(536)
(230)
(574)
(311)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الزكاة، باب النهي عن التَّضييق على الناس في الصدقة، وباب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذها.
فجر السبت 24 جمادى الآخرة 1442هـ.
باب النَّهْي عَنِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ
718- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: مُرَّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِغَنَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَرَأَى فِيهَا شَاةً حَافِلاً، ذَاتَ ضَرْعٍ عَظِيمٍ، فَقَالَ عُمَرُ مَا هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالُوا: شَاةٌ مِنَ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْطَى هَذِهِ أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ، لاَ تَفْتِنُوا النَّاسَ، لاَ تَأْخُذُوا حَزَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، نَكِّبُوا عَنِ الطَّعَامِ.
719- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلاَنِ مِنْ أَشْجَعَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ يَأْتِيهِمْ مُصَدِّقاً، فَيَقُولُ لِرَبِّ الْمَالِ: أَخْرِجْ إِلَيَّ صَدَقَةَ مَالِكَ، فَلاَ يَقُودُ إِلَيْهِ شَاةً، فِيهَا وَفَاءٌ مِنْ حَقِّهِ إِلاَّ قَبِلَهَا.
720- قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا، وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، أَنَّهُ لاَ يُضَيَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي زَكَاتِهِمْ، وَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا دَفَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا
721- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إِلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِين، فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ".
722- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الْوَالِي، فَأَيُّ الأَصْنَافِ كَانَتْ فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْعَدَد، أُوثِرَ ذَلِكَ الصِّنْفُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْوَالِي، وَعَسَى أَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إِلَى الصِّنْفِ الآخَرِ، بَعْدَ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ أَوْ أَعْوَامٍ، فَيُؤْثَرُ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْعَدَدِ حَيْثُمَا كَانَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةٌ مُسَمَّاةٌ، إِلاَّ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الإِمَامُ.
الحمدُ لله مُكْرِمنا بأحكام دينه، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته وأمينه، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه أوّل واعٍ لبلاغه وتبيينه، وعلى مَن تبعهم بإحسان بصدقه وإخلاصه ويقينه، وعلى آباءه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم والتَّابعين، وعلى ملائكة الله المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- ذِكر الأحاديث المُتعلقة بالزّكاة، يقول: "باب النَّهْي عَنِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ"، يُبيّن منهج الرَّحمن -سبحانه وتعالى- وشريعته أنها قامت على أمرٍ وسط ورفقٍ بعباد الله -تبارك وتعالى- في كُلّ أمرٍ ونهي، فضلًا من الله -جلَّ جلالُه- ولُطفًا بعباده وخلقه. يقول: في هذا الحديث "عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ-رضي الله تعالى عنها- أُمُّ المؤمنين، قالت: مُرَّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- بِغَنَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ"، ففيه:
وهكذا واجب الولاة والأمراء فيما ولّاهم الله جلَّ جلاله.
فمرَّ عليه "بِغَنَمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَرَأَى فِيهَا" وسطها "شَاةً حَافِلاً"؛ يعني مُجتمع لبنها، "ذَاتَ ضَرْعٍ عَظِيمٍ" ثديٍ عظيمٍ حسنة من أخيار الأغنام، تدُّر باللبن، "فَقَالَ عُمَرَ -رضي الله عنه-: مَا هَذِهِ الشَّاةُ؟" من أين جاءت هذه الشَّاة؛ مُميزة عنهم؟ "فَقَالُوا: شَاةٌ مِنَ الصَّدَقَةِ"؛ واحدة من شاة الصَّدقة، قال: "مَا أَعْطَى هَذِهِ أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ"؛ يعنى: سلّم أهلها مثل هذه الممتازة من بين الغنم، كثيرة الدّر واللبن، ويسلمونها في الصّدقة برضا وطيب نفس منهم؟ "مَا أَعْطَى هَذِهِ أَهْلُهَا وَهُمْ طَائِعُونَ"؛ يعني: لا بُدَّ أن يكون كرهوا إعطاء مثلها، لِمَا فيها من كثرة اللبن وعِظم الضَّرع، فهي من خيار الأموال، ولكن لم يأتِ بعد ذلك أنه أمر برَدِها، ويحتمل أنه أُخبر أن أهلها أتوها طَائِعُينَ فرحين بذلك، ولم يفرض عليهم المُصدِّق ولا الذي خرج إليهم السّاعي أن يأخذ هذه ولكنهم آتوها، وأن عامة أغنامهم كانت مثل هذه فآتوها عن طواعية نفس ورغبة.
وقال سيِّدنا عُمَرَ في هذا البيان يُبين الأمر الذي عَلِمَه في شأن الزَّكاة من رسول الله ﷺ وواجب الأخذ فيها، قال: "لاَ تَفْتِنُوا النَّاسَ"؛ أي: تختَبِروهم؛
"لاَ تَفْتِنُوا النَّاسَ، ولاَ تَأْخُذُوا حَزَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ"؛ حَزَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ: ما حزروه لأنفسهم من كرائم الأموال من مثل اللَّبون، ومثل الأكول -كما مرَّ معنا- التي تُسمَّن وتُعدّ لأكلهم حَزَرَاتِ. وفي لفظٍ حرزات؛ أي: ما أحرزوه لأنفُسهم من كرائم الأموال. حَزَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ؛ يعني كرائم أموالهم.
"نَكِّبُوا عَنِ الطَّعَامِ"؛ يعني: تنحوا وابتعدوا عَنِ الطَّعَامِ، عن ما يكون فيها طعامهم إما سمنوها ليأكلوها وإما فيها درٌّ ولبن يَطْعَمونه ويُطْعِمونه أولادهم. "نَكِّبُوا"؛ تنحوا عن ذات الطعم؛ يعني ذات الطَّعَامِ؛ يعني ذوات اللَّبن أو المُسمنات للأكل. يُطعمونها أو يطعَمون منها اللَّبن فإنهم يُرزقون من لبنها طعامًا، فالمُصّدق لا يأخُذ اللَّبون.
ثُمّ كما سمعت لم يأمُر بردها لمَا احتمل أنه أُخبِر أنه لم تؤخذ منهم بأمر المُصدّق، ولكن كما هو الحال فى عهد الخُلفاء الرَّاشدين. يقول السَّاعي: إذا عرف ما عنده، يقول: عليك كذا، أخرج لي زكاتك؛ فيجعل المالك نفسه هو الذى يتخير ويُخرِج، وحتى أن منهم من عرض أخيار أموالهم، فقال: لم أُؤمر بهذا! فيقول: خذها مني أنا رضيت بها؛ فحينئذٍ يقبلونها لأنها ما بين حقّ المُزكّي وبين حق المساكين والمُستحقين للزّكاة، فلا يفرضوا على المُزكي شيء في زكاته من الأموال ولكن إذا تطوّع بذلك، فينبغي لهم أخذُها لأجل رعاية حق المُتصدَّق عليهم من المُستحقين للزّكاة.
ويقول: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، أَخْبَرَنِي رَجُلاَنِ مِنْ أَشْجَعَ"، وهي القبيلة المشهورة "أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ يَأْتِيهِمْ مُصَدِّقاً"؛ أي: ساعيًا للصّدقة، "فَيَقُولُ لِرَبِّ الْمَالِ: أَخْرِجْ إِلَيَّ صَدَقَةَ مَالِكَ"؛ هات الصَّدقة التي عندك. فمَن أخرج شاةً سليمة، قَبِلها ولا يتشرّط عليه بشيء، ولا يرُّدها عليه ما دامت ليست ذات عوار، وهي موفية بحق الزَّكاة فيأخُذها منه، ويجعله باختياره يُخرج ما شاء. "فَلاَ يَقُودُ إِلَيْهِ"؛ يعني: ربّ المال وصاحب الماشية "شَاةً، فِيهَا وَفَاءٌ مِنْ حَقِّهِ" من حق المُصدِّق؛ يعني مقبولة في الزّكاة ليس فيها عيب "إِلاَّ قَبِلَهَا" فهذا شأنهم. فإذا جاء له به من كرائم أمواله، يقول: لم أؤمر بهذا، وأُمر بالوسط، فيقول له: خذ!
○ إن شاء أدّى القيمة
○ وإن شاء أدّى سنًّا دون الواجب وفضل القيمة.
○ وإن شاء أدّى سنًّا فوق الواجب واسترّد الفضل.
فإذا عيّن شيئًا؛ فليس للسّاعي أن يأبى ذلك فقد قام بحق التيسير.
"وقَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا، وَالَّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا"؛ يعني: المدينة المُنوّرة، "أَنَّهُ لاَ يُضَيَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي زَكَاتِهِمْ، وَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا دَفَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ"، ما دام ليس فيه شيءٌ مُخلٌّ بصحة الزّكاة.
ثُمّ قال: "باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا"، عَلِمْنا ممّا مضى أنه ينبغي للساعي والوالي أن يأخُذ من النَّاس الوسط. وجاء في الحديث: "ثلاثٌ من فعلَهنَّ فقد طعمَ طعمَ الإيمانِ: مَن عبدَ اللَّهَ وحدَهُ وأنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وأعطى زَكاةَ مالِهِ طيِّبةً بِها نفسُهُ رافدةً عليْهِ كلَّ عامٍ، ولاَ يُعطي الْهرمةَ ولاَ الدَّرنةَ ولاَ المريضةَ ولاَ الشَّرطَ اللَّئيمةَ ولَكن من وسطِ أموالِكم فإنَّ اللَّهَ لم يسألْكم خيرَهُ ولم يأمرْكم بشرِّهِ". وقَبِل منكم الوسط؛ أي: فمَن تطوّع بعد ذلك وأخرج الأفضل فهو وربّه فيما عامل به مولاه يُعامله بالفضل والجميل من عنده سبحانه، لكننا لا نُلزمه بشيء من ذلك. صلَّى الله على زين الوجود مُحمَّد وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربه.
يقول: "باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا"، فيروي لنا -عليه رضوان الله- "عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ"، هذا عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ تابعي، فهو حديث مُرسل ولكن جاء موصولًا في روايات عند أحمد وأبي داوود وابن ماجه والحاكم وغيرهم، عن طريق: "مَعمَر عن زيد بن أسلم، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عن أبي سعيد الخُدري.."، فوصله بذكر الصَّحابي. "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ"؛ يعني: الواجبة "لِغَنِيٍّ"،
فيقول الإمام الشَّافعي: المانع من قبول الصَّدقة أقل ما ينطلق عليه الاسم.
فيقول: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ"؛
○ أنه إذا ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذَّهب؛ فهو غني.
○ وفي رواية عنه، إذا وجد ما تحصل به الكفاية على الدّوام من كسب أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك، هذا كلام الإمام أحمد.
إذًا، فالغنى المانع من الزّكاة هو غير الموجب لها عند بقية الأئمة، ومَن له ما يكفيه من مال من غير أن يكون عليه زكاة أو يكون من مكسبه أو أجرة عقارات أو غيره؛ ليس له الأخذ من الزَّكاة. هكذا كما يقول الإمام الشَّافعي وجماعة من أهل العلم. ويقول من الحنفية أبو يونس: من دفع الزَّكاة إليه فهو قبيح.
وجاء في مُسند الإمام أحمد، أن رجلين أَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ فسألاه الصَّدَقَةَ، يريدون من الزَّكاة فصُعد فيهما البصر فرأهما جِلدين، قال: "إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكتسب"؛ يعني: مَن لم يكُن عنده مال يُزكيه، لكن قوي يقدر على الكسب فهو غني بما آتاه الله من قوة. قال أحمد: ما أجوده من حديث. وفي الحديث عنه ﷺ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ". رواه أبو داود والتِّرمذي، وقال: حسن صحيح.
وأما مَن مَلك مالًا نصابَا تلزمه فيه الزَّكاة، ولكن لا تتم به الكفاية؛ فله الأخذ أيضًا من الزَّكاة. العبرة الحاجة. قال: "إِلاَّ لِخَمْسَةٍ" في الحديث من الأغنياء تجوز لهم الأخذ من الزَّكاة؛ فيحلُّ لهم الأخذ وهم أغنياء، فهكذا قال الجُمهور: لا حظّ للأغنياء من الزَّكاة إلا هؤلاء الخمسة الذين نصّ عليهم ﷺ. ومن أهل العلم كما روي عن ابن القاسم: لا حظّ أصلًا لغني ولو كان عاملًا على الزَّكاة، ولو كان ما كان.
قال: ".. لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ والمُجاهد الذي يخرج في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. "غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ."
وعَلِمْت قول الجُمهور: أنّه الجهاد في سبيل الله، على ذلك أبو يوسف من الحنفية، وعليه أيضًا الإمام مالك والإمام الشَّافعي: أن المُراد بالغَازي في سبيل الله؛ المجاهد الذي يُعلي كلمَة الله سبحانه وتعالى؛ فيُعطى الغازي.
○ أما الجنود المُكتتبين في الدّيوان الذين لهم إجراءات تجرى عليهم؛ فلا يجوز أن يأخذوا شيء من الزَّكاة على الغزو والجهاد.
○ وإنما الذين لا يكتتبون في ديوان الإمام وليس لهم إجراءات وأرادوا الغزو؛ فيأخذون ما يستعينون به على الغزو والجهاد من مؤونة طريق أو قيمة سلاحٍ وما إلى ذلك.
يقول: "أو لِعَامِلٍ عَلَيْهَا". العامل على الصَّدقة له حقّ أُجرة سعيه وسفره وجبايته للصدقة، والذي يسعى ويذهب إلى أماكن المواشي في البوادي وعند مواضع القبائل يأخُذ الصَّدقة، والذي يأخُذ من الزَّكاة -وإن كان غنيًا- أُجرته لأنهم يستحقون على العمل أُجرتهم. وإن كان أحدهم غني، فإنه استؤجر لهذا العمل.
إذًا فالذي أيضًا عليه جُمهور العُلماء أنه ليس هناك سهم مخصوص بمعين -جزء معلوم- للعاملين عليها، ولكن يُعيّن لهم الإمام أُجرتهم -أُجرة المثل- فيُعطيهم منها؛ فهذا سهمهم من الزَّكاة، ويقسِّم الباقي على الباقيين، فيُعطيهم الإمام كفايتهم منها.
وجعل الشَّافعية أن لهم الثُّمن إذا كان الأصناف الثمانية موجودين، فإن وفى بأجرهم فذاك وإلا يُكمَل لهم أُجرتهم. يجب على الإمام تعميم الأصناف إذا قسّم الزَّكاة عند الشَّافعية، وجب عليه أن يعُمُهم، وأن يُسوي بينهم وإن تفاوتت حاجاتهم إلا العامل يُعطى قدر أُجرة عمله فقط. فهؤلاء السُّعاة الذين يجلبون الزَّكاة لا يُزاد أحدٌ منهم على أُجرة المثل. فإذا أعطيناهم أُجرة مثلهم، ففي الثُّمن زاد بقية؛ يُرد على بقية الأصناف. وإن نقص؛ أخذ لهم، يُكمِل من مال المصالح. كما ذكر الإمام الغزالي في الإحياء: إذا نقص؛ جعلوا الأُجرة الثُّمن الذي جاءوا به أقل من أُجرتهم؛ فيُكمَّل لهم من بيت مال المُسلمين، مقدار الأُجرة.
فإذا كان الذي خرج للعمل في الزَّكاة من بني هاشم أو بني المُطلِب؟ وهم مُحرّمة عليهم الصَّدقة والزَّكاة.
وجاء في الحديث عند أبي داوود، عن سيِّدنا أبي رافع: أن النَّبي ﷺ بعث رجُلًا على صدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنّك تُصيب منها -تعال معي-، قال: حتى آتي رسول الله ﷺ فأسأله. قال: فأتاه فسأله، فقال: "مولى القوم من أنفسهم وإنَّ لا تحلُّ لنا الصَّدقة". أبو رافع مولى من مواليه ﷺ. وقال: مولى القومِ منْهم، كما لا تحلُّ لبني هاشم وبني المُطلِب؛ فلا تحلُّ لمواليهم. فما رضي ﷺ أن يخرج ولو كان بصورة عامل، وهذا هو الأولى والأفضل.
وجاء في رواية الإمام مُسلم وأبي داود: أنه اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المُطلِب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغُلامين؛ يعنى عبد المُطلِب بن ربيعة والفضل بن العباس إلى رسول الله ﷺ، فكلّماه فأمَّرهما على هذه الصَّدقات، فأديا ما يؤدي النَّاس وأصابا ما يُصيب النَّاس -يقومون بالسِّعاية وبإحضار الزَّكاة وبالتَّعب فيها، ويأخذون لهم أُجرة كغيرهم-، فبينما هُم في ذلك إذ جاء علي أيضًا فقال: لا والله لا يستعمل أحدًا. وجاء بعد ذلك لما سألوه ﷺ قال: "هذه اَلصَّدَقَةَ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ اَلنَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآلِ مُحَمَّدٍ".
فإذا كان تُعطى إنما على سبيل الأُجرة، فهل يجوز أن نُخرج واحد ذِمّي يجمع لنا الزَّكاة ونُعطيه أُجرته من الزَّكاة؟ قال أبو حنيفة والإمام مالك والإمام الشَّافعي: لا، لا يجوز؛ فالشرط في العامل الإسلام. شرط يكون العامل للزكاة؛ مُسلم لأن فيها أيضًا نوع تأمُّر على المُسلمين، فلا يُمكن أن تُسلّم للكافر الذِمّي. وجاء عن الإمام أحمد روايتان.
ولكن يقول يحيى بن مُحمَّد: لا أرى أن مذهب أحمد إجازة أن يقوم الكافر على عمل الزَّكاة على أن يكون عاملًا عليها، إنما رأى أن إجازة ذلك إنما هو على أن يكون سوّاقًا لها ونحو ذلك من المِهن التي يُلابسُها. ما يكون هو صاحب القرار والمُتخاطب مع أصحاب الأموال، إنما يكون يمشي مع السَّاعي يسوق له الإبل يُرَّبِطُها ويقدمها ويسقيها ويستخدمه في شيء من هذا في الرواية عن الإمام أحمد فسَّروها بهذا. والرِّواية الثانية عن الإمام أحمد، كما قال الأئمة الثلاثة: لا يجوز أن يكون العامل على الزَّكاة كافرًا، بل يجب أن يكون شرط العامل الإسلام.
إذًا، فالأصل أن ولاة العدل يَنصبون سُعاة، فيُسلّم النَّاس إليهم، فحينئذٍ يمتنع على الآحاد أن يُخرِّجوا زكاة أنفسهم، ويجب عليهم أن يدفعوها إلى الإمام ما دام قائمًا بالعدل ووضع الزَّكاة في موضعها. فإن عُلِمَ عنه غير ذلك، فجازَ لأرباب الأموال أن يُخرجوا زكاتهم بأنفسهم، وما طلب منهم الإمام عدُّوه ضريبة من الضَّرائب يتخلّصون من شرّه بدفعها.
قال: "أَوْ لِغَارِمٍ"؛ يعني: مدين، كيف غني غارم؟ الذي عليه دين؛ يعني هو غني عنده مال كثير لكن كُلّ المال الذي معه يستغرقه الدَّين. عليه دين وما يكفي الغُرماء؛ نعطيه لأنه صار ليس غني، هو غني لو لم يكن الدَّين عليه، لكن لمّا كان الدّين عليه، استغرق كُلّ المال وما بقي شيء عنده وصار مُحتاج؛ فحينئذٍ يُعطى من الزَّكاة هذا واحد. الثّاني ما حمله الشَّافعية وغيرهم على أنه:
○ مَن تديّن فغرم لمصلحةٍ عامة؛ لأجل إصلاحٍ بين النَّاس مثلًا أو تحمّل شيئًا في مصالح المُسلمين، فيجوز له أن يُعطى مقدار ما تديّنه في ذلك ولو كان غنيًا.
○ وأما مَن تداين لنفسه لأجل أمرٍ مُباحٍ، فيُعطى إن لم يكُن غنيًا، إن لم يكُن عنده ما يكفيه.
○ فمَن تداين لتسكين فتنة بين طائفتين في قتيل مثلًا لم يظهر قاتله، فتحمّل الدِّية تسكينًا للفتنة؛ فيُعطى من الزَّكاة ما يقضي به دينه ولو كان غنيًا ترغيبًا له في مكرُمة الإصلاح.
○ ومَن تداين لنفسه أو لعياله فى مُباحٍ؛ يُعطى من الزَّكاة عند الحاجة. بأن يحلّ وقت الدَّين وليس عنده وفاء -مال يقدر يوفي به الدين-؛ فيُعطى من الزَّكاة.
○ ومَن تداين لضمان: فإن ضمن بإذن من المضمون؛ لم يُعطَ من الزَّكاة إلا إن عَسُرَ. عَسُرَ؛ كان فقير مع الأصيل. فإن ضمن بلا إذنه؛ لم يُعطى إلا إن أعسر.
○ كذلك من تداين لمعصية: فلا يُعطى من الزَّكاة. يتديّن يشتري له خمر، يتديّن يحضر غناء حرام، ثم يقول: عليّ دين هاتوا من الزَّكاة. تصرف في ماذا أنت؟ أين تذهب بها؟ تذهب إلى المُحرَّم! لا نُعطيك من الزَّكاة ولا نكون لك عونًا على الحرام. يا مُخالف لأمر ذا الجلال والإكرام.. فإذا تاب وصحّت توبته، وثبُتت توبته وصدّقه ورجع؛ فيجوز أن يُعطى من الزَّكاة.
"أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ"؛ يعني الزَّكاة بماله. يعني؛ أعطينا الزَّكاة للفقير، فجاء الغني اشتراها منه، هذا صارت الآن شراء ما عادت زكاة.
"أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِين، فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ". هدية من عنده جاء بها طيبة بها نفسه، وقال له: تفضل يا جاري، اطعم معي من هذا الخير الذي جاءني؛ فتصير هدية له ليست بزكاة. كما قالوا في قصة سيِّدتنا بريرة -عليها رضوان الله-: أنه تُصدِقَ على بريرة والنَّبي لا يأكُل الصَّدقة حتى ولو كانت نفلًا. قال ﷺ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ". لبريرة صدقة، وبريرة ملكت هذا، والآن تُهديه لنا فنقبله منها. "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ". فما أهداه المسكين للغني يجوز له أخذُه، ولكن يُسَنّ له أن يُكافئه بخيرٍ منه؛ ما يأخذه فقط. إن كان هذا الفقير طيبة نفسه، ويُراعي حقّ الجوار، وأنت غني، استح على نفسك وأعطه مُكافئة، هدية أُخرى من عندك من غير الزَّكاة مُقابل ما آتاك.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الاِجْتِهَادِ مِنَ الْوَالِي"، الخليفة أو نائبه "فَأَيُّ الأَصْنَافِ" من المذكورين في الآية الكريمة "كَانَتْ فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْعَدَد، أُوثِرَ ذَلِكَ الصِّنْفُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْوَالِي، وَعَسَى أَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إِلَى الصِّنْفِ الآخَرِ، بَعْدَ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ أَوْ أَعْوَامٍ، فَيُؤْثَرُ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْعَدَدِ حَيْثُمَا كَانَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ"، قال الشَّافعية: تُقسم الزَّكاة لكُلّ صنف سهم، ثُمّ يُعطى أهل الصّنف من ذلك السَّهم. فإن لم يوجد الأصناف كُلّها، فالأصناف الموجودة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةٌ مُسَمَّاةٌ، إِلاَّ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الإِمَامُ"، أنه يُجزيه في عمالته، فيُعطيه حقّ الأُجرة؛ أُجرة العمل، والله أعلم.
كتبنا الله في ديوان الصَّالحين المُقيمي الصَّلاة، والمؤتين الزَّكاة، والصَّادقين مع الله تعالى في عُلاه، والمؤثرين له على ما سواه، وأن يمنحنا الرِّضوان، ويُصلح لنا كُلّ شأن، ويتولانا في السِّرّ والإعلان، ويُفرّج كروب أهل الإسلام والإيمان وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
25 جمادى الآخر 1442