(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، باب جامع الحِسْبَةُ في المُصيبة، وباب ما جاء في الاختفاء والنباش.
فجر الإثنين 5 جمادى الآخرة 1442هـ.
باب جَامِعِ الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ
637 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمُ، الْمُصِيبَةُ بِي".
638 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ، فَقَالَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَعْقِبْنِي خَيْراً مِنْهَا، إِلاَّ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ". قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، فَلَمَّا تَوَفَّى أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ قُلْتُ: وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أبِي سَلَمَةَ، فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ فَتَزَوَّجَهَا.
639 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ قَال: هَلَكَتِ امْرَأَةٌ لِي، فَأَتَانِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يُعَزِّينِي بِهَا، فَقَال: إِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَقِيهٌ، عَالِمٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، وَكَانَ بِهَا مُعْجَباً وَلَهَا مُحِبًّا، فَمَاتَتْ فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْداً شَدِيداً، وَلَقِيَ عَلَيْهَا أَسَفاً، حَتَّى خَلاَ فِي بَيْتٍ وَغَلَّقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاحْتَجَبَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنَّ امْرَأَةً سَمِعَتْ بِهِ فَجَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْهِ حَاجَةً أَسْتَفْتِيهِ فِيهَا، لَيْسَ يُجْزِينِي فِيهَا إِلاَّ مُشَافَهَتُه، فَذَهَبَ النَّاسُ وَلَزِمَتْ بَابَهُ، وَقَالَتْ: مَا لِي مِنْهُ بُدٌّ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: إِنَّ هَا هُنَا امْرَأَةً أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَفْتِيَكَ، وَقَالَتْ: إِنْ أَرَدْتُ إِلاَّ مُشَافَهَتَه، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ وَهِيَ لاَ تُفَارِقُ الْبَابَ. فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: إنِّي جِئْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَمْرٍ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَتْ: إنِّي اسْتَعَرْتُ مِنْ جَارَةٍ لِي حَلْياً، فَكُنْتُ أَلْبَسُهُ وَأُعِيرُهُ زَمَاناً، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَيَّ فِيهِ، أَفَأُؤَدِّيهِ إِلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ مَكَثَ عِنْدِي زَمَاناً، فَقَال: ذَلِكَ أَحَقُّ لِرَدِّكِ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ حِينَ أَعَارُوكِيهِ زَمَاناً. فَقَالَتْ: أَىْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَفَتَأْسَفُ عَلَى مَا أَعَارَكَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْكَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ. فَأَبْصَرَ مَا كَانَ فِيهِ، وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهَا.
باب مَا جَاءَ فِي الاِخْتِفَاءِ
640 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُخْتَفِي وَالْمُخْتَفِيَةَ؛ يَعْنِي نَبَّاشَ الْقُبُورِ.
641 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ تَقُولُ: كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيْتاً، كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَىٌّ؛ تَعْنِي فِي الإِثْمِ.
الحمدُ لله خالقَ عبادهِ لحِكمٍ لا يُحيط بِعلمها سواه، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ وكرّم على الهادي إلى الحقِ والدالّ عليه، صفوتهِ مِنْ براياه، سيدنا مُحمّدْ بِن عبد الله، مُقتدى أهلِ الهدى فيما خفيَ وفيما بدا، صلَّى الله وسلَّمَ وباركَ وكرّمَ عليهِ في كل لمحةٍ ونفس، وعلى آله وأصحابهِ السُّعداء، وعلى من سارَ في مِنهاجِهم وبِهديهِم اقتدى، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلين، سادات السُّعداء، وعلى آلهم وصَحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عبادِ الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
وبعدُ،
فيواصلُ سيدنا الإمام مَالِكْ بِنْ أنسْ -عليه رضوان الله تعالى- في الموطأ، ذكر الأحاديثِ المتعلقةِ بالجنائزِ، وما تعلَّق بها، ويذكرُ في هذا الباب الحِسْبة، أي: الاحتِساب، وهو الصَّبرُ طلبًا للثواب والأجرِ عند الله تبارك وتعالى.
"جَامِعِ الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ"؛ وهي كل ما يصيب الإنسان مِنْ أذىً وضرٍ وتعبٍ وهمٍ وغمٍ… إلى غير ذلك من كل ما يؤذي الإنسان فهي مصيبته، وينبغي للمؤمنِ أن يحتسبَ عند كلِ مصيبةٍ، فإنها تتحوّل له نعمةً مِنْ نِعَم الله تبارك وتعالى عليه، ويدركُ غريب ما خبأ الله تعالى في المصائب مِنْ فوائدٍ، ومنافع، وآثارٍ طيبة لها عاقبةٌ تُحمد إلى الأبد، بعطايا تمتدّ من غير حدْ لِمن قام بحقّها.
وإلى هذا أشارَ الحديثُ الشريف: "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ" أو لحالِ المؤمن إنَّ حالهُ كلهُ خير، " إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ"؛ أي: أعطى الله المؤمن بإيمانه نورًا في الهداية، يهتدي به إلى حُسن التعامل مع مختلف الوقائع والأحوال، خيرًا وشرًّا، نفعًا وضُرًّا، سرَّاء وضرَّاء، فهو حَسَنُ التعامل، فهو كاسبُ الأرباح في مختلف ما يُنازِلُ الجسد والأرواح، فهو واسعْ التَّحصيل لجودِ الملكِ الجليل، ومُحسِنَ الاستعداد للرحيل، وما بعد الرحيل، بإاستنارتهِ بنور الهادي والدليل، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبهِ وسلَّم.
يقول: "جَامِعِ الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ"، وذكر لنا الحديث: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمُ" أي: ليكونَ مُصَبِرًا مُسْليًا لهم في كلِ ما يُنازلَهم مِنْ أيِّ مصيبة: "الْمُصِيبَةُ بِي"؛ يذكرُوا أنيّ أبرزَني الحقُ بينهم هاديًا، مُرشدًا دالًا عليه، فاتحًا لأبوابِ الخيرات، والرَّحمات، والبَركات، مُسْتنزلًا للمِنحِ والعطايا، يَنزلُ الوحيُّ عليَّ، ويأتيهم خبرُ السَّماء عشيةً وصباحًا، ثم أُنزع مِنْ بينهم وأخرج مِنْ هذا العالم، ولا عِوضَ عني وإن فُقِدَ سواي ففي عنهُ عِوض، ولا عِوض عنهُ عليه الصلاة والَّسلام، قال: فإذا أصابتكم أيُّ مصيبة فاذكروا أنكم قدْ أُصبْتم بفراقي وبإنتقالي مِنْ هذا العالم، فصبِّروا أنفسكم عندَ بقية المصائب، فإنها دونَ هذه المصيبة. "لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ" أي: ليكَفيهم تصبيرًا، ومواساةً لهم في مصائبهم؛ "الْمُصِيبَةُ بِي" ﷺ
وجاءَ في بعضِ الأخبارِ: "فإن أُمتي لنْ تُصابَ بمثلي"، ما تُصاب بفقدِ شيء كفقدِ نبيِّها صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آله، وفيهِ تلكَ المعاني التي قالتها أُمُ أيمن لسيدنا أبي بَكرٍ، وسيدنا عمر لمَّا زاراها بعدَ وفاته ﷺ قال سيدنا أبو بكر لسيدنا عمر: هيّا بِنا نزورُ أُمُ أيمن كما كانَ رسول الله يزورها، فلمَا دخلوا عليها وجلسوا تذكرت رسول الله ﷺ بكتْ قالوا: ما يُبكيكِ يا أُمُ أيمن؟ أمَا تعلمينَ أنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ لرسولِ الله؟ قالتْ لهما: والله إنِّي لا أبكي أنَّي لا أعلم أنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ لرسولِ الله، أعلم ذلكَ؛ ولكن أبكي أنَّ خبرَ السَّماءِ انقطعَ علينا، كانَ يأتينا الوحيُّ، فهيَّجتهُما على البُكاء، فجلسا يبكيان معها، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا صارَ يقول قائلهم في هذا المعنى:
اصبِر لكُلِ مصيبةٍ وتجلَّدِ *** وأعلم بأنَّ المرء غيرَ مُخلَّدِ
وإذا ذكرتَ مصيبةً تُسلى بها *** فأذكر مُصابكَ بالنَّبي مُحمّدِ
صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آله.
قالتْ عمتهُ صفَّية عندَ وفاتهِ ﷺ:
لَعَمرُكَ ما أبكي النَّبيَّ لفقدهِ *** ولكِنْ لِما أخشى مِنَ الهرجِ آتيا
كأنَّ على قلبي بذكرِ مُحمّدٍ *** وما خِفت مِنْ بعدِ النَّبي المَكاديا
فِدىً لرسولِ اللهِ أُمّي وخالتي *** وَعمِّي وآبائيّ ونفسي وماليا
فلو أنَّ ربُّ النَّاسِ أبقى نبيِّنا *** سُعِدنا ولكِنْ أمرهُ كانَ ماضيا
ولذلك يقولُ قائلهم:
ولو كانَ في الدُّنيا بقاءُ لساكنٍ *** لكانَ رسولُ اللهِ فيها مُخلَّدا
وما أحدٌ ينجوُ مِنْ الموت سالمًا *** وسَهمُ المَنايا قدْ أصابَ مُحمّدا
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:34-35].
فهكذا أرشدنا ﷺ، فإذا فقدنا قريبًا، وإذا فقدنا حبيبًا، وإذا فقدنا عزيزًا، فقد فقدنا الأحبَّ، والأعزَّ، والأقربَّ، والأطيبَ، والأرحبَ، والأعظمَ، والأجلَّ، والأكرمَ مُحمّدًا ﷺ. ومَنْ ذا يرجو البَقاء بعدَ أحمدٍ، قال سيدنا الإمام الحدَّاد عليه سلام الله، فالحمدُ لله على كل حال، فيَحمدَ الله الإنسان على جميع ما يُنازله في مختلف الأحوال، في السِّرِ والإعلان، فإنَّ ربَّ العرشِ يستحقُ الحمدَ على كل ما يجريهِ.
وهناك بعض التَّجوّزِ في قولهم: لا يُحمَدُ على المكروهِِ سواه؛ بمعنى: أن لهُ في إجراءِ ما تكرههُ النّفوس مِنَ الخَيراتِ، والمحامدِ ما لا يُحيط به عِلمُ الخلائق، وهو في ألوهيتهِ منفردٌ بالإحاطةَ بالحِكَم بما لا يكون لمخلوقٍ، فبهذا المعنى وإلا، وقد قال سبحانه وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ..) [البقرة:216]، ففي حقائقها كُلها خيرات بالنسبة للمؤمن، أي: أنَّ أمرهُ كلهُ خير، حتى الضَّرَ، "إن أصابتهُ ضرَّاء صَبر فكان خيرًا له"،
وقال سيدنا عُمر بِنْ الخطاب: نِعمَ العِدلانِ ونعِمت العَلاوة؛ عِدلان، عَطيتان كبيرتان مِنَ الله تعالى، صلواتْ ورحمة، وعلاوة فوقها ثالثة هداية، (أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:157]. قال: (.. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-156-157].
وبخصوصِ الولدِ إذا ماتَ على الوالد والوالدة، ومنه الجدُّ والجدة إذا قالا: الحمدُ لله، اللهم أجرنا في مُصيبتنا وأخلفنا خيرًا منها، إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعون، قال الربُ للملائكةِ الموكّلينَ بهذا الإنسان: ما قال عبدي؟ قَبضتُم ولدهُ؟ قالوا: نعم يا ربنا، قال: قَبضتُم ثمرة فؤاده؟ يقولوا: نعم يا ربنا، يقول: فماذا قال عبدي؟ قالوا: حَمِدك واسْترجع، يقولونَ حَمِدك وأسْترجع قال: فأبْنوا لعبدي بيتًا في الجنة سمّوه بيتَ الحَمد، فيُبنى لهُ بيتٌ مخصوص في دار الكرامة، وهو بيتُ الحَمدِ، ينالُ فيه من النَّعيم ما لا يُكَيَّف جزاءً على ما حمِدَ واسترجع، وهكذا جاءت لنا إرشاداتهُ ﷺ.
ولمَّا شمَّت السَّيدة فاطِمة تُربة قبر النَّبي بعدَ أن دفنوهُ وانصرفوا عنهُ، جاءت إلى قبر أبيها وحملت التربة تشمُها وقالت:
ماذا على مَنْ شمَّ تُربةَ أحمدٍ *** أن لا يَشُم مدى الزَّمانِ غواليا
صُبَّتْ عليَّ مصائبٌ لو أنَّها *** صُبَّتْ على الأيامِ عُدنَ لياليا
وقال لها: "نِعمَ السَّلفُ أنا لكِ" ﷺ، قبيل موتهِ، قال لها: "فاصبري واحتسبي، فنِعمَ السَّلفُ أنا لكِ"، وفرِحتْ بتبشيرهِ إياها أنها أول من يلحقُ بهِ مِنْ أهلِ بيته، وعادةُ النَّاس بِلا حقائق الإيمان، واليقين، والمعرفة، ما يسْتبشرون بُقربِ الموت، ولا يفرحون به؛ ولكنها تَبسمتْ وفرِحت عندما أخبرها أنها ستلحقُ بهِ قريبًا، وأنه لا يسبِقها مِنْ أهلِ بيتهِ إلى اللحوق بهِ أحدْ، ففرِحت بذلك، وسُريَّ عنها ما كانتْ حملتهُ مِنْ الحُزنِ عندما أخبرها أنه لاحقٌ بربهِ في ذلك الوقت، ومنْ ذلك المرض ﷺ.
فأوردَ لنا حديث أُمِّ سَلَمَةَ التي كانت زوجَ أَبي سَلَمَةَ وهو: ابِن بَرة بِنتُ عبدِ المُطلب، عمته ﷺ، ابن عمتهِ ﷺ، وقدْ أرتضعَ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ ثُويِّبة، وهي أرضعتْ رسول الله ﷺ، فأَبُو سَلَمَةَ أيضًا أخو نبيِّنا مِنْ الرِّضاع، لأنهُ ارتضع مِنْ ثُويِّبة، وثُويِّبة أرضعت نبيِّنا ﷺ، وقُتل أبو سَلَمَةَ شهيدًا في غزوة أُحد.
فتروي أُمُِ سَلَمَةَ أنه لمَّا بلغها خبرَ وفاة زوجها، وكانتْ قدْ سمعتْ عن النَّبي ﷺ
أنه قال: "مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ، فَقَالَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ" والتبشير المذكور في الآية عدَّه ﷺ أمرًا (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ..) [البقرة:155-156] قَالُوا هو تبشير وإخبار، وقالوا نعِدهُ أمرًا، لأنَّ معناهُ الحث على قولٍ مثلَ ذلكَ، "فَقَالَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي.."؛ تكتبُ ليَّ الأجرَ، وقد يُنطقُ: آجرني فيصحُ، آجرَ بالمّدِ ويصحُ بالقصرِ، "اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي" وأعطني "وَأَعْقِبْنِي" وفي روايةٍ: "وأخلفنيّ" وفي روايةٍ: "وَأَعْقِبْنِي خيرًا مِنْهَا، إِلاَّ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ"؛ يُعطِيهُ الأجرَ ويخلِّفهُ خيرًا منها، في روايةِ مُسلم: "إلاَّ أخلفَ اللهُ لهُ خيرًا منها"، في روايةِ عند مُسلم أيضًا: "إلاَّ آجرهُ اللهُ في مُصيبتهِ وأخلفَ لهُ خيرًا منها".
وهكذا ينبغي لِكُلِّ من أصيبَ بأيِّ مصيبة أن يفزعَ إلى هذا اغتنامًا لهذا الخيرِ، وانفتاحَ هذا الباب على يدِ سيدِ الأحبابِ ﷺ. وجاءَ في روايةِ الطبراني وابنُ مردويه: "أُعطيتُ أُمتي شيئًا لم يُعطهُ أحدهُ من الأُمم، أن يقولوا عندَ المُصيبةِ إنَّا للهِ.." خلقًا وعبيدًا ومُلكًا يتصرفُ فينا كما يريدُ، نحنُ للّٰهِ أصلًا، ما خلقنا أنفُسنا، ولا ملكنا غيرهُ، ولا مَرجِعنا إلى سواهُ، وإنَّا إليهِ راجعون، حتمًا أولُنا وآخرنا، إنسُنا وجِنُنا، وملائكتنا والخلائقَ أجمعينَ، فيُجازينا ويحاسبنا ويحكُم بيننا بما شاءَ، "إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ.."، يتذكرُ الحقيقةَ الكُبرى واليقينيةَ العُظمى في هذا الشَّانِ "إنَّا للّٰهِ وإنَّا إليهِ راجعون".
أعطانا الله هذهِ، بلْ وجاءَ في روايةٍ عند ابِن جرير والبيَّهقي عنْ سيدنا سعيد بن جبير يقول: لقد أُعطيت هذهِ الأُمة عندَ المُصيبةِ ما لم يُعطَ الأنبياءَ مثلهُ، إنَّا للّٰهِ وإنَّا إليهِ راجعون، لو أُعطيها الأنبياء قالَ لأُعطيها يعقوب، (وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ) [يوسف:84]، ولكنَّ الله علَّمَ هذهِ الأُمة على لسانِ نبيِّها أنْ تقولَ هذا القولِ الجميلِ عند المصائب، العظيم الموقع على صاحبِ المنزلة عندَ الله، إنَّا للّٰهِ وإنَّا إليهِ راجعون.
"قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، فَلَمَّا تَوَفَّى أَبُو سَلَمَةَ.." الذي هو عبدُ اللّٰهِ بنُ عبد الأسد بنُ هلال بنُ عبد الله بنُ مخزوم، وجاءَ في رواية أنَّهُ كانت وفاتهُ في جُمادى الآخرة، وهو مِمن شهِدَ بدر، وقعت سنة أربع أو سنة ثلاث من الهجرة النَّبوية، بعد أُحد وفاته.
وجاءَ في صحيحِ مُسلم أنَّ رسولُ اللّٰهِ ﷺ دخلَ عليهِ بعد وفاتهِ عندَ قبضِ رُوحهِ، فدخلَ عليهِ وعيناهُ مفتوحتان كما هو حالُ الميِّت، فأغمضَ عينيهِ وقالَ: "إِنَّ الرُّوحَ إذا قُبِضَ تبِعهُ البصر" فضجَ ناسٌ من أهلهِ، لما علموا من كلامِ النَّبي أنَّ الرَّجلَ فارقتهُ روحهُ وأنَّهُ تُوفيَ، فبكوا، ضجَوا، فقال: لا تدعوا على أنفُسكم إلاَّ بخيرٍ، فإنَّ الملائكة يُؤمنُّونَ على ما تقولون، ثُم دعا ﷺ قال: "اللهم أغفر لأبي سلمة، وأرفع درجتهُ في المهديين، وأخلفهُ في عقبهِ في الغابرين، وأغفر لنا ولهُ يا رب العالمين، وأفسح لهُ في قبرهِ ونَوَّر لهُ فيهِ".
"قالت أُمُّ سَلَمَةَ:" فلمّا علِمتُ وفاةَ أبي سَلَمَةَ عليهِ الرضوان، قلتُ ذلك الكلام "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي خَيْراً مِنْهَا" وأخلُفني خيرًا منها، ثُمَّ قالت: "ثُمَّ قُلْتُ:" في نفسي "وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أبِي سَلَمَةَ"؛ تذكره في حُسنِ معاملتهِ، وأخلاقهِ، وكريم صفاتهِ، وقالت ما أظنُّ أحصلُ مثلهُ، من يأتي مثلُ أبي سَلَمَةَ، يقومُ معي بهذه الأخلاق وهذه المُواساة وهذا الإحسان، قليلٌ في الرِّجال مثله، قالت في نفسها: "وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أبِي سَلَمَةَ" ولكن كلامُ النَّبي حقٌ قالها قالت الكلمة ممتثلة، مقتدية برسولِ الله ﷺ. قالت: "فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ"، خير مِنْ أبي سَلَمَةَ ومِنْ مِنْ مئة مِنْ أبي سَلَمَةَ، ومِنْ مثل الأرض مِنْ أبي سَلَمَةَ، خُلقًا، وإحسانًا، ومواساةً، ورحمةً، ورأفةً، وشفقةً، فأبدلها اللّٰهُ خيراً من أبي سَلَمَةَ، صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّم.
"فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ فَتَزَوَّجَهَا". وجاءَ أيضًا في صحيح ِمُسلم قالت: فلمَّا ماتَ قلتُ إنَّ أبا سَلَمَةَ قد ماتَ قالَ: قولي اللهمَ أغفر لي ولهُ، وأعَقبني منهُ عُقبى حسنة، فقلتُ ذلك فأعقبني اللّٰهَ من هو خيرٌ منهُ محمدًا، صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّم.
وهكذا سنيِّةُ الاسترجاع في كُل مصيبة، وكذلكَ التَّعزية
فيُشرعُ الاسترجاع عندَ كُل شيء يُؤذي الإنسان. حتى جاءَ في مراسيل أبي داود أنَّهُ عن سيدتنا عائشة أنَّهُ انطفأ المصباح يومًا في البيت فقالَ رسولُ اللّٰهِ ﷺ: إنَّا للّٰهِ وإنَّا إليهِ راجعون، قالت يا رسولَ اللّٰهِ إنما هو مصباح قال: كل ما آذى المؤمنُ فهو مصيبةٌ؛ يُؤجرُ عليها، لهُ الأجر في كُلِّ شيء.
وكما قالَ في الحديث الآخر: "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ"؛ فالمُؤمنُ دخلَ في تجارةٍ عظيمةٍ مع الرَّحمٰنِ سبحانهُ وتعالى، وما أحسنُ معاملةُ الرَّحمن لعبادهِ المؤمنين.
كُلُّ شيءٍ يُؤذي المؤمنُ فهو لهُ مُصيبة، "لِيسترجعَ أحدُّكم في كُلِّ شيءٍ حتى في شسعِ نعلهِ فإنَّها من المصائب". ليُقِرّ بعبوديةِ اللهِ ووحدانيته ويتذكرُ المعاد والرُّجوع إليهِ ويرجو ثوابهُ جلَّ جلالهُ، "من استرجعَ عندَ المصيبة جبرَ اللّٰهُ مصيبتهُ وأحسنَ عقباهُ، وجعلَ لهُ خُلقًا صالحًا يرضاه".
ثُم ذكرَ لنا قصة اعتبارِ بعضِ العُلماء بإمرأةٍ صالحة ذكّرته وأخرجته من ورطةِ حُزنهِ وغفلتهِ، "عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ قَال: هَلَكَتِ امْرَأَةٌ لِي، فَأَتَانِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يُعَزِّينِي بِهَا، فَقَال: إِنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَقِيهٌ، عَالِمٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ.." في العبادةِ والطَّاعةِ "وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ.." زوجة، "وَكَانَ بِهَا مُعْجَباً وَلَهَا مُحِبًّا، فَمَاتَتْ فَوَجَدَ.." حزِن، "عَلَيْهَا وَجْداً.." حزنًا، "شَدِيداً وَلَقِيَ عَلَيْهَا أَسَفاً.."، حزنًا وتلهفًا شديدًا،
ولذلكَ لمَّا سُئلَ عن الحُزن والغضب ابِن عباس قالَ: مخرجهما واحدٌ واللفظُ مختلفٌ. "حَتَّى خَلاَ فِي بَيْتٍ.."جعلَ لهُ غرفةً جلسَ فيها، "وَغَلَّقَ عَلَى نَفْسِهِ.." الباب وما يأذن لأحدٍ يدخل عنده، وما عندهُ إلاَّ من يخدمهُ، ويأتي لهُ بالضروراتِ، حاجاتهِ، "وَاحْتَجَبَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنَّ امْرَأَةً سَمِعَتْ بِهِ.."من الصَّالحاتِ في بني إسرائيل، عاقلة، مؤمنة، تقية، "فَجَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْهِ حَاجَةً أَسْتَفْتِيهِ فِيهَا.." هذا الفقيه الذي عندكم، "لَيْسَ يُجْزِينِي.."؛ يعني: لا يُكفيني ولا يُغنيني فِيهَا "إِلاَّ مُشَافَهَتُه.." في هذهِ الحاجة. "إِلاَّ مُشَافَهَتُه.." خطابه مُشافهة بلا واسطة، قالوا لها لا يُقابل أحد انصرفي؛ كُلُّ من جاءهُ انصرفَ وهذهِ قاعدة محلها، ما رضيت، فالذي يدخلونَ عليهِ كلّموه "وَقَالَتْ: مَا لِي مِنْهُ بُدٌّ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: إِنَّ هَا هُنَا امْرَأَةً أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَفْتِيَكَ.." لديها مسألة في الدَّين، "وَقَالَتْ: إِنْ أَرَدْتُ إِلاَّ مُشَافَهَتَه، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ وَهِيَ لاَ تُفَارِقُ الْبَابَ.." لا تفارقُ البابَ جالسة، وكُلُّ من جاءَ صرفناه انصرفوا، وهي جالسة على الباب، "فَقَالَ : ائْذَنُوا لَهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ : إنِّي جِئْتُكَ أَسْتَفْتِيكَ فِي أَمْرٍ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَتْ: إنِّي اسْتَعَرْتُ مِنْ جَارَةٍ لِي حَلْياً.." الحُلي: ما يُزينُ بهِ من المعادن، هذهِ من الذَّهبِ والفضةِ ونحوها، وجمعهُ حُلي، حَلي، يُقال له: حلي، والحُلي جمعهُ الحَلي، "فَكُنْتُ أَلْبَسُهُ وَأُعِيرُهُ.." يعني لنَّاسَ غيري "زَمَاناً.." أتمتع بهذا الحَلي الذي أعطوني ألبسهُ وأعطيهُ غيري، وألبسهُ وأعطيهُ غيري، زمان، قالت "ثُمَّ إِنَّهُمْ" بعد حُقبة من الدَّهر، مدةٍ طويلةٍ من الزَّمن، "أَرْسَلُوا إِلَيَّ" يعني قاصدًا "فِيهِ، أَفَأُؤَدِّيهِ إِلَيْهِمْ؟.." أرجعهُ إليهم؟ عندهُ، "فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ". كيف يُعطونكَ الحَلي هذهِ المُدة وبعد ذلكَ تبخلينَ بهِ، رُدّيهِ هذا حقَّهم، قالت: "إِنَّهُ قَدْ مَكَثَ عِنْدِي زَمَاناً.." ألفتهُ لهُ مُدة عندي "فَقَال: ذَلِكَ أَحَقُّ لِرَدِّكِ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ.." خلاص ردّي للنّاسِ حقهم، "حِينَ أَعَارُوكِيهِ زَمَاناً.." ما دام منذ زمن طويل، إذاً ما الذي تريدينه؟ لو كان حتى لحظة واحدة وقالوا هاتوا حقنا، ردوهُ إليهم حقهم، الآن ولهم مدة عندكِ هذا أحق أن ترديهِ، "فَقَالَتْ: أَىْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَفَتَأْسَفُ عَلَى مَا أَعَارَكَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْكَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ.." فتنبّه… أنت من أين أتيت بالزوجة؟ من يسّرها؟ أليست له ومنه؟ أبقاها عندك مدة من الزمان، وبعد ذلك قالَ: هات حقي.. تقدر تقول شيء؟ لا إله إلا الله، خرجَ من حُزنهِ، وقد تبَّصرَ فيهِ وأفاقَ ورجعَ إلى رُشدهِ، وعقلهِ، ونفعه هذا الأسلوب الحَسَن من هذهِ المرأةُ الصّالحة، وأخرجته من حالتهِ قالت "فَأَبْصَرَ مَا كَانَ فِيهِ.."، انكشفَ عنهُ غطاءَ الحُزن والغفلة عن حقيقةِ الأمر فتذكرَ الأمر، وقالَ الأمرُ له وأنا بنفسي للّٰهِ وهذا حقُّ الله، ولا اعتراضَ على الله، وعادَ فقابلَ النّاس وخرجَ من احتجابهِ ومن غفلتهِ.
ثم ذكر: "باب ما جاءَ في الاِخْتِفَاء"، والمُرادُ بهِ: نبشُ القبورِ والعياذُ باللّٰهِ تعالى لسرقةِ الأكفانِ ونحوها، كما يُزيّن لبعضِ النّاسِ نُفوسهم وشياطِينهم ما عاد حصّلوا إلاَّ الأموات يُسرقونهم! يرَوَنهم مساكين لا أحدَ لهُم ناصر، لا يقدرون يُدافعون عن أنفسهم في الظّاهر، ما دروا أنَّ لهم ربّ سيُدافعُ عنهم، وسيأخذُ حقهم، فيلجأون إلى الأمواتِ ويحفِرونَ القبور، بعد ما أخفوهم في قُبورهم فيبعثون هذا الأمر المَخفي فسُميّ النَّباشُ مُختفي؛ لأنَّهُ يقصدُ ما أُخفيَ في الأرضِ فيبعثهُ ويبحثُ عليهِ قبرهُ.
قالَ: تقول: "أُمِّ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَن: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُخْتَفِي وَالْمُخْتَفِيَةَ. يَعْنِي نَبَّاشَ الْقُبُورِ" قالَ:
المُختفي، وجاءَ في روايةٍ: "مُحتفي"،
لكنّ الرِّوايات جاءتْ بالمُختفي بالخاء ويقولونَ يعني: نَباشَ القُبور. يقولُ عن عَائِشَةَ -رضي اللّٰه تعالى عنها- "كَانَتْ تَقُولُ: كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيْتاً، كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَىٌّ"؛ يعني: في الحُرمةِ، والإثمِ، والعِقابِ، وإن لم يكن فيهِ قَوَد وقِصاصٌ في الدُّنيا فسيُقتصُ منهُ، لا كسرةٌ واحدةٌ تقعُ لهُ كسراتٍ كثيرة، لو اقتُصّ في الدُّنيا كسرة واحدة، خلاص ما يكون عليه عقاب الآخرة مع التوبة، لكنَّ هذا لا شيء يُجزئ في الدُّنيا، اصبر بعد ذلك يقع لكَ الجزاءُ -والعياذُ باللهِ تعالى- فيُكسرُ كسراتٍ بدل الكسرة الواحدة، جزاءًا لهُ وقَوَدًا في الآخرة؛ ولكنّ في الدُّنيا لا يُؤاخذُ مِنْ جهةِ القَوَد والقِصاص إذا كسرَ عظمَ الميتِ.
ولهذا قالَ أهلُ الفقه واشتهرَ بينهم: يُحترمُ كهوَ حيًّا،
قالَ: "تَقُولُ السَّيدة عَائِشَةَ: كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيْتاً، كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَىٌّ؛ تَعْنِي فِي الإِثْمِ" والعقابِ.
وجاءَ في رواية الإمام أحمدْ وأبي داود عنها أيضًا قالت: "كسرُ عظمِ المت ككسرهِ عظمَ الحيّ"؛ تعني: في الإثمِ، تفسير سيدنا مالك؛ يعني لأنَّهُ لا يكون عليهِ ديّة ولا قَوَد في الدُّنيا، ولكن أين تذهب؟… لهُ ربُّ هذا، كما إذا كسرتَ عظمَ حيوان حتى، لا يجوزُ لكَ كسرُ عظمهِ، ما أحد كسركَ في الدُّنيا اصبر.. هذا الحيوان سيأتي يقولُ خذُ حقي من هذا، لأنّ لها ربّ يحكمُ بينَ عبادهِ، لا إله إلاَّ هو.
فهكذا يتضاعفُ الإثمُ، فعظمُ الميتُ لهُ حُرمة مثلُ حُرمةِ عظمْ الحيّ؛ فكاسِرهُ في الإثمِ ككاسِر عظمُ الحي والعياذُ باللّٰهِ تعالى، فالمؤمن لا يُهانُ ميتًا ولا حيًا. وهكذا وعلى ذلكَ جاءَ بمجموعِ الرِّوايات الإفادة بأنَّهُ يُسَرّ بما يُسرُ بهِ الحي، ويتألمُ بِما يتألمُ بهِ الحي كذلكَ، هذا المِّيت فتتألمُ روحه بما يجري على جسدهِ، وبهذا قالوا إنَّ العذابَ يعمّ الجسدَ والرّوح في القبرِ، ثم في القيامة، أجارنا اللّٰهُ من عذابِ القبرِ، وأجارنا اللّٰهُ من عذابِ الدُّنيا والآخرة إنَّهُ خيرُ مُجير.
ثم يذكرُ لنا الأحاديثَ في الدُّعاءِ عندَ الموتِ والدَّعاءِ للميتِ وأخبار ذلكَ.
رزقنا اللّٰهُ كمالَ حُسنُ الخاتمة وغفرَ لموتانا وأحيانا بمغفرتهِ الواسعة، ورَفعنا درجات قُربهِ الرّافعة، وأعاذنا من شُرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، وجعلَ خيرَ أعمالِنا خواتيمها، وخيرَ أعمارنا أواخرها، وخيرَ أيامنا يوم لقاءهُ، حتى نلقاهُ وهو راضٍ عنّا نحبُ لقاءهُ وهو يحبُ لقاءُنا، ولقَّانا منهُ رَوحًا ومغفرًة وبُشرى، وأعاذنا من الآفاتِ طرًا، وأصلحَ شُؤوننا والمُسلمين سرًّا وجهرًا، بسِرِّ الفاتحة إلى حضرةِ النَّبي محمد ﷺ.
05 جمادى الآخر 1442