(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، تتمة باب ما لا يَجب منه الُوضُوء، وباب ترك الوضوء مما مسّته النار.
فجر الثلاثاء 16 ذي القعدة 1441هـ.
باب مَا لاَ يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ
54 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَنَّطَ ابْناً لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
55 - قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ في الْقَيْءِ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لاَ وَلَكِنْ لِيَتَمَضْمَضْ مِنْ ذَلِكَ وَلْيَغْسِلْ فَاهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ.
باب تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ
56 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
57 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: "أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ - نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
58 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ، أَنَّهُ تَعَشَّى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
59 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَازِنِىِّ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَكَلَ خُبْزاً وَلَحْماً، ثُمَّ مَضْمَضَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
60 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: "أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا لاَ يَتَوَضَّآنِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ".
61 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ يُصِيبُ طَعَاماً قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ أَيَتَوَضَأُ؟ قَالَ: "رَأَيْتُ أَبِي يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلاَ يَتَوَضَّأُ".
62 - وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: "رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَكَلَ لَحْماً، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
63 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دُعِيَ لِطَعَامٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
64 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ: "أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَاماً قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَا هَذَا يَا أَنَسُ أَعِرَاقِيَّةٌ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَصَلَّيَا وَلَمْ يَتَوَضَّآ".
الحمدُ للهِ على نعمةِ الدينِ والملةِ، وصلى اللهُ وسلمَ وبارك َوكرمَ على سيدِنا محمدٍ إمامِ اهلِ القِبْلة، صلى اللهُ وسلمَ وبارك عليهِ، وعلى آلهِ وصحبِهِ، ومَنْ سَلَكَ سُبُلَهُ، وعلى آبائِهِ وإِخوانِهِ مِنَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ، الهُداةِ الأَدِلَّةِ، وعلى آلِهِم وأصحابِهم وتابِعيهِم والملائكةِ المقرَّبينَ، وجميعِ عبادِ اللهِ الصَّالحينَ، وعلَينا معَهُم وفيهِم، إنَّهُ اكرمُ الأكرمِين وأرحمُ الرَّاحِمِين.
ويذْكُرُ الإمامُ مالكٌ -عليهِ رحمةُ اللهِ تباركَ وتعالى- "عَنْ نافعٍ ، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ" -وهذا مِنْ أعظمِ الأسانيدِ؛ (روايةُ مالكٍ عَنْ نافعٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ)- "أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ حنَّطَ ابنًا لسعيدٍ بنِ زيدٍ" -عليهِ رحمةُ اللهِ تباركَ وتعالى- أحدُ المبشَّرينَ بالجَنَّةِ، ومعَهُ ولدٌ اسمُهُ عبدُ الرَّحمنِ، تُوُفِّيَ فحنَّطَهُ ابنُ عُمَرَ، حنّطه ايْ: طَيَّبَهُ بالحَنُوطِ، ومايُعَدُّ من الطِّيبِ للمَيِّتِ يُقالُ له: حَنُوط، بمعنى أنَّهُ تَولَّى تطْييبَهُ، ثُمَّ "حَمَلَهُ" -حَمَلَ المَيِّتَ- "ثُمَّ دخلَ المسجدَ، فصلَّى ولمْ يتوضَّأ" مُشيرًا إلى هذا الأثَرِ سيِّدُنا مالك: انَّ العملَ على غيرِ ما جاءَ في روايةِ انَّ "مَنْ غسَّلَ مَيِّتًا فلْيَغْتَسِلْ، ومَنْ حَمَلَهْ فلْيتوضَّأْ"، فلَمْ تختلفْ عنهُ الروايةُ في أنَّ حَمْلَ الميِّتِ لايوجِبَ الوُضوءَ، ولا يُسَنُّ، ولكنْ في تغسيلِ الميِّتِ اختلفَتْ الروايةُ عن مالكٍ،
فذاكَ الحديثُ الذي هوَ عندَ أبي داوُد "مَنْ غَسَلَ ميِّتاً فلْيغتسلْ ومَنْ حملَهُ فلْيتوضأْ" كانَ العملُ على خِلافِ ذلكَ وحمَلَهُ من حمله على الاستِحبابِ لا على الإيجابِ فهذا هوَ قولُ جمهورِ الفُقهاءِ.
ويروى أيضًا عنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عبَّاسٍ: أنَّهُما كانَا يأمرانِ غاسِلَ الميِّتِ بالوُضوءِ، هذا حُكْمُ مَنْ غَسَلَ الميِّتَ او حَمَلَهُ، ووَسَّعَ بعضُهم ذلكَ فيمَنْ مسَّهُ.
"قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ في الْقَيْءِ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لاَ.."
يقولُ: "باب تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ"، مشيرًا إلى مَا وقعَ مِنَ الخِلافِ في عهدِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ مِنَ الوُضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّارُ، وعدَّدَ الرِّواياتِ الإمام مالك هُنا في المُوَطَّأِ مرجِّحًا أنْ: لا وُضوءَ ممَّا مسَّتْهُ النَّارُ، وعليهِ بعدَ ذلكَ جماهيرٌ مِنَ العُلَماءِ وَالفُقَهاءِ، الَّا أنّ:
واستقرَّ الأمرُ على ذلكَ كما أشارَ إليهِ في بعضِ الرِّوايةِ، فذكرَ لنَا الرِّوايةَ الأولى عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- ""أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ" اللحم الذي على كتِفِها "ثمَّ صلى ولمْ يتوضأ" ﷺ، وهذا الحديثُ في الصحيحينِ وغيرِهما. وجاءَ "عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أنَّهُ خرجَ معَ رسولِ اللهِﷺ عام خيبر" وهذه في السنة السابعة من الهجرة "حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ" وهي من أدنى خيبر، قريبًا من خيبر "نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ" أي: يريدون العَشاءَ في ذلك الوقتِ "فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ" يعني: بُلِّلَ بالماءِ، "فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَكَلْنَا"، والسَّوَيقُ مِنَ الخبزِ الَّذي مسَّتْهُ النَّارُ، ثمَّ يُدَقُّ، وأمرَ بتَثْرِيَتِهِ ، فهذا صارَ عِشاءهم بعدَ فَتْحِ خيبرَ، فقدَّموا إليهِم، لا عندَهُم فول، ولا عندَهُم عَسَل، ولا جُبْن، ولا حَلاوة، لكنْ اأمَرَ انْ يُثَرٌَى بالماءِ، فثريّ بالماء وتعَشَّى هو ومنْ معَهُ منَ الصحابةِ، "ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
فكانَ معَ اشتغالِهِ بالارتحالِ أخّرَ صلاةِ العصرِ، حتى كانَ في وقتٍ بيقينٍ -بعدَ مايصير ظلُّ الشَّيءِ مِثْلَيْهِ وأكثَرَ- نزلَ فصلَّى، ثُمَّ دعا بالازْوادِ لاَجْلِ عَشاءِ الجيشِ، يتعشَّونَ في طريقِهم ومَسْرَاهُمْ، فجمعوا ماحصَّلوا اِلَّا السَّوَيْق معَهْم، جَمَعُوه، ثُمَّ أمَرَ اَنْ يُثْرَى بالماءِ ليتَعشَّى، وتعشّوا معه، دخل المغرِبُ، أذَّنُوا وأَقامُوا، وصلَّى بهم ﷺ صلاةَ المغرِبِ، "فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ".
وكذلك جاءَ عن رَبيعةَ بنِ عبدِ اللهِ:" أنه تعشَّى معَ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ،ثم صلَّى ولمْ يتوضَّأْ". وكذلكَ أورَدَ حديثًا عنْ عُثمانَ بنِ عفَّانَ: "أنٌَه أكلَ خبزاً و لحماً ثمٌَ مضمضَ و غسَلَ يديهِ و مسحَ بهِما وجهَهُ ثمٌَ صلٌَى ولم يتوضأ ". ثُمَّ ذكَرَ لنا عنْ عليٍّ بنِ أبي طالبِ، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسِ: "كانا لايتوضَّآنِ مِمَّا مسَّتِ النَّارُ". ثُمَّ ذكَرَ لنا أيضًا: عنْ عامرٍ بنِ ربيعةَ انَّهُ لمَّا سُئِلَ ولدُهُ: "الرَّجُلُ يتوضَّأ للصلاةِ ثُمَّ يصيبُ طعامًا مسَّتْهُ النَّارُ هلْ يتوضَّأُ؟ قالَ: رأيتُ أبي -يعني عامرَ بنِ ربيعةَ- يفعلُ ذلكَ ولا يتوضَّأ". ثُمَّ ذكرَ لنا روايةَ أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضيَ اللهُ عنهُ عنْ سيّدِنا جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ قال: "رأيتُ أبا بكرٍ الصِّدِّيقِ أكلَ لحمًا، ثُمَّ صلَّى، ولمْ يتوضَّأ".
وممَّن رواهُ عنْ جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ أيضًا، رواهُ لسيدِنا عطاءٍ بنِ أبي رباحٍ، فقد كانَ مكحول يتوضَّأُ ممَّا مسَّتِ النَّارُ، فحدَّثَهُ عنْ عطاءٍ بنِ أبي رباحٍ، عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: "رأيتُ أبا بكرٍ الصِّدِّيقِ أكل لحمًا، ثُمَّ صلَّى ولمْ يتوضَّأْ"، فتركَ مكحولٌ الوضوءَ ممَّا مسَّتِ النَّارُ وقالَ لهُ: لِمَ تتوضَّأُ مِمَّا مسَّتْهُ النَّارُ؟ قالَ: حدَّثَني عنْ أبي بكرٍ ولئِنْ يقعُ أبو بكرٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، أخَفُّ عليهِ وأهْوَنُ مِنْ أَنْ يُخَالِفَ رسولَ اللهِ ﷺ، ماذا بعد أبو بكرٍ وعُمَر؟ هل أنا سآتي باحتياط أحسن منهم؟!.. فلهذا كان الإمامُ مالكٌ وغيرُه يقولون: إنَّه إذا تعدَّدتِ الرِّواياتُ عنِ رسول الله ﷺ في أمرٍ، فمالَ أبو بكرٍ وعمرُ إلى أحدِهما، فالقولُ قولُهم، وهم أعلمُ بسُنَّةِ رسولِ الله ﷺ ، وأحرصُ الأمَّةِ على اتِّباعهِ. فهكذا لئن يَخِرَّ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، أخفُّ عليهِ أنْ يخالفَ أمرَ رسولِ اللهِ في أمرٍ مِنْ الأمورِ، فتركَ الوضوءَ ممَّا مسَّتِ النَّارُ.
وهكذا حدَّثنا عن ابن المُنكَدِرِ -في الحديثِ المُرسَل- "أنَّ رسول الله ﷺ دُعِيَ لطعامٍ، فقُرِّبَ إليه خبزٌ ولحمٌ، فأكلَ منهُ، ثمَّ توضَّأ، ثمَّ صلَّى، ثمَّ أُتِيَ بِفَضْلِ ذلكَ الطَّعامِ، فأكلَ منه، ثمَّ صلَّى، ولم يتوضَّأْ". وهكذا يحدِّثُنا أيضًا: "أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْب" يُرَحِّبان ويهنئانه على قدومِه المدينةَ من العراقِ "فَقَرَّبَ لَهُمَا طَعَاماً قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ"، فرحَ بزيارتِهم وقدَّمَ لهُم الطعامَ الذي عندَه "فَأَكَلُوا مِنْهُ، فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ"، ولعلّه قام يتوضأ تجديدًا للوُضوءِ، لأنَّ الوُضوءَ على الوُضوءِ نورٌ، ولكنْ لمَّا جاءَ بعدَ الأكلِ ممَّا مسَّت النَّارُ، كانت فيه شُبْهَةُ أنه يرى الوضوءَ ممَّا مسَّت النَّارُ، فأَنكَرَا عليه سيِّدُنا طلحةُ، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ، فقالا لهُ: "أعِراقيَّةٌ؟!" جِئْتَنَا مِنَ العراقِ بهذا العلمِ في هذه المسألةِ؟ استفدنا،جئت بشيء من العراقِ؟! وهُم أصحابُ زينِ الوجودِ ﷺ، "أعراقيَّة؟ فَقَالَ أَنَسٌ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ" يعني: أنه وافقَهُما، والحُكْمُ عنْدَه حكْمُهُمَا انَّه لا يلزَمُ الوُضوءُ، ولكنَّه كانَ مُجدِّدًا لوُضوئِه، كما كان يحرُصُ على تجديدِ الوُضوءِ لكلِّ صلاةٍ، سيدُنا عمروسيدُنا عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وهم على وُضوءٍ، إذا حضرَ وقتُ فريضةٍ، قاموا يتوضَّؤون أيضًا، ويقرؤونَ قولَه تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..) [المائدة:6] واللهُ أَعلَمُ.
رزقنا اللهُ الإيمانَ واليقينَ والإخلاص والصدقَ والاتباعَ، ووقانا كلَّ سوءٍ أحاطَ بعلمهِ في الدَّارَين، بسِرِّ الفاتحةِ، إلى حضرةِ النبيِّ ﷺ.
17 ذو القِعدة 1441