(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها.
فجر الأحد 25 جمادى الآخرة 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا
723- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ.
724- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَناً فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ -قَدْ سَمَّاهُ- فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَهُمْ يَسْقُونَ فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَهُوَ هَذَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ.
725- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا، أَنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَهَا، كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ جِهَادُهُ، حَتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْه.
726- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ، يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلاً مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ دَعْهُ وَلاَ تَأْخُذْ مِنْهُ زَكَاةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَأَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَكَتَبَ عَامِلُ عُمَرَ إِلَيْهِ يَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خُذْهَا مِنْه.
الحمدُ لله مُكْرِمنا بشريعته العظيمة القويمة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على المُبلِّغ عن الله أحكامه الشَّريفة الفخيمة. اللَّهم صلَّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد الذي آذنت بتعظيمه وتكريمه، وعلى آله وصحبه ومَن سار في سبيله قاصدًا وجهك الكريم، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورُسلك أهل التكريم والتعظيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وعبادك الصَّالحين أهل الحظّ العظيم وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم.
وبعدُ،
فيواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في الموطأ ذِكرَ الأحاديث المُتعلقة بالزكاة. يقول: "باب مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ"؛ أي: المفروضات وهي الزَّكوات "والتَّشْدِيدِ فِيهَا" وتعظيم أمرها؛ لأنها ركنٌ من أركان دين الله -تبارك وتعالى-، والزكاة قنطرة الإسلام، وهي من أسباب تطهير الأنفس من الشُّحّ، وهي مجال التَّكافُل والتَّكامُل بين أفراد المُسلمين.
قال: "باب مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الصَّدَقَاتِ والتَّشْدِيدِ فِيهَا"، ويروي لنا عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله تبارك وتعالى عنه- أنه "قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ."
○ وفي لفظٍ: لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله ﷺ لجالدتُهم عليه.
○ وفي لفظٍ: لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونه لرسول الله ﷺ لجالدتُهم عليه أو لجاهدتُهم عليه.
○ وفي لفظٍ قال: لو لم أجد إلا الشّجر والحجر لقاتلتهم به، لأُقاتلن مَن فرّق بين الصّلاة والزّكاة، أما أن يَنقُص الدّين وأنا حيٌّ فلا.
وقال سيّدنا عُمَر: "ما هو إلا أنْ رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكرٍ لقتالهم؛ فعَلمْت أنه الحقّ". وكان ذلك من جملة الحقّ في مَن منع الزّكاة وكانت له شوكة يقاوم بها فيُقاتله الإمام.
"قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً"؛ جاء لأجل المُبالغة في التّعظيم وأن العِقال ليس من شؤون الزّكاة ولكن ما تخلو الإبل من العُقِل لمّا تُسلَّم، تُسلّم معقولة؛ أي بعُقُلِها. ويأتي في معنى العِقال:
○ أنه زكاة العام؛ زكاة كلّ عامٍ عِقالًا. وكلّ مرة يؤخذ فيها الزّكاة، يُقال فيها عِقال.
○ ويأتي في معنى العِقال: القلوص الفتية أيضًا.
○ ويأتي في معنى العِقال: أنه إذا أخذ الجِمال قيل أخذ عِقالًا. وإذا أخذ القيمة قيل: أخذ نقدًا. فالنقد مُقابل العِقال.
ولكن الأصح في كل هذا أن المُراد من قول أبي بكرٍ: المُبالغة والتّعظيم للأمر وأنه لو كان أمر حقير لم يخرجوه في الزّكاة؛ لقاتلتهم عليه. وقالوا لسيّدنا عُمَر: كيف تقاتلهم؟ وقد قال ﷺ: "أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه …. فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، ….". قال: هذا من حقه؛ الزّكاة حقّ المال، هذا من حقّ لا إله إلا الله.
مِن هُنا مَن امتنع عن أداء الزّكاة:
○ إن كان جاحدًا بوجوبها فقد كفر؛ لأن وجوبها معلومٌ من الدِّين بالضرورة.
○ وإن لم يكُن جاحدًا بوجوبها وهو تحت قبضة الإمام والحاكم فعليه أن يأخُذ منه الزّكاة.
○ فإن كان خرج عن قبضة الحاكم وتذرّع بشوكة له؛ فيُقاتله؛ يُقاتله الإمام ويُقاتله حاكم المُسلمين حتى يؤدي الزّكاة، فيأخُذ منه مقدار الزّكاة.
وأخذوا يتأوّلون وهكذا فساد التأويل عند أهل التّضليل، مِن كلّ مَن لم يأخُذ علمه عن سندٍ قويمٍ جليل. فتأوّلوا آيةً يريدوا أن يمتنعوا فيها عن أداء الزّكاة لخليفة رسول الله ﷺ، وقالوا: إنّ الله قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ …) [التوبة:103] ولم يؤمر بذلك إلا رسول الله.. فليست إلا لرسول الله، فإن صلاته سكن لنا. أما أبو بكر ما قال الله عنه صلاته سكن لنا، فأرادوا أن يلعبوا بالآيات بمفاهيمهم المغلوطات الخاطئات! وخالفوا بذلك فهم الصّحابة الأجلّاء والقادة النُّبلاء، الذين كانوا بجانب رسول الله ﷺ وقت الوحي وتنزليه وهم بالفهم أولى -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم-. وهكذا لم يزل الخبل في التأويل يُضل أهل التّضليل ويَحيد بهم عن سواء السّبيل جيلًا بعد جيل. عصمنا الله في وجهاتنا ونياتنا وعلومنا وأعمالنا، ورزقنا المُتابعة لإمامنا وهادينا وداعينا ودالِّنا ومُعلمنا ﷺ.
"قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً"؛ تعظيمًا من سيّدنا أبي بكر لِشأن الزّكاة "لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ." وجاء في الحديث عند الحاكم في الإكليل، وعن عبد الرّحمن الظفري وكان من الصّحابة قال: بعث رسول الله ﷺ إلى رجُلٍ من أشجع لتُؤخذ صدقته فأبى أن يُعطيها، فردّه إليه الثانية فأبى، ثم ردّه إليه الثالثة وقال: إنْ أبى فأضرِب عُنقه. يقول عبد الرّحمن الظفري قلت لحكيم يعني بن عبّاد: ما أرى أبا بكر الصّديق -رضي الله عنه- قاتل أهل الرِّدة إلا على هذا الحديث، قال: أجل. والحديث استدل به مَن قال إن للإمام أخذ الزّكاة مُطلقًا. كما قال به المالكية، أو زكاة الأموال الظاهرة فقط كما قال به الحنفية.
يقول: "لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ." وفي لفظِ: والله لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-. وفي لفظٍ جاء: "عناقًا"، ما يؤخذ العَناق في الزّكاة ولكن إشارة إلى المُبالغة، كما يقول: ما أترك لك من هذه الشّاة ولا شعرة، وما المُراد إلا المُبالغة والتّشديد في الأمر، فكذلك خرج قول سيِّدنا أبي بكرٍ -رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه-. فكما أن منعها أمرٌ عظيمٌ وقال تعالى: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [فصلت:6-7]، فوصفهم بعد الشِّرك بمنع الزّكاة. وكذلك ذكر قولهم وهم في النّار يتعذبون، إذا قيل لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) يمنعون الزّكاة، (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر:42-47]، فمنعُها أمرٌ شنيعٌ وعظيم، وما خالطت الزّكاة مالًا إلا محقته، وما هلك مالٌ في برٍ ولا بحرٍ إلا بمنع الزٍكاة، "حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة".
يذكرون عن بعض الأخيار يُسمى عقيل ومعه بعض التِّجارة يتَّجر فيها، ثم جاء له رساله من وكيله أنه أرسل له كميةً من السُّكر في باخرة، ثم جاءت الأخبار أن الباخرة هذه المذكورة غَرِقَت، فجاء بعض النّاس إلى عقيل وقالوا له: قد ذهب سُكرك في البحر وغرق، قال: أبدًا سُكر عقيل ما يغرق! قالوا: أنت مجنون أو بعقلك؟! قال: أقول لكم سُكر عقيل ما يغرق! نقول لك الباخرة التي أرسلوا سُكرك فيها غَرِقَت كيف! السُّكر يذوب إيش بيبقى شيء منه!! قال لهم: أقول لكم سُكر عقيل ما يغرق.. قالوا: من أين تجيب هذا الكلام؟ النَّبي قال: "حصِّنوا أموالكم بالزكاة"، قال: أنا حصّنته. كان يُخرِج الزَّكاة مرتين في كُل سنة وكان كثير الصَّدقة. قالوا: مسكين الرَّجُل ذهب عقله هكذا وراء ماله.. فجاء الخبر والرِّسالة من وكيله يقول: إننا اختلفنا مع أهل تلك الباخرة في الثّمن وأخرجنا السُّكر منها ونقلناه في باخرة ثانية. قال: شفتوا!! قلت لكم سُكر عقيل ما يغرق، قال: هذا كلام ليس من عندي جبته من كلام النَّبي قال: "ما تلف مال في برّ أو بحر إلا بمنع الزكاة" داري أنني أخرجتها وحطيتها في محلّها. وقال: "حصِّنوا أموالكم بالزكاة". قال: أنا حصّنت مالي بالزكاة، ووصل السُّكر سالم كُلّه بجميع كميّته. وهكذا شأن الموقنين بكلام الله وكلام رسوله، صلوات ربي وسلامه عليه.
ويقول: كما أنّ منعها أمرٌ شنيعٌ عظيم، فكذلك أخذ الآخذ منها من غير استحقاق أمرٌ شنيع وأمرٌ عظيم؛ فلا يجوز له أن يأخذها وهو غير مُستحق لها، إن لم يكُن من الأصناف الذين ذكرهم الله -سبحانه وتعالى- في كتابه؛ فلا حقّ له في الزّكاة.
وفيه جاءنا: "عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله تعالى عنه- لَبَناً فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ"؛ يعني: أحضره له على شكل هدية أعطاه إياه، من أين جئت بهذا اللبن؟ من أين حصَّلّت هذا اللبن؟ "فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ"؛ أي: مرّ "عَلَى مَاءٍ -قَدْ سَمَّاهُ- فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَهُمْ"؛ يعني: رُعاة هذه النَعَم "يَسْقُونَ" يعني: يسقون الأنعام من هذا الماء "فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي"؛ أي: وعائي الذي أحمله -قِربة معه- فهو هذا. قال: هه!! تأخذه من إبل الصَّدقة ولست من أهل الصَّدقة!! "فَأَدْخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ" أدخل إصبعه في فمه حتى استقاء اللبن، مع أنه شربه ولم يكُن يعلم.
وفيه أنه لمّا استطابه، رجع إلى نفسه قال: لماذا له طعم لا كاللبن العادي؟ فيه شيء هذا! يا فلان من أين جئت باللبن؟ فسأله عنه لأنه كان دقيق المُحاسبة لنفسه وأنكر طعمه، من أين هذا؟ ليس على ما أطعمه من اللبن المُعتاد، فيه شيء، فعلم أنه خارج عن المسلك المعلوم. ولم يرَ أن هذا أهلٌ للصدقة فتكون هدية منه له، كما مضى معنا في قصة بريرة، فرأى أن أخذه له كان خارجًا عن الورع وعن الاحتياط، وأنه ما كان ينبغي له أن يشرب شيئًا من ألبان الصَّدقة وهي حق الفُقراء وحق المُحتاجين، وليس هو من الفُقراء.
فرأى أن هذا اللبن الذي أخذه، أخذه بغير حق فأخرجه -عليه الرضوان-. فهذا الحذر من شُرب ألبان الصَّدقة، فكيف بأخذ الصَّدقة والزَّكاة في غير أهلها؟ ولغير مُستحقها؟ فهو أمر خطير. كما أن الأمر خطيرٌ في منع الزّكاة، فكذلك في أخذها لغير أهلها. فرأى سيِّدنا عمر أن الذي سقاه هذا اللبن ليس ممَن تحلّ له الصَّدقة، إما لكونه غني أو لكونه مملوك، "فَاسْتَقَاءَهُ" وخرّجه من بطنه لئلا ينتفع به. وهذا غاية الورع. وهل يتوقع الرّواة أنه أعطى مثل هذا اللبن أو قيمته من صدقته لبيت المال، ردّه على المساكين، أعطاه المساكين مقابل ما بقي أو دخل إلى بطنه من ذلك اللبن. وهذا من ورع الصِّدّقين.
وجاء مثل هذا في الحديث الصَّحيح عن سيِّدنا أبوبكر الصِّديق في خصوص الزَّكاة، ولكن في أمر التُّورع -في أمر الورع والبُعد عن الشُّبهة-، وروت السيِّدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنه كان لأبي بكر غُلام، يُخرِج له الخراج ويأكل منه؛ يعني بينه وبينه اتفاق يروح يشتغل ويحضر نصف كسبه يعطيه لسيِّدنا أبي بكر ونصف له، وجاءه يومًا بشيء من الطعام ووافق من أبي بكر جوعًا فأكل منه لُقمة، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ لأن عادته يسأله، قال له: لا، قال: كنت تكهّنت لإنسان في الجاهلية أيام قبل الإسلام، ادّعيت أني كاهن وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فمررت بعد ذلك عليهم وعندهم زواج فأعطاني هذا! قال: هه ما عرفوك إلا من طريق الكهانة!! وهذا يتصل بحلوان الكاهن. هو شوّش على سيِّدنا أبو بكر وإلا فالنَّاس إذا عندهم زواج من جاءهم يطعمونه، لا لكونهم عرفوه من جهة الكهانة، هو جاء بهذه الشُّبهة.. قال: فأدخل أبو بكر إصبعه في فيه فقاء كُلّ شيء في بطنه.
هذه أوردها الإمام ابن حجر في فتح الباري، وجاء في رواية أنه لم يزل يتهوّع حتى جاء الجيران، قال: ما بال خليفة رسول الله؟ قال: طعامٌ دخل بطني من غير حِلّه فلا بُدَّ أن أُخرجه. قالوا: استعن عليه بشرب الماء حتى يُساعدك على الإخراج، فخرج. فقالوا: كدت تقتل نفسك! قال: لو لم يخرج إلا بإخراج روحي لأخرجتُه، بعد ما سمعته من رسول الله ﷺ: "كل لحمٍ نبتَ من سُحت فالنار أولى به"، وأنا أخشى أن ينبت فيّ شيء من هذا الطّعام فتكون النَّار أولى بي. هذا ورع الصِّدّيقين.
وجاء في ما رواه عبد الرزاق بسند صحيح، أن جماعة من الصَّحابة نزلوا بماء، جعل النعمان يقول لهم: يكون كذا، فيأتونه بالطعام فيُرسله إلى أصحابه فلبغ أبا بكر، فقال: أراني آكل كهانة النعمان منذ اليوم! ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءَه. وجاء عن أبي سعيد -رضي الله عنه- في رواية بن أبي شيبة: كُنا ننزل رِفاقًا، فنزلت في رفقةٍ فيها أبي بكر -رضي الله عنه- على أهل بيتٍ فيهن امرأةٌ ومعنا رجُل، فقلت: أُبشرّكِ أن تلدي ذكرًا، قالت: نعم فجعلها سجاعًا، فأعطته شاة فذبحها وجلسنا نأكل منها، فلمّا عَلِم أبو بكر بالقصة قام فتقيأ كُلّ شيء أكله؛ تربية مُحمَّد ﷺ.
وذكر سيِّدنا الإمام الغزالي أقسام الورع:
فورع عموم المؤمنين، إلى ورع الصَّالحين، إلى ورع المُتقين، إلى ورع الصِّدّيقين. وبسط فيها الإمام الغزالي في (الإحياء) -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فننظُر أنفسنا لا نخرج عن الدّرجة الأولى، ودرجات الصَّالحين والمُتقين. قالوا: لا يكون المُتقي مُتقي حتى يدع ما لا بأس به خوفًا مما به بأس. فالله يرزُقنا نصيبًا من تقواه ومن رعاية حقه في مطعمنا ومشربنا وملبسنا ومسكننا وأخذنا وعطائنا، آمين.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا، أَنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"؛ أي: حقًّا من الحقوق التي يجب أداؤها، والمُراد هُنا الزّكاة "فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَهَا، كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ جِهَادُهُ"؛ أي: قتاله "حَتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْهُ"؛ يعني: كما فعل سيِّدنا أبو بكر ووافقه الصَّحابة بعد أن خالفوه في البداية، ثم وافقوه وتمّ الاجماع منهم على ذلك بعد ذلك. وكان سببًا للنُصرة أنهم في البداية أشكل عليهم أنهم كيف يعملون هذا وهم أمامهم جبهات يقاتلونها؟..
قالوا له:اترك مانعي الزكاة الآن، عندنا اليهود نُقاتلهم والنَّصارى، وعندنا المُشركين هؤلاء، وعندنا المُرتدين، وزيادة عليهم بتقاتل مانعي الزكَّاة.. ستضعُف قوتنا وأين نصل؟ قال: "لأُقاتلن من فرق الصَّلاة والزَّكاة ولو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه". فلمّا أرسل يُقاتلهم دبّ الرُّعب في الأصناف كُلها الباقية، قذف الله الرُّعب في قلوبهم وكان النَّصر بسبب ذلك من الله -تبارك وتعالى-. وهكذا شأن الصَّادقين مع الله.
"قال مَالِكٍ: بَلَغَهُ، أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَيْهِ، يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلاً مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ"؛ يعني: لم يكن يجحد وجوب الزّكاة ولكن ما يريد يُسلمها للأمير ما يريد أن يُسلّمها للساعي حق الأمير، "فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ دَعْهُ" اتركه "وَلاَ تَأْخُذْ مِنْهُ زَكَاةً مَعَ الْمُسْلِمِينَ."، وكان هذا من عقل وسياسة سِّيدنا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ أنه يُميزه عن بقية المُسلمين، فيعرف أن كُل المُسلمين سلّموا، وهو وحده الآن يُخاطب نفسه بنفسه، يرجع على نفسه باللوم. "فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ"، الأمر وعَظُم عليه، قال: أنا يتركنا وحدي وما أنا كما الخلق وما أنا مع المُسلمين.. إيش من دين حقي هذا! ورجع أحضر الزّكاة. كتب لسيِّدنا عُمَر الرَّجُل أحضر الزّكاة. قال: خلاص "خُذْهَا مِنْهُ".
وإنما قال هذا الكلام سياسة منه وترفُقًا وتلطُفًا في الوصول إلى أداء حق الله -رضي الله تعالى عنه-. فبلغ ذلك الرَّجُل أنه قال: اتركوه خلوه وحده، خذوا من المُسلمين واتركوا هذا، فاشتدّ الأمر عليه، أدى بعد ذلك زكاة ماله، "فَكَتَبَ عَامِلُ عُمَرَ إِلَيْهِ يَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خُذْهَا مِنْه"؛ اقبلها منه. ففيه:
ويتكلم بعد ذلك على خرص الثِّمار، ويطول فيها الكلام.
نسأل الله أن يكتُبنا في ديوان أهل الصِّدق معه والزّكاة، وأهل النَّقاء والخشية منه تعالى في عُلاه، وأهل الطّمع فيما عنده وأهل رجاه، وأن يُثبتنا في ديوان خاتم أنبياه، ويهدينا بهُداه ويجعلنا ممَن اتبعه واقتفاه، وأن يُصلح شؤوننا والمُسلمين أجمعين في ظاهر الأمر و خفاياه بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
26 جمادى الآخر 1442