول رمضان بشهادة عدل واحد.
فإذًا؛
وتمسك بتعليق الصوم بالرؤية مَن ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها، ومن لم يذهب إلى ذلك، لأنه يقول: "حَتَّى تَرَوْهُ"؛ خطاب لأناس مخصوصين، فهل يلزم غيرهم؟
فجاءت مذاهب أهل العلم منها لكل أهل بلد رؤيتهم، وذلك ما جاء أيضًا في صحيح مسلم من حديث ابن عباس قال: "ولكنّا لم نرهُ فلا نَزَالُ نَصُومُ حتَّى نَرَاهُ أَوْ نُكْمِلَ العدة ثَلَاثِينَ، فَقُال: أَوَلَا تَكْتَفِي برُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وجَمع في الشَّامِ، فَقالَ: لَا، كذلك مضت السُنّة"؛ أي هم في تلك البلد ونحن في هذه البلد.
والمعتمد أنه يختلف باختلاف المطالع من بلد إلى بلد.
إذًا؛ قيّده الحنفية إذا كان في السماء صحو، إن لم يكن غيم، وأطلق ذلك الشافعية، وكذلك الرواية عن الحنابلة أنه لا فرق بين أن يكون الغيم أو غيره، ولم يرَ الإمام مالك ثبوت هلال رمضان -لا دخوله ولا خروجه- إلا بعدلين، برؤية اثنين.
وجاء قوله ﷺ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فإنْ حالَ بينكمْ و بينَهُ سحابٌ فأكمِلُوا عدةَ شعبانَ ولا تستقبلُوا الشهرَ استقبالًا".
وقد جعل الحنفية أن التعرّض لرؤية الهلال واجبٌ وجوب كفاية أن يتعرض
وأورد لنا حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ"؛ من التقدير، فقالوا معنى "فَاقْدُرُوا لَهُ"؛ يعني: أتموا العدد وأكملوا الثلاثين، كما تدل عليه بعض الآيات، وعلى هذا جماهير الفقهاء.
"فَاقْدُرُوا لَهُ"؛ وعلمت قول الحنابلة أنه من التضييق، قَدَرَ ضَيَّقَ بمعنى؛ ضيّقوا واعتبروه أنه موجود، فاحتاطوا وصوموا.
ففرّقوا بين الصحو والغيم، وقالوا: التعليق على الرؤية متعلق بالصحو فقط، وأما الغيم فله حكم آخر، "فاقْدُرُوا"؛ بمعنى ضيّقوا له، قدِّروه تحت السحاب هذا، ولكن جماهير أهل العلم قالوا: لا، معناه أكملوا العدة ثلاثين.
وأورد أيضًا ابن عمر أن الرسول ﷺ قال: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"؛ أي قد يكون ذلك فالأشهر القمرية، تكون ما بين تسع وعشرين وما بين ثلاثين، "فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ".
وأورد أيضًا حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وفي رواية: "العدد" "ثَلاَثِينَ"، هذا جاء في رواية الترمذي والنسائي؛ وفيه تبيين معنى "فَاقْدُرُوا لَهُ"؛ يعني كملوه ثلاثين يومًا.
وأورد مالك "أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِعَشِيٍّ، فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ حَتَّى أَمْسَى وَغَابَتِ الشَّمْسُ."؛ أنّ العبرة برؤية الهلال عند غروب الشمس.
وجاء أن الناس رأوا هلال الفطر حين زاغت الشمس فأفطر بعضهم، قال: فذكرت ذلك لسعيد ابن المسيب، فقال: رآهُ الناس في زمن عثمان فأفطر بعضهم، وقال عثمان: "أما أنا فَمُتِمٌّ صيامي إلى الليل"، لأنه إذا رؤي بعد الزوال إنما يكون ليلة مقبلة، لا يكون لليلة الماضية.
وجاء عن أبي وائل قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أن الأهلَّة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تُفطروا حتى يشهد رجلان أنهما أهلّاه بالأمس".
"قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ فِي الَّذِي يَرَى هِلاَلَ رَمَضَانَ وَحْدَه: أَنَّهُ يَصُومُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ"؛ في حق من رآه هذا واجب؛ لأنه علم أن هذا اليوم من رمضان، وهكذا يقول به الأئمة كلهم؛ بالنسبة لحق الرائي وإن كان واحد، أو ما تقبل شهادته،
فمَن رآه ومن صدَّق الرائي وجب عليهم أن يصوموا. فالذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم ولا ينبغي له أن يفطر، ويعلم أن ذلك اليوم من رمضان وعليه الأئمة كلهم في حق الرائي.
"وَمَنْ رَأَى هِلاَلَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُفْطِرُ، لأَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَأْمُوناً، وَيَقُولُ أُولَئِكَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَدْ رَأَيْنَا الْهِلاَلَ". "وَمَنْ رَأَى هِلاَلَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ،"؛ ولا أحد رآهُ غيره، فلم يثبت عند الحاكم، فقال الإمام مالك: ما يجوز له أن يفطر، وكذلك يقول أبو حنيفة. "لأَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَ"؛ "اتقوا مواضعَ التُّهمِ".
"عَلَى أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ مَأْمُوناً"؛ يعني: يأتي واحد من أهل الفسق ومن المتساهلين فيقول: أنا رأيته البارحة، أنا رأيت الهلال، ولهذا قال الإمام مالك والإمام أبو حنيفة: إذا واحد رأى الهلال لا تفطر، حتى يراه جمع في حالة الصحو عند الإمام أبي حنيفة، وفي حالة الصحو أو الغيم عند غيره. أما في حالة الغيم؛ فيكفي شهادة رجلين عند أبي حنيفة وغيره. وفي حالة الصحو بشهادة الجماعة.
فيقول: "لاَ يُفْطِرُ"؛ برؤيته وحده.
وجاء عن الشافعي أنه قال: يفطر ويخفيه، وفهمت أن أكثر المذاهب يقولون: لا يفطر حتى يثبت عند الحاكم برؤية عدد، بخلاف رؤية هلال رمضان؛ أنه يصوم يجب أن يصوم لأنه رآه؛ وعليه كل المذاهب في حق رائيه ومن صدّقه.
قال: "وَمَنْ رَأَى هِلاَلَ شَوَّالٍ نَهَاراً فَلاَ يُفْطِرْ وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ هِلاَلُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي."؛ كما تقدم عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.
"قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: إِذَا صَامَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَجَاءَهُمْ ثَبَتٌ أَنَّ هِلاَلَ رَمَضَانَ قَدْ رُئِيَ قَبْلَ أَنْ يَصُومُوا بِيَوْمٍ، وَأَنَّ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَثَلاَثُونَ، فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيَّةَ سَاعَةٍ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ جَاءَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ."؛ يعني: يؤخرونها إلى اليوم الثاني، يصلون صلاة العيد في اليوم الثاني.
رزقنا الله الإنابة والخشية والاِستقامة وبلغنا رمضان، وجعلنا عنده من خواصّ أهله المقبولين فيه، المنظورين بنظر الرحمة والعناية والرضا، ووفّر حظّنا من المغفرة والرحمة والعتق من النار، والعتق من العذاب، والعتق من الذنوب، والعتق من الاِلتفات إلى ما سواه -تبارك وتعالى- والتعلق بمن عداه، ورزقنا وإياكم الاستقامة وأتحفنا بأنواع الكرامة، ودفع عنا وعنكم وعن الأمة جميع الشرور من حيث أحاط بها علمه في جميع الأمور، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
11 رَجب 1442