(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، تتمة باب وُضُوء النائم إذا قام إلى الصلاة، وباب الطهور للوضوء.
فجر السبت 13 ذي القعدة 1441هـ.
باب وُضُوءِ النَّائِمِ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ
45 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ رُعَافٍ، وَلاَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ قَيْحٍ يَسِيلُ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ يَتَوَضَّأُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ دُبُرٍ، أَوْ نَوْمٍ.
46 - وحدثني عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنَامُ جَالِساً، ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ.
باب الطَّهُورِ لِلْوُضُوءِ
47 - حدثني يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ, عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ, مِنْ آلِ بَنِى الأَزْرَقِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أبِي بُرْدَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُه".
الحمدُ للهِ مُكْرِمِنا بدينه القويم وشريعته الغرّاء، وصلى الله وسلّم على عبدِه المُبَلِّغ عنه، خيرِ الورى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن سار في سبيلِهم وجرى بمجراهم خير مجرى، و على آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذُرى، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.
يذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المُتعلّقة بالوضوء. وكان وقفنا في شرح قبْلَ باب الطُهور في الوضوء على قوله: قال يحيى: قال مالكٌ: "الأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ رُعَافٍ، وَلاَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ قَيْحٍ يَسِيلُ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ يَتَوَضَّأُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَر" أو غيره "أو نَوْمٍ". وهذا كلام الإمام مالك عمَّا يَنْقُض الوضوء، فقال: "الأَمْرُ عِنْدَنَا"، يعني: المعمول به في المدينة "أَنَّهُ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ رُعَافٍ"، خروج الدم من الأنف، "وَلاَ مِنْ دَمٍ"، يخرج من الجسد ومن حجامة وفصد وما إلى ذلك. مُشيرًا إلى من قال بأن ذلك ينقض الوضوء.
إذًا فالخلافُ قائم فيما يكونُ سببًا للحَدَث ويبطُل به الوضوء. فأمَّا ما خرج مِنْ أحدِ السبيلين القُبُل والدُبُر مُعتادًا كان كالبول والغائط والريح والمني والمذي والودي ودم الحيض أو دم النفاس، أوغير المعتاد مثل دم الاستحاضة وغير ذلك، فذلك كُلُه يَنقُضُ الوضوء كما عَلِمنا عِندَ الحنفية. وعَلِمنا قول المالكية الخارج المعتاد من المخرج المعتاد ينقض الوضوء لا حصى ولا دودة وما إلى ذلك مما لا يُعتاد.
ويقول الشافعية ينتقض الوضوء بخروج شيءٍ مِنْ قُبُله أو دُبُره عينًا كان أو ريحًا، طاهرًا أو نجسًا، جافًا أو رطبًا، مُعتادًا أو نادرًا، خرج طوعًا أو كرهًا، كلُّ ذلك ينقض الوضوء؛ إلا المني، فقال الشافعية: إنَّهُ يُوجِب الغُسل ولو كان صاحِبُه مُتوضًأ، كمَنْ كان نائمًا مُتمكّنًا فاحتلم في نومه، فإنَّه عندهم متوضئٌ ولكنْ عليه جنابة، فيجب عليه الغُسل دون الوضوء، وهذا عند الشافعية: أنَّ المَنيَّ مادام يُوجب أكبر الأمرين فلا يُوجب أصغرهما؛ يُوجب الغسل فلا يُوجب الوضوء. وهو عندهم أيضًا طاهر، وخالفهم بعض الأئمة في نقض الوضوء به وفي أنَّه نَجس.
كذلك يقول الحنابلة: الخارج مِنَ السبيلين قليل كان أو كثير، نادر كان أو معتاد، كلُّ ذلك ينقض الوضوء. وكذلك عندهم فيما يُوافقون به مذهب الحنفية من خروج النجاسات مِنْ بقيةِ البدن، والنجاسات الخارجة مِنْ غيرِ السبيلين كالقيء والدم والقيح ودونَ الجراح، يقول عندهم: قليلُها عند الحنابلة لا يَنقُضْ والكثيرُ مِنها يَنقُضْ. وأمَّا ما كان مِنَ المُعتاد أو من أحد السبيلين فالقليل والكثير فيه سواء؛ يَنْقُض الوضوء.
فعَلِمْت إطلاق الشافعية نقض الوضوء بأي خارج مِنْ أحد السبيلين، وعدم النقض بما سوى ذلك ممّا يَخرُج مِنَ الأنف كالرعاف، أو من الفم كالقيء وغيره، وكذلك الفصد والحجامة وما إلى ذلك، فلا ينقُضْ الوضوء شيء مِنْ هذا عندهم -عند الشافعية- وإنما ينقُض الوضوء الخارج مِنْ أحد السبيلين.
قال ابنُ عباس: "إنْما الصوم مما دخل، وإنْما الوضوء مِمَّا خرج". يقول أنَّ ما دخل إلى الجوفِ يُبْطِل الصوم، وما خرج مِنْهُ يُبطِل الوضوء. بهذا عَلِمنا ما الذي يَنْقُض الوضوء مِنَ الخارج مِنَ الإنسان مِنَ السبيلين أو مِنَ النجاسات إن خرجت مِنْ غير السبيلين، وهو عند الشافعية يُسنّ منها الوضوء خروجًا مِنَ الخلاف. فيُسنّ الوضوء مِنَ الحِجامة، ومِنَ الفصد، ومِنَ الرُعاف، وهكذا. وكذلك ما يُسمى بالقلَسْ دون القيء عند الحنفية، إذا كان يملأ الفم فهو ينقُض الوضوء، وإنْ كان أقل مِنْ ذلك لا ينقُض الوضوء.
كما علِمْت مذهب الحنابلة: أنَّ ما كان مِنَ السبيلين ينقُض الوضوء قليلُه وكثيرُه، وما كان مِنْ غير ذلك فالكثيرُ مِنْه ينقُض الوضوء، والقليلُ لا ينقُض الوضوء. فَخروج قطرة مِنَ الدم ونحوه لا تنقُض الوضوء. وإذا كانت حجامة أو فصد ينقُض الوضوء، هذا عند الحنابلة.
عَلِمنا ذلك وختم الباب السابق بحديث ابن عمر: أنْه "كَانَ يَنَامُ جَالِساً، ثُمَّ يُصَلِّي وَلاَ يَتَوَضَّأُ". وقد تقدّم الكلام معنا في قول علماء الإسلام عن النقض بالنوم، وما الذي ينقُض مِنَ النوم وما الذي لا ينقُض، وهذا نومه كان جالسًا مُتمكّنًا فلا ينتَقِض وضوؤه عند عامة أهل العلم معلوم.
ويذكر في باب الطَهور للوُضُوء، يعني: الماء الطهور الذي يتطهّر به ويصُحُ به الوضوء. فيذكُر لنا حديث سؤاله ﷺ فيما يروي أبي هريرة، أنه جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: "يا رسولَ اللهِ، إنَّا نَركَبُ البَحرَ ونَحمِل معنا القَليلَ من الماءِ،" ونمكث في البحر أيامًا حتى نصل إلى المقصد الذي نتوجّه إليه، يقول: "فإنْ تَوضَّأْنا به عَطِشْنا"؛ تعرّضنا للعطش وماء البحر ما يُشرب، "أفنَتوَضَّأُ بماءِ البَحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: "هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه"."
وبذلك أجمع الأئمة الأربعة ومَنْ سِواهم في جواز الوضوء و حِلِّه مِنْ ماء البحر. فيُتَوضأ مِنْ ماء البحر، ويُغتَسل مِنْ ماء البحر، فيُرفَع الحدث مِنْ ماء البحر. وما رُوي عن بعض أهل القرن الأول من كراهة ذلك مردودٌ بالنص في ذلك. ولمَّا سُئِل ابنُ عباس عن الوضوء من ماء البحر قال: هُما البحران مِنْ أيِّهما شئت توضأ؛ يُشير إلى قوله: (هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ..) [فاطر :12]. الكلُّ واحد، توضأ مِنْ هذا أو من هذا، هُما البحران، مِنْ أيِّهما توضأت أجزأك. فأجاب عليه: "هوالطَهور ماؤه" الطَهور: الطاهر في نفسه، المُطهّر لغيره. طَهورٌ؛ طاهر في نفسه، مُطهّر لغيره، "هو الطَّهورُ ماؤُه".
وأفاده إفادة أخرى غير ما سأل عنه، عنْ أنَّ ميتة البحر حلال، "الحِلُّ مَيتَتُه". وبذلك قال الشافعية: أنًّ كلُّ ما لا يعيش إلا في الماء لو أُخرِج منه لمات، فهو حلالٌ أكله مِنْ كُلَّ حيوان لا يعيش إلا في البحر، وفي ذلك بعد خلاف يأتي معنا في باب الصيد وغيره وفي شي مِنَ الأبواب المقبلة.
يقول: "هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه"، كما جاء في الحديث الآخر: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ ودمان.."؛ السمك والجراد. فماؤه طاهر وميْتَتُه حلال. فإذًا يتركون الماء العذب لشُربهم و يتوضؤون مِنَ البحر. "الطَّهورُ ماؤُه"، طهورٌ وصف مبالغة، طاهر في نفسه ومُطهّر لغيره؛ يتكرر الطُهور به. "الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه". قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48].، وقال في آية أُخرى: (لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ) [الأنفال:11]. ومِنْهُ الجنابة للمحتلم فيغتسِل بهذا الماء، (وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلْأَقْدَامَ) [الأنفال:11]، قال في المطر الذي أَنْزل عليهم: (وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ) [الأنفال:11]. فأفادَه النبي فائدة غير ما سأل عنه، وكذلك يحرص المُعلم والداعي إلى الله أنْ يذكر للمستفيد والمستفتي ما يحتاج إليه مِنَ المسائل حرصًا على فقهه في الدين.
حتى قال سيدنا عمر رضي الله عنه : "مَنْ لَم يُطهِّرهُ ماء البحر، فلا طَهره الله". لأنَّه ماء باقٍ على أصل خِلقَته فجائز به، ولهذا قال الشافعية: الماءُ الطهور، ما نزلَ مِنَ السماء أو ما نبع مِنَ الأرض على أصل خِلقَته فهو الطَهور. ومعلومٌ رُكُوبُهمُ البحر المالح الذي كان هناك؛ ولكنَّ الحُكمُ واحد بين البحر المالح والعذب. ويقولُ: "الحِلُّ -أي: الحلالُ- مِيْتَتُهُ"، عَرَفَ اشتباه الأمر على السائل في ماءِ البحر، أشفق أنْ يشتَبه عليه حُكم مِيْتَتِهُ. وقد يُبتلى بها راكب البحر فعقّب ﷺ الجواب عن سؤاله ببيان حُكم المَيْتة.
وينتقل بنا إلى طهارة الحيوانات -غير الخنزير باتفاق، وغير الكلب عند جمهور الأئمة- ما دامت حيَّة، وأنَّها لا تُنَجِّس الماء إذا ولغت فيه. يأتي إن شاء الله معنا.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفَنا بالكرامة، ووهبنا حسن الائتمام بسيّد أهل الإمامة، والاقتداء به، ورفعنا مراتب قُربه، وحقّقنا بحقائق حُبّه، وسقانا مِنْ شُربه، وهو راضٍ عنّا، في لطفٍ وعافية وتمكينٍ مكين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
14 ذو القِعدة 1441