(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجنائز، باب النَّهيُ عنِ البُكاء على المَيِّت، وباب الحِسبة في المصيبة.
فجر الأحد 4 جمادى الآخرة 1442هـ.
باب النَّهْىِ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ.
633- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُول: وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لأبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا".
باب الحِسْبَةُ فِي الْمُصِيبَةِ
634 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ".
635 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي النَّضْرِ السَّلَمِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ، إِلاَّ كَانُوا لَهُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ". فَقَالَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: "أَوِ اثْنَانِ".
636 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ أبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصَابُ فِي وَلَدِهِ وَحَامَّتِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لَهُ خَطِيئَةٌ".
الحمدُ لله مُكْرِمنا بالشَّريعة البيِّنة، وبيانها على لسان رسول الله صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه بتقريراته وأقواله وأفعاله الحسنة. اللَّهم أدِّمْ صلواتك على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه ومَن سار في دربه مُخلصًا لك فيما أسرّه وأعلنه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين الذين وهبتهم من الفضل أجلّه وأجمله وأحسنه، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وعبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وقد تقدَّم مما أورد الإمام مالك -عليه رِضوان الله تعالى- في المُوطأ أنواع الشَّهادة وتنوّع الشُّهداء في الأُمة المُحمَّدية، ويواصل الأحاديث في النَّهي عن البُكاء على المَيت؛
وأن الله إنما يُعذب باللسان؛ بما يصحب البُكاء من لطمٍ أو شقٍ للجيوب والثّياب وإلى غير ذلك من مظاهر الجزع والتّبرُّم والاعتراض على قضاء الحيّ القيوم الحاكم جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه. وما عدا ذلك من الرِّقة والرّأفة والرَّحمة ووحشة الفِراق بدمع العين من دون شيءٍ مما ذُكِر؛ فلا تحريم لذلك ولا كراهة فيه. وقد جاءنا قول رسول الله ﷺ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا لفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ -عندما توفي ولده إبراهيم- وإنَّا لفراقك يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. صلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد ورزقنا حُسن مُتابعته.
ومن المعلوم، مكانة المؤمن عند الخَبر سواءً: بوفاةٍ، أو بحدوث حادثٍ، أو بوقوع مرضٍ، أو بفوات غرضٍ إلى غير ذلك. مكانة المؤمن ودور إيمانه في ثباته ورُسوخه، وعدم انزعاجه وتبَلْبُله، وعدم اضطرابه، فإنه يُوقن أنه لا يكون شيء إلا بقُدرة وإرادة وعلم مُدبّر كُلّ شيء، وخالق كُلّ شيء ومن بيده ملكوت كُلّ شيء -جلّ جلالُه وتعالى في عُلاه-. فيجب عليه أن يؤكد معاني إيمانه عند الحوادث، و "إنَّما الصَّبرُ عندَ الصَّدمةِ الأولى"، وأن يَظهر الفرق بينه وبين مَن لا يؤمن، وبين مَن يرى الأسباب كأنها آلهة، وكأنها المُدَبِّرة، وكأنها الفعّالة بذاتها؛ فهذا شأنُهم في كُفرهم وطُغيانهم، وشأن المؤمن أجلّ وأكبّر وأعلى من ذلك.
وكان الواجب على المؤمن مُقابلة هذه الأشياء بما جاءت به الشَّريعة، وبما شرَع له رسول الله ﷺ من:
إلى غير ذلك من السُّنَن والواردات في أمثال هذه النوائب، بعيدًا عن الجزع والتّبرُم والتّضجُر والاعتراض على قضاء الله -تبارك وتعالى-، وعن مظاهر المُفاخرات والمُباهاة التي تكون في بعض الأعراف وبعض البُلدان وبعض الأوقات. فقد جاء بإبطال ما عليه الجاهلية من نياحة ومن ندبٍ، وبإبطال كُلّ ضلالٍ وفسوقٍ كانوا عليه.
وتُخبر عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عن مسألة تعذيب المَيت ببُكاء أهله عليه أو ببُكاء الحيّ على المَيت، ومن المعلوم أنه لا يؤاخذ الإنسان بعمل غيره إلا ما رضيَ به أو سنَّه أو شرَّعه أو دعا إليه، فيكون مؤاخذته بدعوته إليه أو برضاه به وما إلى ذلك، وما عدا ذلك فلا يؤاخذ. فمعنى قول ابن عمر: أنَّ المَيت يُعذب ببكاء الحيّ؛ يتعلق بما يرضى به ذلك المَيت من البُكاء عليه أو يوصي به، خصوصًا إذا كان يُعتاد في منطقته وفي عُرف أهل بلده الاسترسالُ في النّياحة والبُكاء والصُّراخ على الأموات، ثم لا ينهاهم عن ذلك فيرضى به. فإذا فعلوا ذلك، أُخِذَ برضاه بذلك، وعدم نهيه عن هذا أو كان أوصاهم، أوصاهم بفعله؛ فيُعاقب على هذه الوصية المُخالفة للشريعة. ثم بعد ذلك إن نفّذوها؛ فكُل ما نفّذوها زاد عليه العذاب! كما هو الحال مَن سَنّ في الإسلام سُنَّة حسنة، كما هو الحال فيمَن دعا إلى هُدى أو إلى ضلالة، فإنه بدعوته يُعاقب إلى الضّلال، ثم بكُل استجابة له يتجدّد عقابه؛ فكذلك شأن هذا المَيت إذا أوصى بأن يُناح عليه، بالوصية يُعاقب، ثم بكُل امتثال لها ممَن بعده يتجدّد عليه العقاب، فلا إشكال.
قال: كيف تقولون إنما يُعذب إذا أوصى بفعله؟ وهو إنما يُعذب بمُجرد الوصية امتثلوا أو لم يمتثلوا. نقول له: عذابٌ على وصيته، ثم كُلّما عُمِل بوصيته فله عذاب نظير ما جاءنا في الأحاديث: أنَّ مَن دلّ على هُدى فعُمِل به، له كُل ما عُمِل به؛ فبدلالته ثواب ثم كُل ما عُمِل بمقتضى هذه الدّلالة يتجدّد له الثّواب. وإذا دلّ على معصية أو على مُخالفة للشرع؛ بدلالته عليه عقاب ثم كُل ما عُمِل بها، كما قال ﷺ: "... كانَ عليهِ وزرُها، ومثلُ وزرِ مَن عملَ بِها مِن غيرِ أن ينقُصَ من أوزارِهِم شيءٌ"؛ يكون عليه من آثامهم؛ بمعنى أنه يتجدد له الإثمُ كُلَّما عُمِل. فكذلك صاحب الوصية.
ولم يُعذّب ببُكاء أهله *** إلا إذا أوصاهُمُ بفعله
وكذلك ما كان يُعتاد في الجاهلية من ذِكر الشّمائل، كان كذا ثم يُبالغون ويَكذِبون. قال: وإن الملائكة تَنهزُه في قبره، تقول: أنت كذا؟ أنت كُنت هكذا؟ فيُعذِّبونه هذا كُله إن رضيَ فعلهم أو أوصى به. فإذا لم يكُن شيءٌ من ذلك؛ فلا يُعذب خصوصًا إذا جعل كما يجعل الأخيار في وصاياهم، وإن كان في بلدان لا يُعتاد فيها النّياحة، ولكن مع ذلك يذكُرون في وصاياهم أنه بريء ممَن ناح عليه أو ممَن صاح أو ممَن جزع بعد موته، وأنه يدعوهم إلى الصَّبر والاحتمال والرِّضى، وأنه بريءٌ ممَن فعل شيء من ذلك، فإثمه عليه؛ فهذا لا يلحقه شيءٌ مما يفعله من بعده إذا فعلوا شيءٌ من هذه المنهيات لأنه أدى واجبه بينه وبين الله -سُبحانه وتعالى- واستنفد ما يلزمه وما يتوجه عليه.
وهكذا يقول لمّا ذُكِر للسّيِّدة "عَائِشَةَ أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يقول: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ"، فنفت السّيِّدة عَائِشَةَ أن يكون الكلام على ظاهره في كُلّ من يبكى عليه أنه يُعذب بذلك البُكاء، وقالت بعد ذلك: "يَغْفِرُ اللَّهُ لأبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، فكان من حُسْنِ مورد خطابها وكلامها، أن قدّمت المغفرة على أن تُقدم العُذر له في نسبته إلى النِّسيان أو إلى الخطأ، فقالت: "يَغْفِرُ اللَّهُ لأبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، ثم ذكرت: "أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ"؛ أي أنه لم بكذاب، ولا يقصد الكذب ولا يتعمَّد الكذب فحاشاه من ذلك، "وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ، نَسِيَ" أصل الحديث "أَوْ أَخْطَأَ" في فهمه، هكذا رأت.
ولكن يمكن الجمع بين ما قال ابن عُمَر وما قالت السّيِّدة عائشة بما أجمع عليه العُلماء أن المُراد بالبُكاء يُعذّب المَيت البكاء بصوت والنّياحة لا مُجرد دمع العين، وأنه إن رضي بذلك أو أوصى به، فإن لم يكن ذلك فالأمر كما قالت عائشة، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر:18] كما ذكر القُرآن ولا تعارُض في ذلك. وقد ضربنا المثال بما ذكر ﷺ فيمَن دلّ على هُدى ومَن دلّ على ضلالة، والأمر في هذا واضح، وأنه عند امتثالهم لأمره يُعذّب غير التّعذيب الذي يُعذّب به على أنه أوصى أو أنه رضي، ثم كلّما نُفِّذت وصيته تضاعف عليه العذاب كما يتضاعف العذاب على مَن دلّ على ضلالة كلّما عُمِل بتلك الضّلالة، ويتضاعف الثّواب لكل مَن دلّ على هُدى كلّما عُمِل بذلك الهُدى فله أجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقُص من أجورهم شيئًا.
والحديث جاءنا أيضًا في الصّحيحين وغيرهما فكان تأويل الجُمهور للحديث بأنه مَن أوصى بأن يُبكى عليه. وجاءنا أيضًا حديث أنس أن عُمَر -رضي الله عنه- قال:أَمَا سمعت رسول الله ﷺ يَقُولُ " الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ"؟ في قبره؛ يعني الذي يعولون عليه و ينيحون عليه. وجاء في لفظٍ أيضًا في الصّحيحين: "مَن نِيحَ عليه فَإنَّه يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عليه يوم القيامة". فجاء في عدد من الرِّوايات. فإذًا لا تعارُض بين الآية وبين هذه الأحاديث:
ولمَّا أُصيب عُمَر دخل صُهيب يبكي ويقول: وا أخاه وا صاحباه. فقال عمر: يا صُهيب أتبكي عليّ! وقال ﷺ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهله عليه". وجاء أن ابن عُمَر شَهِد جنازة رافع بن خليل، قال: أن رافعًا شيخٌ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه.
ولم يُعذّب ببُكاء أهله *** إلا إذا أوصاهُمُ بفعله
وجاء في حديث النُّعمان بن بشير قال: أُغمي على عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- فجعلت أخته تبكي تقول: واجبلاه وكذا، وحين أفاق قال: ما قُلْتِ شيء إلا قيل لي، أنتَ كذلك؟ لا اله الا الله… وكذلك جاء في رواية البُخاري عن سيّدنا عُمَر: أنّ المَيت يعذب بالنياحة عليه في قبره، وفصّلوا بين أيامه في القبر ويوم القيامة، ويقولون: أنه ما يُعذّب بنياحتهم ولا بفعل غيره في القيامة.
وعلى كُل حال، مع تعدّد الأقوال، ترجع إلى ما أشرنا إليه من أنه تجتمع شملها عند القول: بأنه لا يُعذب إلا بالوصية أو الرِّضى لمَن كان معتادًا ذلك في بلاده وحال أهله وأقاربه.
ثم ذكر لنا في باب الْحِسْبَةِ فِي الْمُصِيبَةِ؛ يعني: الاحتساب وطلب الأجر من الله تعالى بالصّبر والتّسليم، وهو أن يطلب الأجر فيصبر ويستسلم ويُسلِّم، ولا يجزع ولا يضجر ولا يقول إلا ما يُرضي ربَّه جلَّ جلاله.
يقول: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، ذكر أو أُنثى "ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ"، فيدخل في هذا الأب والأُم لأحد من المُسلمين الأب والأُم، "مِنَ الْوَلَدِ" سواء كانوا ذُكورًا أو إناثًا. "لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ"؛ أي يُسلَّم من النَّار بصبره على فقد أولاده، "إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" وذلك بالمرور على الصِّراط (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ..)، هذا القسم (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ..) [مريم:71-72]؛ فلا يرد على النَّار "إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" بالمرور على الصِّراط فقط؛ فلا نصيب له من النَّار إذا احتسب في وفاة ثلاثة من أولاده.
وفي الرِّواية التي تأتي أيضًا أو ذكرت أنه قالت: "أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَانِ" صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. وهذا من مظاهر رحمة الله فيما يُصيب المؤمنين حتى يترتب عليه ثوابٌ كبيرٌ عظيم مثل أن لا تمسّه النَّار بصبره على فقد ولده. وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل وغيره: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ، قالت: يا رسول الله، ادعو الله لي في ابنٍ لي بالبركة فإنه قد توفي له ثلاثة، فقال: أمِنْذ أسلمتِ؟ قالت: نعم، فقال: "لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ". وجاء في رواية النَّسائي: "ثلاثةٌ من صُلبه" في حديث سيِّدنا أنس. وهناك عند أهل العِلم بحثٌ في ولد الولد إذا مات عليه؛ ليس ولده من صلبه مباشرة، بل ولد الولد، هل يدخلون أو لا؟ وجعل بعضهم قوله: "من صُلبه"؛ دلالة على إخراج ولد البنت؛ لأنه من صُلب غيره، فيصير ولده، وأولاد أبناؤه، ويُنسبون إلى صُلبه؛ "ثلاثة من صُلبه".
وجاء أيضًا: "لم يبلغوا الحِنْث"؛ أي: قبل بلوغهم في أيام صِباهم؛ "فلا تمسُّه النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ"، فيه قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)؛ وذلك بالمرور فوقها للمؤمنين، فإذا مرّوا كان لهم من معونة الله سُبحانه وتعالى ما يدفع عنهم شرّها وحرّها وضرّها وكلالِيبها وما إلى ذلك.
وجاء في صحيح مُسلم أن حفصة -رضي الله عنها- قالت للنّبي لمّا قال: "لا يدخل أحدٌ شهد الحُديبية النّار"؛ البيعة تحت الشّجرة؛ وحضر هُناك بعض المُنافقين فذهب بعيد ما بايع، والذين بايعوا هُم الذين ما يدخُلون النّار. فقالت السِّيدة حفصة للنبي: أليس يقول الله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ..)؟ فقال: أليس الله تعالى يقول: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا..).
وفيه: أيضًا دلالة واضحة على:
لمّا مات لبعض الصَّحابة ولد؛ فوجد عليه، فقال ﷺ: " ألا يسرك أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك؟" فيه أنهم يستَفتحون أبواب الجنَّة لآبائهم. حتى ورد في السِّقط، أنه يُؤمر به إلى الجنَّة فيقول: لا، حتى يدخُلها أبواي، فيُقال: ادخل أنت وأبواك الجنَّة، خذ معك الأب والأم.
يأتون بماء من ماء الجنَّة ويبحثون عن آبائهم ويسقونهم، وهذا فضائل مَن مات عليه ولد في الصِّبا.
وألّف السُّيوطي: (برد الأكباد بفقد الأولاد)، وجمع الأحاديث التي فيها ثواب مَن فقد أحد من الأولاد وتوفي عليه؛ فيجد بذلك مُكافأة كبيرة من قِبَل الحقِّ -سبحانه وتعالى- فضلًا من الله -تبارك وتعالى- يتفضلَّ على عباده، وإلا الأمر له فيهم وفي آبائهم وفي أُمهاتهم، يُمِيت مَن يشاء ويُحيي مَن يشاء، صِغار وكُبار، الأمر له ما لأحد حقّ في اعتراض ولا في تقديم ولا تأخير، ولكنه بما رّكب فيهم من أحزان وتأثُرات أثابهم على ذلك؛ فالأمر كُلّه له جلّ جلالُه وتعالى في عُلاه.
"لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ، إِلاَّ كَانُوا لَهُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ"؛ وقاية وحاجب وحرز من النَّار، "فَقَالَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَانِ". فاستخرجت المرأة من رسول الله ﷺ سِعة رحمة الله لمَن لم يكُن له ثلاثة ولكن اثنان، قال لها: "أَوِ اثْنَانِ" صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
بل جاء في رِوايةٍ ذكر الواحد، واختلفوا فيه ممَن مات له واحد. والإمام البُخاري يُعنون: (باب فضل مَن مات له ولد)، ما ذكر العدد في العنوان. كأنه يُشير إلى روايات فيها ليست على شرطه وفيها ذكر الواحد. "من مات له ولد ..."؛ يشمل الولد الواحد أو الاثنين أو الثَّلاثة والأكثر، ولكن جاء مُصرّحًا في روايات بقيد ثلاثة أو بقيد اثنين.
لكن جاء في بعض طُرق الحديث أيضًا كما جاء عن جابر بن سَمرة يقول رسول الله ﷺ: مَن دفن ثلاثة فصبر، قالت أُم أيمن: أو اثنين؟ قال: أو اثنين، قالت: وواحد؟ فسكت، ثم قال: وواحد، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. كما جاء في رواية الطَّبراني في الأوسط. وجاء في رواية أُخرى عند النَّسائي وابن حِبَّان عن أنس: عن المرأة التي قالت أو اثنان؟ قال: يا ليتني قُلت و واحد، هذه المرأة الأُخرى -غير أُم أيمن-، يا ليتني قُلت و واحد. وروى أحمد من ناحية جابر ورفعه قال: مَن مات له ثلاثة الحديث… قُلنا: أو اثنان؟ قال: أو اثنان. قال: قُلت جابر أراكم لو قُلتم أو واحد؟ قال: وواحد. قال: وأنا أظن ذلك. اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله.
وجاء أيضًا في حديث البُخاري يقول الله -عزَّ وجلّ-: "ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ"؛ يُكافئه بالجنّة وهذا يؤيد حديث وواحد. "ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ". وجاء في رواية الإمام أحمد عن مُعاذ قال: ما من مُسلميْن يتوفى لهما ثلاثة من الولد… بعد ذلك قالوا: أو واحد؟. "مَن مات له ولد فصبر واحتسب قيل ادخل الجنَّة بفضل ما أخذنا منك". ولذا جاء عن أبي سَلَمة أيضًا مرفوعًا: بخٍ بخٍ لخمس ما أثقلهن في الميزان.. والولد الصَّالح يتوفى للمرء فيحتسبُه؛ ثقيلة في الميزان.
وكان بعض مَن رتب على نفسه ترك التَّزويج، رأى أنه في القيامة وعنده عطشٌ شديد، ورأى أطفال يسقون، فقال لواحد: أعطنا، قال: أنت لست أبي، إنما نسقي آباءنا. فأصبح الصَّباح وغيّر قراره؛ تزوج عسى يأتي ولد وبعد ذلك يسقينا يوم القيامة إذا مات عليه وهو صغير.
قال: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصَابُ"؛ أي: يُختبر من الله تعالى بالإثابة والابتلاء "فِي وَلَدِهِ وَحَامَّتِهِ"، وهذا أوسع من أن يكون بموت الولد أو بحصول الأمراض أيضًا عليه أو أي شيء يشُقّ عليه في ولده؛ فيحتسب ويصبر. "وَحَامَّتِهِ"؛ يعني: قرابته وخاصّته، جمع حميم، "وَحَامَّتِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لَهُ خَطِيئَةٌ"؛ أي: يُكفَّر ذنوبه بسبب هذه الإصابات التي يُختبر بها وهو يصبر، فلا يبقى له ولا ذنب واحد؛ فيموت يوم يموت ولا ذنب عليه. "مَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصَابُ فِي وَلَدِهِ وَحَامَّتِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَتْ لَهُ خَطِيئَةٌ"،
الحاصل المؤمن رابح، إذا صَدَق في إيمانه؛ كُلّ شيء له يرجع له خير.
○ قال الله سُبحانه وتقدّس: "إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ"؛ المُراد بالحبيبتين: العينين، هذا لمن ابتُليَ بالعمى.
○ يقول أُمية: ثم سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله عز وجل: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) [البقرة:284]. (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [النساء:123]. قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله ﷺ، قالت: "هذهِ معاتبةُ اللهِ العبدَ بما يُصيبُهُ مِن الحُمَّى والنَّكْبَةِ حتَّى البِضاعةُ يضعُها في يدِ قميصِهِ فيفقِدُها فيفزعُ لها، حتَّى إنَّ العبدَ ليخرجُ مِن ذنوبِهِ كما يخرجُ التِّبْرُ الأحمرُ من الكيرِ".
○ وجاء في رواية الإمام أحمد والإمام أبي داود عن النّبي ﷺ: "إنَّ العبدَ إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ"؛ يعني: عند الله في الجنَّة "فلم يبلُغْها بعملٍ؛ ابتلاه اللهُ في جسدِه أو مالِه أو في ولدِه ، ثم صبّره على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقتْ له من اللهِ عزَّ وجلَّ".
حتى ذكر بعض أهل العلم: أن بعض الأخيار وبعض الصَّالحين قد يشّتد عليه النّزع عند الموت، قال: والسَّبب أن الله كتب له درجة لم يبلغها بشيء من عمله؛ فيُشدد عليه في النّزع حتى يكون هذا سبب لبلوغ تلك الدرجة. وقال سيِّدنا علي في إجراء الجَّبَّار بحكمته الأقدار: لو اطلعتم على الغيب؛ لو انكشف لكم الغيب، لم تختاروا إلا الواقع؛ لأنه ما أحد أحسن منه مُدَّبِر ولا مُقدِّر -جلَّ جلاله-، فكُل شيء بسِرّ وبحكمة يقضيه. هو أعلم بها منها ما ينتهي إليه علم العِباد، ومَنها ما لا ينتهي أصلًا، منهم ما يعلمونه بعضهم في الحياة، وبعضهم عند موته وبعضهم بعد موته، وبعضهم في البرزخ، وبعضهم في القيامة يعلم حكمة فيما جرى له، وبعضهم في الجنَّة، وفيها ما لم يعلمونه (.. وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ ..) [البقرة:255].
فسُبحان المُقدّر المُدَبّر، المُسير المُصوّر، المُقدم المؤخر، الرَّافع الخافض، المُعطي المانع، الحيُّ القيوم، الحكيم العليم. آمنّا به ورضينا بقضائه وقدره، ونسأله اللُّطف بنا وبالأُمة فيما تجري به المقادير في جميع الأمور في البُطون والظُهور بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
04 جمادى الآخر 1442